بين المراكز والأطراف
ماذا نعرف عن ثقافة الصومال وجيبوتي وجزر القمر؟ آخر تحديث:السبت ,11/07/2009
القاهرة، دمشق، بيروت - “الخليج الثقافي”:
1/1
نور الدين فارح روائي صومالي يكتب باللغة الإنجليزية و”يقال” إنه مرشح لجائزة نوبل للآداب، ولقد وضعنا “يقال” بين مزدوجين للتعبير عن أسفنا، فنحن لا نعرف شيئاً عن هذا الروائي، والمعرفة هنا لا يجب التعامل معها بقدرة هذا الباحث أو ذاك القارئ على الاطلاع على أعمال فارح وغيره، ولكننا نعني بالمعرفة تلك العملية الشاملة التي تمتد لتدرك البيئة الاجتماعية والخلفية الثقافية التي أفرزت فارح، وهي ملاحظة تدفعنا لنسأل ماذا نعرف عن الثقافة العربية في بلدان كالصومال وجيبوتي وجزر القمر وبدرجة ما موريتانيا؟
يقول أحد المشاركين في هذا التحقيق إن إعلامنا الثقافي لديه ولع خاص باللهاث وراء أي كاتب لاجئ أو منشق أو خارج على السياق، ولكنه لا يلتفت الى أطراف الثقافة العربية، وبمزيد من المرارة نلاحظ ثانياً أن المسألة لا تقتصر على التعرف الى الثقافة ولكنها تمتد الى الجغرافيا والتاريخ أيضاً، فهذه البلدان هي جغرافيات شبه مجهولة لنا. وفي أحد برامج قناة “الجزيرة” الفضائية تم سؤال رئيس جمهورية جزر القمر عما إذا كان يغضب لعدم معرفة الكثير من العرب أن بلاده تنتمي الى الوطن العربي، أكد الرئيس أن بلاده عربية وتنتظر أن يتعرف “الآخر” العربي إليها. وفي هذا التحقيق اقتربنا من أبعاد وتجليات هذه القضية.
يقول الدكتور عبدالمنعم تليمة: عندما أسس العرب المحدثون أول وعاء سياسي تنظيمي سنة 1945 باسم جامعة الدول العربية كان العرب إذ ذاك في سبع دول هي التي نالت استقلالها وانضمت الى المنظمة الناشئة الجديدة (الأمم المتحدة) وهذه الدول هي مصر والعراق والسعودية واليمن وسوريا ولبنان والأردن وهي نفسها التي أعلنت الحرب في مايو/ أيار 1948 على العصابات الصهيونية وبعد ذلك استقلت دول عربية أخرى وانضمت إلى الجامعة ولكن العرب منذ نشأة جامعتهم حتى يومنا هذا انشغلوا في المعارك الساخنة ضد العدو الصهيوني ثم في العدوان على العراق.
ويتابع د. تليمة: هذا التاريخ جعل جهودهم مشتتة في معرفة أشقائهم خصوصا من الدول الإسلامية غير العربية ولا تزال المعارك تستهلك معظم الجهد العربي لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة للمسلمين غير العرب، والمسلمين العرب من الأطراف، حيث يعرفون الإسلام معرفة دقيقة ومنهم نخب تدرس العربية وعلومها، بل إن منهم من يتفوق في جوهر الإبداع العربي، فهناك شعراء يبدعون باللغة العربية في تركيا وإيران وباكستان والهند وبنجلاديش وماليزيا وإندونيسيا إلى جانب العرب التقليديين في غرب إفريقيا في موريتانيا والسنغال وبنين وفي القرن الإفريقي كالصومال وجيبوتي وجزر القمر.
لدي تجربة شخصية، فقد عشت في الشرق الأقصى أكثر من عشر سنوات وكلما اجتازت طائرتي مطار دبي حيث يعتبر كل ما وراء دبي مسلمين غير عرب كانوا يستقبلونني استقبال الأئمة لأنني من بلد الأزهر، وعندما يعلمون أنني أستاذ للغة العربية والعلوم الإسلامية يقدمونني لإمامة المصلين. فالعرب الأطراف لديهم شغف وولع بالمعرفة والثقافة العربية والإسلامية وفيهم نخب على درجة عالية من الوعي والاختصاص في علوم العربية والشريعة الإسلامية.
