غزة أيقونة الحرية
سوسن البرغوتي
منطقة جغرافية صغيرة، اختصر الشعب الفلسطيني فيها مفاهيم الصمود ومضى بإصرار، دون هوادة في قطار العودة حق. لا يغفلن أحد أن معظم شعبنا في القطاع ويمثلون 80 % من السكان، من لاجئي الـ48، الذين طُردوا قسراً وقهراً من ظلم العالم الاستعماري، الذي اختلق (إسرائيل)، خنجراً مسموماً في بلاد الشام. تلك المنطقة الجغرافية والتاريخية، لم تعرف التقسيم قبل اتفاقية سايكس- بيكو، وقبل وعد بلفور اللعين.
أخذ الأبناء والأحفاد على عاتقهم وبمحض إرادة لن تهون، وحملوا جينات الثورات العربية وعلى الأخص ثورة عز الدين القسام، الذي رفض تلك التقسيمات وخرائط الحلفاء، متخطياً حدود وخطوط ابتدعها الاستعمار، وصولاً لفلسطين قلب سوريا الكبرى.
لا نخطئ أبداً، عندما نصرّ على أن غزة حركت العالم بأسره، وجاءت الهجمة الصهيونية الهمجية، لتكشف لشعوب العالم بأسره، تخطي (إسرائيل) حدودها ككيان لتنفذ وظيفتها التي حددتها لها القوى الاستعمارية الغربية وفي مقدمتها أمريكا، كشرطي لحماية مصالحهم والاستيلاء على ثروات الوطن العربي، مما يعيق تقدمه وتطوره، ليبقى العرب يستجدون الفتات، ويدورون في الفلك الاستعماري، الذي لم يخرج من وطننا إلا ليعود بشكل ووجه آخر، أشد إجرامياً، وأكثر عداوة بائنة.
بعد أسطول الحرية الأول، تأكدت الشعوب الغربية من أن تبني الصهاينة، بات يشكل خطراً على دولها اقتصادياً وتكنولوجياً، وهذان العاملان أكثر ما يقلق تلك الدول والشعوب على حد سواء، وأن التمرد الصهيوني سيجلب لهم الكثير من الأزمات على جميع الصعد. فاكتشاف آبار الغاز في البحر المتوسط، ليدر على الكيان المليارات، سيجعله مستقلاً، بل أقوى وأصلب بدل استجداء التسول والمعونات التي تدفع له لقاء دوره الوظيفي منذ تأسيسه، متجاهلاً وضارباً بعرض الحائط، خرائط بحرية دولية، وممارساً السطو على المزيد من الثروات المائية، سواء أكانت مياه نهر الأردن أو الليطاني، ولهذا يشترون الجسور العائمة، لاجتياز موانع مائية، والعبور للأردن ولبنان.. إضافة إلى تشديد الحصار على القطاع، بعد أن ثبت فشل مشروع الجدار الفولاذي، ومصر ليست مستبعدة من العبور لضفتي نهر النيل، أو مياه البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر عبر تموضع ميناء أم الرشراش المحتل. أي أن الصراع سيعود إلى نقطة البداية، مركز الصراع، ألا وهي بلاد الشام، بعد أن اطمأنوا لاحتلال العراق، وأن جبهة العراق باتت في حكم المساند لمخططاتهم، وضمنوا موقف النظام المصري المؤيد لهم.
أما تكنولوجياً، فقد ذكر ضابط المخابرات المركزية السابق فيليب جيرالدي أن (إسرائيل) وسعت في الآونة الأخيرة من عمليات سرقتها للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية على نحو غير مسبوق، بحسب تصريحاته لصحيفة الشرق القطرية. والهدف من سرقة الأبحاث المدنية والعسكرية، التفوق في تطوير التكنولوجيا الحديثة، بمعزل عن أمريكا، الذي دفع الشعب الأمريكي أثماناً باهظة، لتصل بلادهم إلى هذا المستوى المتقدم على العالم، ناهيك أن أمريكا لم تعد متفوقة اقتصادياً وسياسياً، بسبب تخبط إدارة أوباما، كما أن سرقة تلك التكنولوجيا المتطورة جداً، يسلب من امريكا أهم أسلحتها التي تستخدمها للهيمنة على العالم، لتصبح بالتالي العصا التي تضرب بها (إسرائيل) وليس العكس!.
القطاع بصموده كشف المخفي من خطط الصهيونية القادمة، مستخدمة أنظمة عربية تجاوزاً لكل ما تعنيه العروبة لهم، آخذين بعين الذل والمهانة ومتوهمين، أن (العهد الإسرائيلي) يخطو خطوات سريعة نحو حدوثه، فالنظام المصري أثبت قطعاً، أن فتح معبر رفح بيد سلطاته الضاربة بيد من حديد ونار، رغم أنه ليس موقعاً لاتفاقية المعابر بين سلطة أوسلو و(إسرائيل)، وما زال المعبر تحت رحمة نظام التطبيع، فرفع الحصار نهائياً، سيضر بالعلاقات الحميمية مع الصهاينة، ويتأثر النظام سلباً في ترسيخ القطرية، وسلبها هويتها وبالتالي سيادتها وأمنها!.
