دكتور المسدي " وإنصاف المثقف و المفكر.
" الخيال أهم بكثير من جمع المعارف "
ألبرت أينشتاين
" المعرفة هي أن تتنبأ "
أوجست كونت
(1)
في وطننا وفي الأوطان المشابهة يعاني المثقف والمفكر كثيراً من العنت والظلم .ينهمكان عادة في انتاج ونشر الأفكار والنظريات ذات المعرفة الواسعة . وهما على وعي أفضل من غيرهم بمشكلات المجتمع والوطن ولديهما الخبرة والمعرفة في الثقافة والفن والأدب والعلوم ، تمنحانهما وزناً ومكاناً مرموقاً في الخطاب العام .ويعتبران من النخبة والصفوة التي يتعين أن يقوم على أكتافها التقدم إن وجدت الحرية .
*
قرءنا كثيراً ، وسمعنا ونسمع من السياسيين ومن العامّة أن أزمة الوطن من صنع "الصفوة ". يطلقون عليهم الأحكام دون تمييز. سرد الكاتب الدكتور " حيدر إبراهيم " في مقال باهر قصة الخفاض الفرعوني للمثقف السوداني وتتبع تاريخاً طويلاً منذ بدايات القرن الماضي . وكتب كثيرون يُحمِّلون أوزارهم للمثقفين والصفوة . وساهموا في خلط المصطلحات بين المتعلمين والمثقفين والمفكرين والصفوة . وضعوهم كلهم في سلة واحدة ، وقاموا بتجريدهم من كل خصال الخير .
قرءنا أيضاً كثيراً في مدونات الإنترنيت وفي الصحف اليومية ، وفي القنوات التلفزيونية كيف صارهذا الكيان الصفوي النبيل ، مزبلة كل الخطايا التي يرتكبها غيرهم . لملم المُجنى عليهم أشلاءهم بصمت . لم يدافع عنهم أحد .ولم ينصفهم أحد .
(2)
قرأت سِفر الدكتور عبد السلام المسدي : ( نحو وعي ثقافي جديد ) فتنفستُ الصعداء ،إذ أن هنالك من يخالف المقولات السائدة ولا يجلد الذات . وجد المثقف والمفكر منْ ينظر إليهما بموضوعية وتوازن في الحكم .يتتبع المعطيات أو المدخلات ، ثم الأدوات ثم المخرجات . وأنقل بعض الكتابات المتفرقة التي توضح رؤى الدكتور في سِفره وذات علاقة بإنصاف المثقف والمفكر. لم يسمح هو للحقد الدفين الذي حمله الرأي العام تجاه تلك الصفوة أن يجد راحته ، فهو واحد من المفكرين الصبورين على تتبع الظاهرة وإدخالها معمله ليكون الناتج فكراً متقدماً . فمجتمعاتنا لا تحفل بالمثقف أو المفكر، لأن الجهل أصيل في التربة الاجتماعية . متوطن وتمتد عروق أشجاره الخبيثة في الأرض ، حتى أن المتعلمين أصابتهم ذات الزراية . لقد اغتال " الجهل النشط "من قبل من كانت له قدرات إبداعية في الفكر . وحمل السياسيون وهم في سدة الحكم الدكتاتوري حملتهم في أن يظل المثقف والمفكر خادماً لسلطتهم ، يمشي على صراطهم الذي اختاروه . ومن يخرج بفكره الحر ينفونه من الدنيا .
*
عن الدكتور " عبد السلام المسدي" :
هو أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية و عضو مجامع اللغة العربية في تونس وطرابلس ودمشق وبغداد .تولى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بلاده سابقاً ، ثم كان سفيراً لتونس لدى الجامعة العربية ، فسفيراً لها لدى المملكة العربية السعودية .هو من مؤسسي منتدى الإصلاح العربي في مكتبة الإسكندرية .ومهتم بعلوم اللغة وبالنقد الأدبي وبتحليل الخطاب السياسي ، وينشر كتابات إبداعية .نال عدة جوائز عربية ، منها جائزة العويس الثقافية 2009 م.له أحد عشر سِفراً في اللسانيات وأحد عشر سِفراً في النقد الأدبي وخمسة أسفار في السياسة وله أربعة أسفار في الإبداع .