اليوم أصبح عدد الدول الأعضاء في الجامعة العربية 22 عضوا وقد أصابنا القلق لما يحدث من حروب أهلية في داخل الصومال وجرائم القرصنة على شواطئها كما نلمس سعي دولة مثل جزر القمر لتوثيق عرى التواصل مع الوطن العربي وأصبحنا كعرب نتابع الملفات الساخنة المحيطة بنا كالتطورات الأخيرة في إيران والدور التركي في المنطقة والنهضة الماليزية كما نتابع بشغف التجربة الديمقراطية في موريتانيا والتفاعل بين اللغة الأمازيغية والبربرية من جانب والعربية من جانب آخر في بلاد المغرب العربي، وهناك خطوات ملموسة لكسر العزلة الثقافية التي أقامها الاستعمار بين البلدان العربية، كما ساهمت وسائل التكنولوجيا الحديث في سهولة الاتصال بين أجزاء الوطن العربي المترامية الأطراف.
نموذج جاد
أما الدكتور الطاهر مكي أستاذ الدراسات الأدبية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة فيرى أن الاستعمار الغربي كان مسيطرا على كل مناطق الوطن العربي ويحول دون الاتصال بينها بل كان يحول في الاتصال بين أجزاء الدولة الواحدة، فكان أهل السودان في الشمال ممنوعين من الذهاب إلى أشقائهم في جنوب السودان.
يقول د. مكي: كنا ونحن طلاب في عهد الاحتلال الإنجليزي ندرس اللغة الإنجليزية وجغرافيا أوروبا وأمريكا ولا نعرف شيئا عن الصومال وموريتانيا ولا عن المسلمين في تنزانيا وإثيوبيا ولا عن زنجبار التي كانت دولة عربية ثم انحسرت الثقافة العربية فيها نتيجة سيطرة الاستعمار الغربي من ناحية والإهمال العربي لها من ناحية أخرى، كما لم يكن هناك تواصل مع المسلمين في نيجيريا وانكمش الدور الثقافي لمصر نتيجة انشغالها بمقاومة الاستعمار الإنجليزي أولا، ثم الصهيوني ثانيا وجاءت الضربة القاصمة في عهد السادات حيث حدثت قطيعة بين مصر والوطن العربي عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد فانقطع التواصل الثقافي تماما.
ويوضح د.مكي أن هناك بارقة أمل في ما قامت به جامعة الإمام محمد بن سعود في السعودية حيث لعبت الجامعة دوراً عظيماً في نشر الثقافة العربية في دول الأطراف ودراسات متخصصة عن الثقافة في بلدان مثل الصومال وجيبوتي وموريتانيا وجزر القمر كما امتدت تلك الدراسات إلى دول إسلامية أخرى مثل تركيا وأوزبكستان، ولكن هناك عقبة وحيدة وهي أن الجامعة لا تحاول نشر هذه الكتب خارج المملكة العربية السعودية وهذه الكتب في حاجة إلى من يذهب إلى هناك ويبحث عنها. أما دور مصر في هذا المجال فضئيل للغاية خاصة أن معهد الدراسات الإفريقية عندنا كان يجب أن يكون في المقدمة ولكنه لا يكاد يجد من يهتم به. كما أن إمكانات جامعة الأزهر في دراسة آداب هذه الدول محدودة للغاية وليس له نشاط إيجابي يذكر في هذا الجانب، وستظل جامعة محمد بن سعود في الرياض المنارة الهادية لآداب كل هذه الشعوب الإسلامية.
إن أبناء هذه البلدان عندما يأتون للدراسة في مصر وخاصة الأزهر لا نعطيهم هامشا من حرية الحركة وعندما قاموا بثورة ضد الاستعمار في بلادهم قمنا بترحيلهم إلى أوطانهم لمنعهم من التظاهر في شوارع القاهرة.
ويضرب مكي مثال بموريتانيا ويتابع: موريتانيا بلد المليون شاعر وهم شعراء مجيدون ولا نعرفهم وعندما يأتي طلاب هذا البلد للدراسة بالقاهرة يخضعون للتحريات والمراقبة الأمنية وعندما يوافق الأمن على إقامتهم يكون قد مر ستة أشهر وتكون الأموال قد نفدت من الطالب ناهيك عن المصروفات الدراسية المرتفعة التي تبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني، مما يدفع الطلاب إلى مغادرة القاهرة إلى باريس التي هي أرخص بطبيعة الحال.
