الزِلزَالُ يُحرِّض البَحرَ
سيد أحمد: أنا لم أعد أفكرفي صيد الأسماك.. ولن أذهب إلى البحربعد اليوم أبدا..
رياض: لماذا كل هذا الإصراروالتأكيد على معاداة البحر؟ ألم يكن صديقا لك؟
سيد أحمد: بلى، ولكن أما رأيت أو سمعت ما جرى أمس به وفيه؟
رياض : ماذا جرى به وفيه؟ قل..هيا.. خف
سيد أحمد استمع جيدا.. وستعرف ما جرى بالتفصيل.
البارحة في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء، السادس والعشرين من شهرسبتمبر2006 م، الموافق للثالث من شهررمضان سنة 1427هـ..بسيدي فرج، غرب الجزائر العاصمة .
رياض: يا صاحبي.. أراك تحدد التاريخ والموقع، والساعة، وكأنك ضابط شرطة قضائية يريد كشف ملابسات قضية جنائية.
سيد أحمد: طبعا، إنها أكبرمن قضية جنائية، ستعرف ذلك بعد قليل.
رياض: ماذا جرى في ذلك الموقع وفي ذلك الوقت بالذات؟ هيا أحكِ.. (ازرع ينبت..) لم استطع فهم ما تقصده؟
سيد أحمد: لقد اهتزت الأرض.. وزلزلت زلزالها.. ومن رحمة رب بنا، أنها لم تُخرج أثقالها.. ولم يقل.. الصائمون والفاطرون: مالها ؟.. ولم يبحث أحد من هؤلاء عن جواب لها..لأن الكل يدرك أن الله أوحى لها..
في غفلة من الزمن كان سكان المنطقة منهمكين في تناول طعام الإفطار..إفطار اليوم الثالث من شهررمضان 1427هـ
في هذه اللحظات التي عادة ما يفقد الناس فيها الإحساس بالزمن بحكم تركيزحواسهم على ما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات..تناطحت صحون ذلك الإفطاروكؤوس مشروباته من فوق الموائد في حركة عشوائية لا اتجاه لها ، وذهل الناس ..ماذا ؟ ماهذا ؟ إنه .. إنه الزلزال .. يا لطيف
حرك البحرمياهه، وعلت في صخب أمواجه، مرتطمة في غضب شديد برصيف الميناء، فأحدثت هلعا كبيرا في نفوس أولئك السكان المقيمين في الفنادق المقابلة لذلك الرصيف السياحي ـ والذي اعتاد السياح التحلق حوله ومشاهدة حركات البهلوانيين والمهرجين ـ
ـ فتصادمت كل السفن التي كانت ترسو على رصيفه، وحطم بعضها جزءا من البعض الآخر، وعلا صراخ بعض الرجال والأطفال، وسمع عويل النساء بالبيوت... قالت مريم ،المعروفة بذعرها وخوفها الشديدين من البحر:
( يا للهول...يا للهول..
قال أحد المارة: لا تخافي يا ابنتي.. لا شيء ..لاشيء.
مريم: نحن لا نخشى الزلزال..يا عماه .. فقد تعودنا على هزاته،وارتداداته، الخوف كل الخوف، من البحر..إننا نخشى " التسونامي "..)
وهنا تدخل رؤوف ذلك الشاب العنيد، هاوي السباحة، والمختص بالغوص في أعماق البحار، والدارس للبيئة البحرية:
يا.. شوف شوف يا خو شوف.. ها هي الأسماك التي كنا نبحث عنها طوال الأيام والشهور والسنوات الماضية، ملقاة على الرصيف وعلى سفن النزهة..ماذا وقع لها؟ وكيف خرجت من أعماق البحر؟
سيد أحمد: لقد ألقى البحر من جراء الزلزال بكل ثقله على أرصفة الميناء، ثم تقهقر بسرعة عجيبة، تاركا وراءه كميات ضخمة من الأسماك، على اختلاف أحجامها وأنواعها وألوانها.. جاعلا ذلك الميناء الجميل مضطربا، والساحل المحيط به خاليا، من أي أثر للماء، كأن لم يكن يلامسهما بحر..
استغرب الناس هذه الحالة نادرة الحدوث، والتي جعلت عقولهم تصاب بحيرة وذهول.