الحكاية لم تبدأ بالحصار، إنما بانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان عام 2006، وبالحسم العسكري في غزة عام 2007، وطرد العملاء بالجملة، بدءاً بتطهير القطاع من أذناب العدو، فضلاً عن كشف المزيد من خلايا الموساد في لبنان والقطاع، مما يعني أن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، مقدمتان على خطوات لا تقل أهمية عن انتصار الصمود في الجنوبين، وتغيير قواعد اللعبة الاستعمارية، بدأت جليّة، وتتمثل في:
- تحقيق توازن الردع براً، التحدي بحراً، وقوافل السفن السلمية مستمرة، وقد تتصاعد الأمور للتصدي لهذه القوات البحرية عسكرياً. والأطراف جميعها مستعدة وبكامل الجاهزية، لغاية التحرير وليس لكسر الحصار وحسب.
- اختراق الإعلام الغربي، ولهذا تأبطت فرنسا شراً لوقف بث قناة الأقصى، وبعد مضايقات عديدة لقناة المنار، ذلك ليقين توصلوا إليه، أن الإعلام المقاوم سلاح فعال، وقادر على كشف زيف ما تدعّيه (إسرائيل) من مزاعم وخزعبلات، غلفت ما يُسمى (شرعية) الكيان الغاصب.
- تصعيد الحرب النفسية، والتجمع (الإسرائيلي) يعيش حالة من التوتر والقلق، مما قد تخبئه الأطراف المقاومة من شرك واستفزاز لجرّ العدو لمواجهة تختلف عن السابق، من تداعياتها تهديد مباشر لبقاء (إسرائيل). فهذا الشعور بالخوف، يقتل مشاعر الأمن والاستقرار لدى اليهودي المستعمر في فلسطين ويحفزّه للهجرة، وعدم التفكير بالعودة.
- تململ واضح في المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948، والقلق بشأن ترحيلهم، مما يعني بالضرورة، تحركهم وزيادة الوعي واستمرار التمسك بأرضهم، ورفض التهجير مهما كان الثمن، والتدرج في ممارسة المقاومة المشروعة ضد احتلال، وليس ضد دولة عنصرية، لا تفرق بين (مواطنيها).
- التفاف الشعب العربي حول المقاومة، وتمكين الجبهة الداخلية، يقع على مسؤولية القوى الحية العربية، برص الصفوف، وأن السلام مع العدو مستحيل، والدعوة إلى صحوة الشارع العربي، الذي يعاني الأمرّين من اللهاث ليل نهار وراء لقمة عيشه، والخلاص:فإما حياة تسرّ الصديق*** وإما ممات يغيظ العدى.
- العودة إلى أبجديات الصراع، في بلاد الطوق بشكل خاص، نظراً لقرب الخطر (الإسرائيلي) الدائم لها.
- حتمية دعم المقاومة المشروعة، وهي خط الدفاع الأول عن الأمة العربية، والرفض المطلق لاتفاقيات التطبيع الرسمي.
- ليست القضية مجرد الضغط لإسقاط حكومة نيتنياهو - المتطرفة- كما يشيع اللاهثون للتسوية بادعاء أنها لا تصلح شريكاً للسلام!!، بينما هو وكذلك من سيأتي بعده، أو من كان قبله في الإجرام سواء، ويجب تحجيم أطماع (إسرائيل الكبرى)، مع العلم أن المناورة السياسية للدول، تختلف عن التكتيكات (المرحلية).
- فرض الشروط وليس تقبل الإملاءات، بصفقة إطلاق الأسرى، وكيفية تفكيك البنية التحتية السياسية الهشة للكيان.
إن العالم يتغير من الأيدلوجيات إلى تقاطع المصالح، وتحديد المصالح العربية الوطنية، تقتضي دعم المقاومة وليس التخلي عنها أو تقييد حركتها، ووصمها بـ"الإرهاب". فالقوة لا تواجهها إلا قوة، ولا يردع ويحجم العدو إلا إظهار هذه القوة.
حقاً لقد كان الاعتداء الصهيوني على القطاع بمثابة حرب وسطى، والمعركة القادمة لن تكون نزهة أو فصلاً موسمياً وينتهي، فالمقامرة (الإسرائيلية) تعدت حقب المغامرات.
ما تقدم بلا ريب، يجهز لعملية إرباك وتخبط العدو وصولاً إلى اشتباك مباشر، بهدف تحرير كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، لمواصلة مسيرة الإجهاز على رأس الأفعى الاستعمارية في "تل أبيب"، من الأرض الفلسطينية المحررة أولاً بفعل مقاومة، لا بهرطقات المفاوضات.
إن غزة أيقونة بارزة في مسيرة التحرير ونتيجة تغيرات جذرية في مسألة الصراع، وأي تكتيك خاطئ، سيجهز على الاستعدادات الجارية على قدم وساق، لتحقيق المعادلة كما أُريد لها أن تكون، وللاستمرار في جني المكاسب والامتيازات الحاصلة من حرب إعلامية وسياسية، لتبقى غزة أولاً وقاعدة فلسطينية محررة. فما يُسمى بالتطرف (الإسرائيلي) يتيح الفرصة الذهبية لتهشيم أنف الكيان.. وما زالت نهاية الكيان في بدايتها.