تقصير
ويرى د.يوسف نوفل أن أمد تجاهل الأطراف في مجال الإبداع العربي قد طال بسبب الانشغال بعواصم الثقافة العربية، بالرغم من أن هذه الأطراف قامت بدور كبير جدا في نهضة الأدب العربي، فمثلا كان هناك مركز ثقافي في الهند لعب الدور الأساسي في التنوير الثقافي، حيث كانت مدينة كالكتا في تلك الأزمان البعيدة مركزا للثقافة العربية الواردة من مصر والعراق والشام ومن ثم تصل المطبوعة والدورية والكتاب إلى دول الخليج عن طريق كالكتا ومن بينها مجلة “الرسالة” لأحمد حسن الزيات، وهناك شعراء كبار وأدباء موهوبون في الخليج هاجروا واستوطنوا هذه الأطراف مثل الشاعر البحريني إبراهيم العريض الذي ولد أساسا مع أسرته في بومباي في الهند ثم عاد بعد ذلك إلى وطنه البحرين.
وفي جيبوتي والصومال هناك مبدعون متحققون ولكنهم لم يظفروا بمثل ما ظفرت به موريتانيا من الشيوع والانتشار ومن أشهر الشعراء في موريتانيا أذكر: أبابة بن أحمد، وأبوه بن الأسياد، والتقي بن الشيخ، وخاطري بن خاطري وغيرهم. وفي إندونيسيا هناك شعراء يكتبون بالعربية ومن أبرزهم الشاعر الإندونيسي عبدالله بن نوح الذي جمع شعره الدكتور مصطفى السعدني تحت عنوان “عاشق المحيط والجبل” وطبعه في الإسكندرية عام 1991.
وللأسف هناك تقصير من الباحثين العرب في الاطلاع على ثقافة الأطراف لأن هذا يحتاج إلى تمويل للسفر إلى هذه البلاد من أجل إعداد الدراسات وتسجيل الرسائل العلمية.
وهناك تقصير من جانب الجامعة العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وينبغي أن تكون قضية التواصل مع الأطراف في مقدمة أولوياتهما، فضلاً عن تخصيص ميزانيات مالية لهذا الغرض.
ثبات
يقول الناقد محمد دكروب: رغم انتشار وسائط الاتصال الحديثة كالفضائيات والانترنت، إلا أن المعادلة التي حكمت مسألة علاقة ثقافة المراكز بثقافة الأطراف لا تزال تعمل وفق المبدأ ذاته والصلاحية ذاتها. والقصد هنا هو المراكز التقليدية التي تتمثل في عواصم ثقافية أربع هي: بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة. صحيح أن هذه العلاقة شهدت بعض التطورات والانعطافات، إلا أن الصورة العامة لم تتغير كثيراً، برغم أن بعض بلدان الأطراف غادرت المكان الذي كانت فيه، وصارت أقرب إلى بلدان المراكز، إلا أن العواصم الأربع لا تزال تحتفظ بصدارتها ومركزيتها. ولا شك أن هذه المعادلة كانت قائمة على أسس صائبة إلى حد ما. ففي المراكز الأربعة بدأت بذور النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بينما كانت معظم الأطراف لا تزال غير متشكلة ككيانات سياسية وثقافية، بالاضافة إلى ذلك، فالحداثة الشعرية والروائية والتشكيلية ظهرت بوادرها وإرهاصاتها الأولى في هذه العواصم. وعلى الطرف الآخر كانت هناك تجارب وأسماء في الجزائر والمغرب والسودان، ولكنها ظلت تجارب فردية متفرقة، فضلاً عن أن وصولها إلى القارئ في المراكز الأربعة جرى عبر تبنّي أعمال هؤلاء ونشرها في المراكز. وفي هذا السياق، علينا أن لا ننسى أن دور النشر لعبت دوراً مفصلياً وأساسياً في تقريب ثقافة الأطراف من المراكز. كان على الكاتب العربي في الأطراف أن يجد طريقة لإصدار كتابه في أحد المراكز لكي يحصل على بقعة يقف فيها تحت الضوء.