(3)
مقتطفات من باب " المثقف والسلطة " من سفر الدكتور المسدي:
حرية الرأي صرح لا يقوم بنفسه ، وإنما هو كالبناء لا يستقيم إلا بعماد مركزي متين : إن حرية الرأي معمار قائم بغيره ، هذا الغير هو ببساطة متناهية " الأمن النفسي " . فما لم يرسخ في وعي المثقف وفي لاوعيه أنه متمتع بطمأنينة روحية وأنه مكفول بسكينة نفسية ، وأنه محاط بتوازن شعوري ، وأنه كذلك محروس بوئام حميمي وإكرام عاطفي ، فإن آلياته الذهنية ترتبك . وخوالجه الفكرية تضطرم ، وحوافزه التأملية تتعثر فتتعاضل وتنتكس . هذه الحقيقة هي أم الحقائق الشاملة على مسرح الكون الجديد .
*
قبل حرية الرأي وبعد حرية الرأي ، المثقف في اوطاننا في أمسّ الحاجة وأشدها إلى أن نكفل له براءة التأويل ، ومنتهى مرماه أن نكف عن تصيده بشباك الظاهر والباطن . وأن نقفل بالأقفال الحديدية وإلى الأبد ، محاكم المقاضاة بالنوايا ومحاكم التفتيش بالمقاصد . ولماذا لا يكون بين المثقفين والحاكمين عهد صريح جلي ؛ فعلى افتراض أن الكلام قد يحتمل ظاهراً وقد يحتمل باطناً ، ليكن احتكامنا إلى الدستور الإنساني المطلق ، وهذا نصه : دلالة النص ملزمة لصاحب النص ، ودلالة التأويل ملزمة لمن قام بالتأويل : أنا حر فأنا أتكلم ، وأنت حر فأنت تتأول . وكلامي غير ملزم إياك ، وتأويلك غير ملزم إياي .
*
إن حرية الرأي لا يقتلها شيء مثلما يقتلها الخوف من سوء التأويل . وإن الفكر الحر لا يُطفئ شعلته شيء مثلما تطفئه الرقابة الذاتية المتولدة من ذلك الخوف . ولكن الخوف سرطاني بطبعه ، تتناسل خلاياه وتتكاثر دون توازن أو اعتدال : فالخوف يولد الريبة ، والريبة تولد الذعر ، والذعر يفقد المرء ثقته بنفسه .وعندئذ يتزعزع الذهن الذي هو ورشة صناعة الأفكار ، فلا تأتي المواليد إلا مشوهة في خلقتها ، عرجاء في مشيتها ، كسيحة في جلستها وانتصابها . ويكون الخاسر الأول هو المثقف . ولكن الخاسر الأكبر سيكون بلا أدنى ريب ، هو السياسي منذ حطم بيده عماد بيته .
*
إن أمر العلاقة بين المثقف والسلطة أمر دقيق في كل العصور وفي جل الحضارات ولكنه في وطننا وأوطان مشابهة أدق . وهو بالتحديد في زمن العبور بين عصرين أمر شائك جلل .ولكن الأعجب هو أن جمعاً غفيراً من المثقفين في اقطار عديدة من وطننا وأوطان مشابه ، تراهم اليوم بين جوانحهم أمنية كبرى بحجم المدارات ، وهي أن ينعموا الآن بما كان ينعم به " طه حسين " من حرية الرأي وحرية القلم ، وحرية النشر في الصحف ، حرية التأليف في الكتب . ومن عامة الناس من دخلوا الزمن الجديد وكلهم أسى ، وكلهم حسرات ، وأن المثقف العربي لم يعد له الآن ما كان عند " طه حسين " وعند جيل " طه حسين " من شجاعة على الرأي ، ومن جرأة على الكتابة ، ومن إقدام على المجاهرة وعلى الإصداح ، وكم من سائل تاهت به السُبل ، وكم من مسئول غدا سائلاً ، وما من سائل إلا وراءه سائل .
