عنزة ولو طار.!"
كان جدّي "طيّب الله ثراه وثرى أجدادكم" رجلاً طيباً بسيطاً، تقيّاً ورعاً، زاهداً عابداً، قانعاً راضياً، لم يضع لفافة بين إصبعيه طيلة حياته، ولم يجلس في مقهى، لا يعرف لعبات الورق، ولا النرد، ولا الشطرنج، أميناً صادقاً، وكان فوق ذلك كلّه عفيف النفس، طيب المعشر، ودوداً، ووقوراً، وحكيماً..
حياته تجري بهدوء في دوائر محدودة بين متجرّه وبيته والمسجد القريب، ومعاصر وأشجار الزيتون الكثيرة التي كان يملكها على أراضي بعض القرى القريبة من عكا.
كنّا صغاراً، وكم كانت فرحتنا عظيمة ونحن ننتظر عودته من المسجد بعد صلاة العشاء، يجلس على أريكته المفضّلة في صدر بهو البيت الكبير، يرشف من كأس الشاي بتلذذ، ويمسح لحيته البيضاء براحة يده، ينظر بعينيه الصغيرتين في وجوهنا المتلهّفة لسماع حكاياته.
أخوتي الثلاثة، وأنا أصغرهم، نجلس حوله، نتمسح بعباءته المشمشية، ونطرب لطرقات حبّات سبّحته الزيتونية.
في ذلك المساء، ولأول مرّة، يلكزني أخي الأوسط ويهمس في أذني:
ـ سيحكي لنا حكاية.
ويبتسم بخبث.
ولما لم يصل له مني رد فعل، يهمس ثانية:
ـ سترى كيف يكون حريصاً على توصيل معلومة مفيدة لنا..
يتنحنح جدّي، يبسمل، ويعتدل في مجلسه:
ـ إياكم ومرافقة الحمقى، فإنهم أقرب إلى السفهاء.!
تبادلنا نظرات متسائلة، فتابع:
ـ الأحمق لا يسمع إلا صوت نفسه، والحوار معه ضرب من ضروب العبث، فإياكم مرافقة أو الحوار مع أحمق سفيه..
نظر في وجوهنا الصغيرة، كأنه يدرك أننا لم نفهم من كلماته شيئاً، تنحنح ثانية، وركن السبّحة في حضنه، وقال:
ـ كنت برفقة رجل عرفت لاحقاً أنه أحمق سفيه ونحن في الطريق إلى معصرة الحاج عبد السميع، وكان علينا أن نجتاز أرضاً سهلاً لنصل إلى التل الذي تقوم على جانبه الآخر تلك المعصرة، ونتبادل أحاديث عامة، عندما أشار إلى شيء أسود في بطن السهل، وقال:
ـ هل ترى ذلك الشيء الأسود وسط النباتات القصيرة الخضراء.؟
قلت:
ـ نعم، إنّه غراب..
ضحك بسخرية وقال لي:
ـ بل هي عنزة يا غبيّ..
قلت له وأنا أشير إلى ذلك الأسود:
ـ بل هو غراب..
وكلما اقتربنا من ذلك الشيء، يتوضّح لنا شكل الغراب أكثر فأكثر، لكن صديقي الأحمق يصرّ على أنها عنزة، ولما اقتربنا كثيراً، أحسَّ الغراب بوقع خطواتنا، فطار.
نظرت إلى صديقي وأنا أبتسم منتصراً، لكنه شدّني من يدي بعنف وقال بعصبية بالغة:
ـ بل هي عنزة.. ولو طار.