وبحسب هذه المعادلة، يمكن القول إن الأطراف اليوم باتت تتمثل ببلدان أبعد من بلدان الأطراف السابقة. والسؤال المطروح حول مدى معرفتنا بثقافة الأطراف صار يخص دولاً مثل: الصومال وجزر القمر وجيبوتي وموريتانيا... رغم أن الأخيرة وضعها أفضل بكثير من الثلاث الأخريات. من وجهة نظري، أعتقد أن الصورة مختلفة قليلاً عما كان سائداً في السابق، فهذه الدول (باستثناء موريتانيا إلى حد ما) كانت علاقاتها، ولا تزال، رجراجة بالوطن العربي العربي. نحن نعرف أن الصومال بلد عربي وكذلك جيبوتي وجزر القمر، ولكننا عملياً نكاد لا نعرف شيئاً عنها، ليس عن ثقافاتها المحلية فحسب، بل حتى عن أنماط الحياة الاجتماعية السائدة فيها. وأعتقد أن العوامل التي تعوق معرفتنا بما يحدث من ثقافة في هذه الدول ليست هي نفسها التي كانت تعوق معرفتنا بما كان يحدث في دول الأطراف السابقة. الوضع مختلف هنا. في السابق كانت هناك بعض الصلات بين المراكز والأطراف. اليوم لا نجد أي محاولة جادة ومبرمجة لتقريب المسافة بين هذه الأطراف وبين المراكز. ليست هناك محاولات على المستوى الرسمي ولا على مستوى المبادرات الفردية. والواقع أنني لا أعرف ما إذا كان الكتاب والشعراء والمثقفون عموماً في البلدان الطرفية المذكورة لديهم أيضاً مثل هذه المحاولات. يخطر للمرء أحياناً أن الجانبين لا يقومان بما هو مطلوب في مثل هذه الحالة.
الكتاب وأدواره
يقول الناشر رياض نجيب الريس: أعتقد أن الطريقة الأفضل للحديث هو هذه القضية يكون من خلال الكتاب، فهو الوسيلة الأكثر نجاعة في التقريب بين الثقافات. الكتاب هو الذي جعلنا نعرف عن الثقافات الأوروربية والأمريكية والآسيوية والافريقية، وأنا أتحدث هنا عن الترجمة، أكثر مما نعرف عن الأقطار العربية في الأطراف. لا أريد أن أخوض هنا في الترجمة، ولكنها تصلح كمثال على العمل الجبار الذي تقوم به الكتب في التبادل الثقافي وتقريب العوالم والحضارات المختلفة وبناء الجسور بين الضفاف المتباعدة. لنعترف أولاً أن المراكز الثقافية العربية التقليدية لديها نوع من التباهي المصحوب بالكثير من التجاهل والتبخيس لثقافات الأطراف. كان هذا سائداً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد ساهم النشر في التعريف بعدد كبير من الكتاب والمثقفين المنتمين إلى الأطراف، ولكن هؤلاء قُدموا إلى قراء المراكز من خلال إما تبني أعمالهم وإما بقدوم بعض هؤلاء أنفسهم للعيش والاقامة في المراكز. أتذكر أن دور نشر لبنانية وسورية ومصرية لعبت دوراً رائداً في هذا المجال. لنتذكر أن أسماء مثل أبو القاسم الشابي (تونس) والطيب صالح ومحمد الفيتوري (السودان) ومحمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين (الجزائر) ما كانت لتجد بنفسها مكاناً إلى جوار أقرانهم من الكتاب العرب لولا حركة النشر النشيطة في المراكز. ويمكننا أن نعتمد المقياس ذاته في السنوات اللاحقة، فنتذكر مثلاً أسماء مثل قاسم حداد (البحرين) وعبد الله الغذامي (السعودية) واسماعيل فهد اسماعيل (الكويت) ومحمد شكري (المغرب) والطاهر وطار (الجزائر)... هؤلاء طُبعت أعمالهم في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة. بالنسبة لدول مثل الصومال وجيبوتي وجزر القمر، أظن أن الأمر مختلف قليلاً. السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا هو: أين المواهب الموجدودة في تلك البلدان؟ هل توجد حركة ثقافية؟ هل توجد صحافة ومطابع ودور نشر كافية؟. للأسف معظم الأخبار التي تصلنا من هناك هي أخبار عن الحروب والانقلابات المزمنة. أظن أن الوضع في موريتانيا أفضل، ولكن رغم ذلك تكاد معلوماتنا عن ثقافة هذا البلد لا تتجاوز مقولة أنه “بلد المليون شاعر”. طبعاً هناك مبالغة كبيرة في هذه المقولة، إذْ إننا لو حاولنا فالأرجح أننا لن نتذكر سوى اسم الشاعر أحمد ولد عبد القادر والروائي موسى ولد ابنو الذي عرفناه مؤخراً عبر نشر روايتين له في بيروت. من الصومال وصلنا اسم الروائي نور الدين فارح، الذي قيل إنه مرشح لجائزة نوبل، ولكن عبر الترجمات فهو يكتب باللغة الانكليزية. وهناك شاعرة من جيبوتي اسمها شريفة العلوي... سوى ذلك، يصعب الحديث عن حضور ثقافي وأدبي لتلك الأقطار في عواصم الثقافة العربية التقليدية. ومن قبيل السخرية، يمكن القول إن المواطن أو القارئ العربي لا يتذكر دولاً مثل جيبوتي والصومال وجزر القمر إلا في مؤتمرات القمة العربية، حيث يحضر ممثلو تلك الدول ويغادرون من دون أن تكون لهم كلمة مؤثرة في القرارات التي تصدر عن تلك القمم. أظن أن الثقافة تعيش الإهمال ذاته. فنحن لا تعرف إن كان هناك كتاب أو شعراء يمكن أن تُطبع أعمالهم في بيروت أو القاهرة ويكون لها قدرة على جذب القارئ وتعريفه بأجزاء وجغرافيات عربية شبه مجهولة بالنسبة إليه.
وتعبر الكاتبة السورية كلاديس مطر عن استغرابها لهذا النوع من القطيعة وتقول: من الملفت ان يُختزل الوطن العربي اليوم في عقولنا، إلى مناطق ثقافية معينة، وأن يتبدى الحراك المعرفي في الدول القادرة اقتصاديا وإعلاميا على إيصال معارفها وفنونها إلى العالم كله، والتي سمح استقرارها السياسي لأجواء المعرفة الثقافية من التنامي والتفاعل، بينما بقيت دولاً أخرى سميت “دول الأطراف” بعيدة عن بؤرة الضوء وعن أسباب ابتعادنا عن ثقافات دول الأطراف تقول مطر: إما بسبب عجزها الاقتصادي والحضاري وانشغالها في حروب تحريرية أو دينية، أو بسبب تعدد لهجاتها ولغاتها واقتراب تراثها المعرفي من بيئات لا تلتقي كثيرا مع مواصفات المجتمع العربي بأبعاده الحالية. كل هذا ربما جعل من الاهتمام بالواقع الثقافي في هذه الدول ترفا لا تقدر عليه، ولكن مطر ترى هذا البعد سببا جوهريا في ازدهار الأدب في تلك الدول فتقول: بسبب هذه التحديات التي ذكرتها برعت أجناس أدبية بعينها في كل دولة من تلك الدول (جيبوتي، الصومال، اريتريا، موريتانيا، جزر القمر) بينما خبت أجناس أخرى.فمثلا، يعتبر الشعر طاغيا أكثر في الصومال، إذ يذكر النائب والباحث الصومالي محمد الأمين محمد الهادي في تعريف له عن الشعر الصومالي، أن القافية على سبيل المثال في الشعر الصومالي تختلف اختلافا كاملا عن الشعر العربي، فالقافية تكون في بداية الكلمات، فإذا بدأت بحرف فينبغي أن تبدأ معظم الكلمات بنفس ذلك الحرف. ولكن في الشعر الساحلي البراوي أو الباجوني تسير القافية على نظام القافية العربية وإن كانت على شكل رباعيات أو خماسيات، وهو يلحق بالأدب السواحيلي وليس الصومالي. أما القصة القصيرة والأقصوصة والرواية المكتوبة فتعتبر فنا حديثا في هذا البلد يتغذى من التراث الشفاهي المروي ولاسيما بعد كتابة اللغة الصومالية وأبرز من ألف فيه محمد طاهر ونور الدين فارح الذي ينشر بالإنجليزية وتترجم أعماله إلى لغات العالم، وإبراهيم هَود).