*
إن المثقف معنيّ بالسياسة ، ومعنيّ بطريقة السياسي في احتراف السياسة
. والمثقف معنيّ بالحرية ومعنيّ باستغلال السياسي للحرية . والسر في ذلك أنه واحد من أبناء المجموعة فله بذلك كل حقوق المواطنة ، وهو إلى جانب ذلك ذو رسالة وعليه واجبات . من أوكدها أنه ناطق باسم الضمائر السعيدة حين يسعد أصحابها ، وناطق باسم النفوس الشقية حين تشقى القلوب وتعتل الخواطر ، وبأدائه لرسالته يصبح المثقف خادماً نبيلاً للسلطة الشريفة ، لأنه يُبلغها الصوت الذي لا تسمعه من سواه فترى !
هل السياسي مع الثقافي أم الثقافي مع السياسي ؟و يا ُترى من منهما أحوج إلى الآخر ؟.
يقين قاطع أن احتياج الثقافي إلى السياسي هو احتياج ضرورة، واحتياج السياسي إلى الثقافي هو احتياج بقاء .
*
إذا كف السياسي عن تقديم الأجوبة خسر مشروعية وجوده ، وإذا كف الثقافي عن إلقاء الأسئلة خسر كل مبررات وجوده . في عقيدة السياسي أن السيطرة على الحاضر هي الضمانة للمستقبل ، وفي شريعة الثقافي أن استشراف المستقبل هو وحده الكفيل بضمان الحاضر .وتلك هي بعض قواعد لعبة رقعة الشطرنج ، بين مربعات الطول ومربعات العرض يتناسج السياسي والثقافي .
عند غياب الحرية يركن الناس إلى التفريج عن غمهم بألف وسيلة بين مباح ومحظور ، ويهاجر أهل المال حيثما طاب لهم أن يتمتعوا بنسيان الهموم ، ولكن المثقف يسكنه الغم سكوناً حيثما كان وأينما ارتحل ، فالقلق حقيبة بيده لا يفارقها ولا تفارقه . فيها جسده وبها ضميره .وكلما اصطنع مهارات المشي بين الأشواك واحترف السير على البيض دون أن يكسره ذلت نفسه ، وازدرى ذاته .
*
هكذا صور لنا المثقفون مأساتهم كلما عاشوا داخل الأنظمة الإطلاقية . وهكذا تغفل المجتمعات عن ثروتها من الفكر الحر ، فلا تجد من تعوضه به من منتجات الاقتصاد ، ولا ما تقيمه مقامه من موارد النهوض والنماء . ذلك أن حرية الفكر استدعاء دائم للسؤال . وسفر متواصل نحو البحث والتنقيب ، ونحو الاجتهاد والتجريب ، والذي هو فضيلة في عوالم العقل يمسي جُنحة في قواميس السياسة . إنه التحريض على التأمل ، والتحريك بغية التدبر والحث على مشاكسة المُسلمات . إنها إثارة ، بل استفزاز ، ولا رقي في عالم الأفكار بدونها ، فالعقل عدو الجمود ، والعقل عدو الحظر المسبق ، لأن صديقه الحميم وعشيره الأمين هو المساءلة ، والمجادلة ،إنها المبارزة بدون قرع السيوف وبدون ضرب الرماح .
*
ليس أعجب في الدنيا من مثقف يزهد في السياسة ، ولا من سياسي يريد أن يزهد المثقفون من حوله في السياسة ، ولو علم هؤلاء وأولئك بأحد الأسرار الخفية لكفوا عما هم فيه .فحرية الرأي مدرسة كاملة بكل أشراطها ، وهي في طبيعتها وفي جوهرها مؤسسة قائمة في قلب الجماعة ، والذي هو أكثر خفاء وأشد إشكالاً هو أن المؤسسة المعرفية – من الجامعات ومن مراكز البحوث – لا تقوى على النهوض بأمانتها ما لم تَسُدْ الحرية كامل أطراف المجتمع . وهذا مما يحياه كل ذو بصيرة إذا تأمل الأمر هنا وهناك . فالدرس والتعليم والبحث والتأليف كلها آليات فكرية تتروّض حتى يرتاض بها القائمون عليها ، ولكن عمادها المتين لا يكمن في جوهر العقل الخالص بقدر ما يكمن في الطريقة التي يتعامل بها لعقل مع الوجود ، وهو المسمى بالعقل العملي . فكيف تتربى العقول في رحاب الجامعات إذا لم يكن سيد الموقف هو الإنصاف الفكري ، وإذا لم تكن الموضوعية والتجرد والاعتدال هي السند الذي يحتكم الناس إليه ، بل إن الحرف الأول من أبجدية كل المعارف هو التمرس بنسبية القيم مهما يكن الحقل العلمي الذي ينشط فيه الذهن .
