أسامة حِلّسْ..
قصة قصيرة
بقلم( محمد فتحي المقداد)*
كثيراً ما تكون أحلامنا وبالاً على حياتنا, بما لها من انعكاسات الطموحات, ويبدو أن أحلامنا خلقت فقط.. لا لتتحقق.. هكذا يبدو.. وأحلام الطموحات نوع متهوّرٌ يجلب الكثير من المتاعب على الطامح المتطلع.
وهناك أحلام بسيطة, لا تتعدى نهمة البطن وشهوة الفرج, هذا النوع مُرتكِسٌ في حمأته المسنونة, واهنٌ لا يقوى على التطلع لأكثر من ذلك, وهو ديدن الأكثرية التي توهمت السعادة بملء بطنها وإخماد حيوانيتها الشهوانية.
أما ما لا يتحقق من أحلامنا في واقعنا فإنه ينتقل معنا ليعاقرنا في منامنا, تقصر معه المسافات, ويتوقف الزمن أمامه, منطلق لأعلى القمم لا حدود له, حرٌّ في اختيار ما يحلو له.
وقد أوى إلى فراشه ذات ليلة, وهو يحمل على عاتقه هموماً كثيرة, ومقارعة الجنود الصهاينة, فرأى فيما يرى النائم خيراً, أن شخصاً أخبره أنه في المشفى شهيد, اذهب وتعرّف عليه, فإن أحداً لم يعرفه.
قام أسامة من نومه وحمد الله, وانطلق من بيته الكائن في حي الزيتون في غزة, مشياً على الأقدام إلى المشفى, وبعد نصف ساعة وصل, وقد تعرّق جبينه وبدا التعب على وجهه, ولكن الهمّة العالية في تصديق الرؤيا, جعله يسابق ظلّه ويُسرّع خطاه, غير آبهٍ بحرارة الشمس الحارقة.
توقّف أمام ثلاّجة الموتى..
وطافت به أمنياته التي طالما راودته, في نيل الشهادة في سبيل الله, ملتحقاً بركب شهداء الثورة الفلسطينية, الذين أرخصوا أرواحهم ودماءهم من أجل ذلك الهدف السامي.
مدّ يده كاشفاً الشرشف عن وجه الشهيد..
ضحك وسخر من نفسه.. الوجه وجهه .. والجسم جسمه..
عاد من سكرته يتلمس جسده الحي .. وكأنه تخلّف عن رَكْبِ الأبرار الذين سبقوه يا سبحان الله..!!
كيف أكون شهيداً, وأنا ما زلت على قيد الحياة..
ساورته الشكوك أن يكون هو ذلك الجسد المسجّى..
طلب المساعدة من القائمين على الثلاجة, واستفسر عن ذلك الشهيد..
قيل له: إنه أسامة حِلّس.
رفع رأسه للسماء, وكأنه يطلب من الله بتحقيق حلمه.. ويتمتم بكلمات كان الصعب معرفتها لمن يقف بجواره.. وينتظر أن يسمع منه شيئاً.. بينما طال تطلعه للأعلى يطلب ويتمنى.. بهمس لا يكاد يتجاوز شفتيه.
انطلق مسرعاً, بعد أن ودّع مشرف الثلاجة.. انتظرني قريباً سأعود إليك بإذن الله, أنا بانتظارك يا أخي .
بَخٍ .. بَخٍ ..
بئست من حياة طويلة..
طويلة جداً.. كأنها دهور ثقيلة..
طويلة جداً .. وكأن دولاب الزمان توقف..
جمدَ الكلام على لسانه..
وتيبست شفتاه.. كأنها حطبة مجذوذة من سنين بعيدة.
عاد وتطلّع للأعلى من جديد.. انشرح صدره وبان البِشْر على تقاطيع وجهه الملائكي, وتكلل بابتسامة عجيبة.. مليئة بتلك المعاني الغامضة التي لا تجد تفسيراً وكأن روحه استقرّت.. وهدأ نبض قلبه المحزون..
يبدو أن الجواب اليقين.. قد كان .. وقد كان..
هيّا يا أخوة أسرعوا في الإعداد.. لقد مللت الانتظار.
لواعج أحلامه تنازعه سرعة الوصول..
نور سماوي يضيء الوجه بمسحة قلّما تجدها في وجوه الكثيرين.
مسحةٌ من آمن بسلامة طريقه ونهجه, للوصول لغايته بأنظف و أنصع السبل, التي دأب جلّ حياته في السعي إليها.
كمينً على أطراف غزّة.. دورية إسرائيلية مؤللة .. يشتبكون معها.. قتال شرس لا يَدَعُ مجالاً للالتقاط الأنفاس.. المعنويات عالية وازدادت علواً.. التكبير يتعالى على مقتل معظم أفراد الدورية.
تأتي الطائرات لإنقاذ ما تبقى من الكلاب.. تصبّ جام حممها على المكان.. يتعالى الغبار ليصنع هالة كما هيروشيما.. وتتطاير الشظايا بكل اتجاه.. تتراجع مجموعة أسامة عن مواقعها.. لأماكن أكثر أمناً من غضب الطائرات, وهم يحملون شهيدهم الوحيد أسامة, ليدخلونه الثلاجة في مشفى الشفاء.
صعدت روحه وهي تعانق أشواقها .. طال انتظار السماء لمثل تلك الأرواح, التي كانت تستجعل أمنيتها في الوصول.. ها قد تحققت الأحلام والأماني.
تلاقى الجسدان.. جسد الرؤيا في المنام, وجسد صاحبه الحقيقي, وانطبقا في صفحة واحدة بعد اللقاء الأمنية.
زغاريد بزفاف أسامة..
تهاني و تبريكات..
شموخ وفخار يسيطر على خيمة العزاء..
الحمد لله الذي شرفني بشهادته, لمثل هذا اليوم أعددته, إن شاء يكون لنا شفيعاً يوم نلقاه في جنة الخلد.. لو أن لي مائة ابن لجعلتهم على طريق أسامة.. هذا ما كانت تردده أمه على سمع أهل غزة جميعاً.
وقفت الخنساء, بعد أن هرمت وفقدت بصرها.. أمام الخشبة التي صلب عليها ابنها عبدالله بن الزبير.. على يد الظالم الحجاج .. وقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل. وكانت من قبل تبث فيه روح الحماس, بمواصلة قتال الظلمة مادام موقن بأنه على الحق.
سلسلة الخنساء متجددة بتجدد قضيانا العادلة..
أمهات استلهمن الخنساء وصبرها على ابنها, وهي التي بكت صخراً أخوها حتى عميت ..
أعينيّ جودا ولا تجمدا.. ألا تبكيان لصخر الندى
-------------------------- انتهى
بصرى الشام
12 \ 8 \ 2012م