وتضيف مطر: أما أول رواية ظهرت في موريتانيا فكانت في عام 1981 بعنوان “الأسماء المتغيرة” للروائي الموريتاني أحمد ولد عبد القادر وتبدو هذه الرواية ذات دلالة زمنية ومكانية مرتبطة بالموروث الاجتماعي الموريتاني, المرتبط بالتطور النضالي لموريتانيا في فترة الاستقلال وبعدها بقليل. وتلقي مطر باللوم على وسائل الإعلام فتقول: الحق، من أين لنا أن نعرف بكل هذا إن كانت وسائل إعلامنا القادرة لا تنقل سوى أخبار الحروب والمجاعات والثورات في “دول الأطراف” هذه. إن مكتباتنا فارغة من أعمال هذه الدول الإبداعية، كما أن إعلامنا يذهب إلى أقاصي المعمورة لكي يحظى بحوار مع كاتب لاجئ أو فنانة اعتزلت فجأة بينما يهمل كليا هذا البعد المعرفي والثقافي لهذه الدول التي تعتبر “عربية”.
المستقبل للاندماج
أما الباحث فاضل الربيعي فيعتقد أنه أمر طبيعي مرتبط بتطور الثقافات المحلية فيقول: لو أن صحافياً أوروبياً سأل والت ويتمان، أعظم شعراء أمريكا (في القرن الماضي) عمّا يعرف من “ثقافة” وإبداع الملونين في الساحل الشمالي الشرقي الأمريكي، لأجاب ببساطة أنه لا يعرف أي شيء حقيقي. هل لمثل هذا السؤال، إذا ما طرح في صيغة مماثلة على المثقفين العرب أي نوع من الأهمية على مستوى قياس درجة ونوع وطبيعة تواصلهم مع الثقافات الأخرى في الوطن العربي؟ بكل تأكيد: كلا،ذلك أن المسألة لا تتعلق بالمثقفين بل بظروف التطور التاريخي للثقافات المحلية. ويرى الربيعي أنها حالة تطور طبيعية تشهدها المجتمعات بشكل عام مستشهدا بثقافات الولايات المتحدة ويقول: إن الثقافات المحلية (ثقافات الأطراف) في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، تطلبت الكثير من الوقت والمستلزمات والظروف، لعبور الحقبة الكولونيالية البريطانية من أجل التعبير عن خصوصيتها ودرجة تمايزها عن ثقافات المركز. ومنذ سنوات قليلة فقط، ومع تعاظم أشكال الترابط الثقافي بين الولايات، اكتشف الأمريكيون أن ثمة ثقافة إسبانية عظيمة في هذا الساحل، تبدع أدباً يمتاز بقدرته المذهلة على إنتاج نصوص بلهجات محلية شبه ميتة.
ويسقط الربيعي هذا المثال على واقع الوطن العربي بقوله: الأمر ذاته ينطبق اليوم على العلاقة الثقافية بين المركز والأطراف في العالم العربي، حيث تبزغ الحقيقة التالية:إن القطيعة الثقافية بين العواصم الثقافية العربية الكبرى مثل القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، و”الدول الطرفية”، بما فيها بلدان المغرب العربي، ليست ناجمة عن ازدراء المثقفين أو عزوفهم عن معرفة ما يدور هناك؛ بل عن خلل بنيوي أملته ظروف القطيعة الاستعمارية الطويلة. لقد تطورت ثقافات الأطراف كثقافات “وطنية” شديدة الانشغال بالمحلي وهو أمر لعبت فيه ظروف النضال الوطني دوراً فاعلاً في ما كانت ثقافات المركز تتطور وتنتشر في الأفق القومي مع صعود حركة القومية العربية. وهكذا، فقد راحت الأطراف خلال الحقبة الاستعمارية ثم خلال سنوات التحرر تروي عطشها من معارف المشرق العربي، ولكن من دون أن تتمكن من شق طريقها إلى قلب العواصم الثقافية الكبرى. وهكذا أيضا، بدت ثقافة المركز وكأنها ابتعدت كثيراً عن الأطراف، في ما ثقافة الأطراف تبدو وكأنها لن تصل إليه أبدا.