قال رياض الشاب المعروف بسخريته: إذن الزلزال أصبح له تهديدات كثيرة..( أولتها ) أنه إن ضرب يهوي بجدران المنازل على رؤوس أصحابها.. و( ثانيتها ) : يقوم بتحريض البحر للهجوم بأمواجه العاتية، على سكان السواحل، مخلفا خسائر كبيرة مادية وبشرية..و( ثالثتها ) : هاهو يقوم بالقضاء على ثروتنا السمكية الضخمة وذات اللحم الشهي الطري..
سيد أحمد: يبدو أنه يريد الانتقام لنفسه..فقد بالغ الناس في قذفه بكل غث وكريه.. ألم يقم البشر بتلويث صفائه، وتدكين زرقته المعروفة؟
قالت فتاة أخرى لا يعرفها السكان ويبدو أنها من الزوارالجدد:
نعم.. أما سمعتم ما جرى بسواحل كوت ديفوار؟ من تلوث للبحرحيث قامت باخرة أوروبية بإفراغ نفايات مواد كيماوية صناعية خطيرة بسواحلها، وكانت النتيجة إصابة السكان بأمراض متعددة وجد خطيرة.. منها إصابةعيونهم.. التي صارت تذرف الدموع ليل نهار.. وأضاف الفتاة الغريبة :
إذا أردتم ألا ينتقم منكم البحر.. ولا يلقي بأسماكه على الساحل لتموت هكذا عبثا.. فلا تلوثوا مياهه، ولا تتسببوا في قتل مخلوقاته الجميلة المسالمة....فقد أعذر من أنذر..
تساءل الناس فيما بينهم وفي استغراب، عن هوية هذه الناصحة الجديدة التي يبدو أن لاعلاقة لها بالبحر.
تجمع ثلة منهم ومن صيادي الحوت، وكوكبة من هواة السباحة، ومحترفي الغوص في أعماق البحار متسائلين عن كيفية حماية مهنتهم وحماية الكائنات البحرية.. فكثرلغطهم وأحدثوا جوا يقترب من الفوضى..
في هذه اللحظات يخرج من أعماق البحر كائن بحري عملاق يشبه القرش الأبيض الضخم..كاشفا عن سلسلة من الأسنان البيضاء اللامعة، ومحدثا ضجة عظيمة فيه، وقد بدا للجميع أكبر من أي مخلوق آخرتم اكتشافه لحد الآن.. ولم يشاهدوا مثله من قبل قط..عمت الدهشة الجميع، واشرأبت أعناقهم متطلعة في فضول كبير، لمعرفة ما سوف يفعله..فما هي إلا لحظات حتى سمع صوته مدويا كأنه الرعد، اهتزت له نوافذ المنازل، ووضع بعض الحاضرين أصابعهم في أذانهم... ثم قال:
" أيها البشر.. يا سكان شمال الجزائر.. لقد تجاوزتم في تصرفاتكم مع البحر وفي نهمكم وشراهتكم الزائدتين..كل الحدود.. إن صيدكم للأسماك والحوت صار عشوائيا، ومبالغا فيه.. أتصطادونه وتصدرونه خفية وعلانية؟ .. و لم تكتفوا بما دمرتم..في البر من هجران للأراضي القاحلة، وتحطيم تلك الصالحة للزراعة، وقد غطيتموها بكتل إسمنتية تبعث على الحسرة والحزن.. وها قد جئتم إلى البحرلتعيثوا فيه فسادا آخر.. بل وصل بكم الأمر إلى أن غطيتم سطحه الأزرق وحولتموه من لونه الجميل إلى لون لا لون له .. فأغرقتم أعماقه بكل نفايات مصانعكم القاتلة، ومخلفات معاملكم السامة، وقاذورات منازلكم المنتجة للملوثات..
اليوم قد طفح الكيل..ولم نعد نحتمل هذا الأمر..فإما أن تكفوا عن فعل ذلك وإما... لا تلومونا إن هاجمناكم بأمواج كالجبال، لا طاقة لكم بمقاومتها، ولا بتعويض خسائرها.. فإن تساءلتم عمن أكون؟ ، فأنا: حامي البيئة البحرية، والمدافع عن كائناتها الحية ، جئت لأنصحكم.. فالتفتوا لإعماربلادكم الواسعة، وتعمير أراضيكم القاحلة.. ودعوا البحر وشأنه في أمان.. ألم تعلموا أنه هو الذي يحتوي المخزون الغذائي الاستراتيجي لكل الأجيال القادمة.. كل إنسان يحصد ما زرع ....