رحلةٌ رائعة .. كانت رحلتي من صنعاءَ إلى تعز.
ولم أدرِ أيةَ غبطةٍ تملَّكتني رغم الشعور الدائم بحزنٍ دفينٍ يلاحقُني.
كانَ مساءً عليلاً من مساءات تعز ..
حيث جلستُ أرتشِفُ كوباً من (الشاهي الملبَّن) على ناصية الشارع أمام مقهىً متواضع، والنسيمُ الرطيب يلفحُ وجهي، بعد أن أعياني التَّجوُّلُ في شوارعِ تلك المدينة الرائعة.
أروعُ نشوةٍ انتابتني .. عندما صادفني المطرُ من خلفِ زجاج الحافلة قربَ إب، بعد شهرين من الجفاف في صنعاء.
فبعد مسيرة ساعتينِ في أرضٍ يبابٍ من صنعاء إلى ذمارَ .. تبدَّلتِ الحالُ فجأةً قربَ العُدَين، فأصبَحَتِ الخُضرةُ تُعَمِّرُ كلَّ مكان، والأشجارُ والورودُ والألوان.
أنواعٌ من الشجرِ لم آلَفْها من قبلُ، وأنواعٌ من الثمارِ الاستوائيةِ تتعلَّقُها، والمياهُ تتسربُ من شقوقٍ على جانبِ الطريق.
كانَ قد اصطحبني الدكتور (أديب نظام)، وهو صديقٌ تعرَّفتُ إليهِ بين ثنايا الغربة في اليمن، كان قد اصطحبني إلى إب .. قبل أن أتابعَ رحلتي باتِّجاهِ تعز، حيث نزلنا فندقاً هناك.
كنا قد وصلنا إب ليلاً، فلم نشاهِد منها عن كثبٍ، إلا صفحة السماء الصافية التي تتلألأ بالنجوم ..
هي اللواءُ الأخضرُ، حيثُ قيلَ لي أنَّكَ أنَّى نظرتَ تلقاكَ الخضرةُ.
حتى سقوفَ البيوتِ من الداخلِ نمَتْ فيها الطحالبُ لتُضفي على المكانِ بهجة.
لكنَّ الليل لهُ سحرُه أيضاً ..
فبينما كنا في مشوارِنا الأوَّلِ في شوارع إب، قلتُ له:
انظر فوق!!
وأشرتُ إلى ضوءٍ يسطعُ كالنجم
أتبعت:
هل تعتقدُ أنه نجمٌ أم منزلٌ ؟
كانَ اللُبسُ قائماً إذ ذاك .. فالضوءُ كان يومِضُ في كبدِ السماء الليلية لحظَتها .. ولا فرقَ إن كانَ ما يحيطُ به سماءٌ أم جبل ..
قالَ جازماً:
بكلِّ تأكيدٍ هو نجم!!
لا أدري لِمَ ساورني الشكُّ حينها .. لكنِّي التفتُ إليهِ أباغِتُهُ في حقيقةٍ لا مِراءَ فيها كما يتصوَّر هو.
قلتُ لهُ:
أتراهِن؟!
فقالَ مؤكِّداً:
هذا أمرُ غيرُ قابلٍ للجدال!
لكن .. وفي نفسِ اللحظةِ .. حُسِمَ الرِّهانُ لمصلحتي.
فقد مرَّ أعلى هذا النجمِ ضوءٌ يسيرُ ببطء، وبشكلٍ متعرِّجٍ، بما لا يوحي بأنه جرمٌ سماوي على الإطلاق.
أسرعتُ إليه بالإشارة:
إنهُ أنوارُ سيارة .. أرأيت؟
فدُهِشَ أيَّما دهشةٍ، ابن جبالِنا الساحلية في (قِسْمِين).
لكنَّهُ أكدّ لي أنه يوماً لم يعتدْ مثل هذه الارتفاعاتِ الشاهقة!
بعد هنيهةٍ لاحظَ كلانا مجموعةَ نجومٍ كالثُّريا في عليائها ..
لكنها ..
لم تَكُنِ الثُّريا ..
كانت أضواءُ قريةٍ على سفح الجبل.
1/11/1989