وعن نظرته للوضع المستقبلي للتواصل الثقافي يقول الربيعي: إن جهلنا بما يدور هناك، ليس ناجماً عن رغبتنا، ولا عن هيمنة ثقافية قوية على ثقافات ضعيفة؛ بل عن خلل في التعرّف. وقد يتطلب الأمر عقوداً كاملة من البحث والتواصل، قبل أن نكتشف مثل الأمريكيين القيمة الحقيقية “للخزان الثقافي” في الساحل. وفي عصر يتجه فيه العالم بأسره نحو أشكال غير مسبوقة من الترابط الثقافي، قد لا تكون هناك وفي المستقبل المنظور، أي أهمية لمثل هذا السؤال، ذلك أن الثقافات الطرفية آخذة في الاندماج أكثر فأكثر.
أما د. ماجد أبو ماضي فيفصل في الحديث عن ثقافة كل من تلك الدول فيرى أن الأدب في موريتانيا مازال بحاجة إلى دعم ورعاية كبيرين حتى ينافس الآداب العربية الأخرى ويقول: لا نستطيع أن نسم هذه الثقافة بهوية محددة، لأنها تستند إلى العشائرية والقبلية، وهذا ينعكس على ثقافة المجتمع والحياة الموريتانية.. صحيح أن موريتانيا هي بلد المليون شاعر، لكنهم موزعون على المحاور الاجتماعية والناطقة باسم القبيلة أو العشيرة... كل هذا يشير إلى ضرورة الاهتمام بالمثقف الحقيقي أكثر، فالمعايير ليست قريبة من المواصفات التي يتميز بها المثقف، وهنا أؤكد على ضرورة دعم المثقفين وتهيئة الظروف المناسبة لإظهار إبداعاتهم ورفع سويتهم وعدم تهميشهم.. بل يجب دعمهم ليأخذوا دورهم في تطوير المجتمع الموريتاني لكي يصبح بمقدوره مواجهة الثقافات الأخرى التي تسعى إلى التغلغل فيه... وهذا لا يعني أن يتقوقع المثقف ويعيش منعزلا في برج عاجي بل عليه أن يطلع على تلك الثقافات؛ بشرط ألا تطغى تلك الثقافات على ثقافته وألا تطبع تلك الثقافات الثقافة الموريتانية بطابعها بحيث تبعدها عن هويتها الأصلية والأصيلة.
ويتابع أبو ماضي أن الأوضاع السياسية في الصومال هي التي تعيق تطور الثقافة ومختلف نواحي الحياة التعليمية والأديبة وبالتالي هي السبب الرئيسي الذي يجعل من ثقافة الصومال بعيدة عن الثقافات العربية الأخرى: فالشعب الصومالي يسعى إلى تطوير الثقافة والنهوض والارتقاء بها أكثر مما هي عليه، لكن وجود النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي يربك هذا التطور؛ لأن ما يجري على أرض الصومال.. لا يهدد الحياة الثقافية فحسب بل يهدد كل مناحي الحياة التعليمية والاقتصادية والتجارية حتى العمرانية... لذلك لابد من وضع حلول جذرية لما يحصل... لإحياء الثقافة العربية والإسلامية الراسخة الآن بعد أن سيطرت الثقافة الغربية التي كانت موجودة منذ أكثر من قرن، والمحور الثقافي السائد حاليا في الصومال على ضعفه يتجه نحو التعبير عن الثقافة باللغة العربية.. هذه اللغة هي التي كانت مستخدمة قبل القرن العشرين والتي حاول النفوذ الأجنبي إقصائها عن الصومال بدليل وجود آلاف المخطوطات المكتوبة باللغة العربية؛ وهذا يدل على مدى ارتباط الثقافة الصومالية قديما بالمجتمع العربي وهو الآن يعود إلى سابق عهده هذا في إحياء اللغة العربية وجعلها لغة التعبير عن الأفكار والرؤى والدراسات الفكرية والثقافية والتعليمية في الصومال.
أما جيبوتي فقد حققت تطورا كبيرا في إطار الخروج من الثقافة الغربية والاتجاه نحو العربية وما من شك أن الثقافة التي كانت سائدة وبخاصة قبل أربعة عقود في جيبوتي هي الثقافة الغربية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص، ولكن في الفترة الأخيرة وبعد الاهتمام بالثقافة العربية عبر الاهتمام باللغة العربية بدا هناك تحول في الثقافة الجيبوتية، وبدأ المثقفون يهتمون بهذه الثقافة وبدأت الثقافة القديمة بالانحسار، والشيء المهم أن الثقافة العربية بدأت تتعمق في الحياة في جيبوتي وأصبح المناصرون لها في تزايد والمؤيدون في تصاعد والمناهضون للثقافة الغربية في ازدياد... والملحوظ أنه في الفترة الأخيرة نمت تلك الثقافة العربية والإسلامية وعقدت مؤتمرات وندوات تهدف إلى فتح قنوات تواصل مع جميع الأطراف للحوار في ما بينها، وبذلك نستخلص أن جمهورية جيبوتي استطاعت الخروج من ثقافة أجنبية إلى ثقافة إسلامية عربية.
وعن الثقافة العربية في جزر القمر يقول أبو ماضي: المجتمع القمري مترابط ومتمسك بالدين الإسلامي، وهناك اهتمام بتعليم الأجيال القرآن واللغة العربية من خلال العناية بالدروس في المساجد والمدارس التي تشرف عليها الهيئات الخيرية والمعاهد الإسلامية؛ وهنا تظهر الثقافة ولو بشكل محدود، أما في بقية مناحي الحياة فنجد أن اللغة السائدة في المكاتبات والتعليم هي الفرنسية، الأمر الذي يؤدي إلى طغيان الثقافة والعادات الفرنسية فيها، ومن سوء الطالع أنه لا توجد محاولات رسمية لنشر اللغة العربية بشكل واسع لإحلالها محل اللغة الفرنسية بحيث تصبح لغة المراسلات.. والتعبير عن الثقافة العربية؛ وبخاصة أن جزر القمر تعيش في وضع اقتصادي حرج، والشعب القمري يعاني من الفقر فهو يبحث دائما عن تحسين الوضع الاقتصادي أكثر من بحثه عن تطوير ثقافته.
علامات استفهام
يقول الناشر رياض الريس السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا هو: أين المواهب الموجدودة في تلك البلدان؟ هل توجد حركة ثقافية؟ هل توجد صحافة ومطابع ودور نشر كافية؟. للأسف معظم الأخبار التي تصلنا من هناك هي أخبار عن الحروب والانقلابات المزمنة. أظن أن الوضع في موريتانيا أفضل، ولكن رغم ذلك تكاد معلوماتنا عن ثقافة هذا البلد لا تتجاوز مقولة أنه “بلد المليون شاعر”. طبعاً هناك مبالغة كبيرة في هذه المقولة، إذْ إننا لو حاولنا فالأرجح أننا لن نتذكر سوى اسم الشاعر أحمد ولد عبد القادر والروائي موسى ولد ابنو
انحسار
يقول د. الطاهر مكي: كنا ونحن طلاب في عهد الاحتلال الإنجليزي ندرس اللغة الإنجليزية وجغرافيا أوروبا وأمريكا ولا نعرف شيئا عن الصومال وموريتانيا ولا عن المسلمين في تنزانيا وإثيوبيا ولا عن زنجبار التي كانت دولة عربية ثم انحسرت الثقافة العربية فيها نتيجة سيطرة الاستعمار الغربي من ناحية والإهمال العربي لها من ناحية أخرى، كما لم يكن هناك تواصل مع المسلمين في نيجيريا وانكمش الدور الثقافي لمصر نتيجة انشغالها بمقاومة الاستعمار الإنجليزي أولا، ثم الصهيوني ثانيا وجاءت الضربة القاصمة في عهد السادات حيث حدثت قطيعة بين مصر والوطن العربي عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد فانقطع التواصل الثقافي تماما.
إمتداد
يقول الناقد محمد دكروب: رغم انتشار وسائط الاتصال الحديثة كالفضائيات والانترنت، إلا أن المعادلة التي حكمت مسألة علاقة ثقافة المراكز بثقافة الأطراف لا تزال تعمل وفق المبدأ ذاته والصلاحية ذاتها. والقصد هنا هو المراكز التقليدية التي تتمثل في عواصم ثقافية أربع هي: بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة. صحيح أن هذه العلاقة شهدت بعض التطورات والانعطافات، إلا أن الصورة العامة لم تتغير كثيراً، برغم أن بعض بلدان الأطراف غادرت المكان الذي كانت فيه، وصارت أقرب إلى بلدان المراكز، إلا أن العواصم الأربع لا تزال تحتفظ بصدارتها ومركزيتها.