*
إن الفكر مدرسة للسياسة والسياسة مدرسة للفكر ، أو قل للتخصيص " الفكر هو المدرسة الأولى للسياسة ، والسياسة هي المدرسة الأخيرة للفكر .والفكر متمرد بطبعه ، ولكنه متمرد على ذاته ، والناس يظنون أنه إذا تمرد فإنما هو بالضرورة يتمرد على السياسة ، ومن هذا الالتباس تتولد كبريات المظالم . والدليل الأعظم على ما نقول هو أن الفكر لا ينتعش بشيء ولا يحتفي بشيء مثلما ينتعش ويحتفي بالفكر المضاد . إذ من ضديته يتغذى ، وفي ضديته تكتمل علة وجوده ، ولك أن تطوف على كل الموجود على الأرض من الملذات ، وبكل ما أتيح للإنسان من شهوات ، فلن تعثر على نشوة تضاهي ما يحصل للمفكر حين يستقر يقينه على حقيقة من الحقائق فيأتي من يقارعه بحقيقة مضادة ، وينتهي بإقناعه بها ، فإذا بصاحب الحقيقة الأولى يخلع عن يقينه ثوبها ويرتدي الحلة الجديدة . هي النشوة التي نعتصرها من الكون اعتصاراً : نشوة اليقين بأن الأرض كروية الشكل بعد اليقين الراسخ بأنها انبساط . ونشوة اليقين بأن الأرض تطوف بالشمس بعد اليقين الواهم بأن الشمس هي التي تطوف بالأرض . ونشوة اليقين بأن الإبصار يتم بشعاع من الضوء يصدر عن المرئي إلى عين الرائي بعد اليقين الواهم بأنه يصدر من العين ويقع على المرئي . إنها لذة اللذات ونشوة كل النشوات أن أقول " لقد كنتُ على خطأ ".
الفارق الجوهري بين مجال العلم ومجال السياسة أن الخطاب في العلم يتحدد بالمضمون ويزدان بالإستراتيجية ، أما الخطاب في السياسة فيقوم على الترتيب ومراعاة حيثيات السياق في الزمان والمكان وطبيعة الإرسال وأطراف التلقي .
*
أليست الأنظمة السياسية في أوطاننا هي التي تبادر بتشجيع المفكرين كي لا يغيبوا عن المحافل الدولية التي تتناول حوار الحضارات ، وقد يبلغ بها التشجيع أنها تضمن للمثقفين تذاكر السفر ، وتحجز لهم الإقامات ، وتمدهم بما يكفل لهم كرامة الحضور ، فهل علم أولو الأمر وأولو الشأن وأولو التدبير بأن الأهم من كل ما يغدقون به ويجودون إنما هي تأشيرة بسيطة لا تختمها السفارات على الجوازات ، ولكن ترسلها الأنظمة السياسية عبر كل الشبكات المندمجة ، في داخل أوطاننا وخارجها ، ونصها هو كلمات وجيزة بالمداد الأخضر :
( لا حظر على الفكر بعد اليوم )
(4)
تحت عباءة الصفوة وأزمتها . خصني البروفيسور " عبد الله علي إبراهيم " برغبته في عقد ندوة بمناسبة مرور نصف قرن على صدور كتاب "حوار مع الصفوة " للدكتور منصور خالد ( أول مقالاته كتبها صاحبها في العام 1964 ). وأوضح أن الكتاب قد جاء بأفكار لم نزل نهتدي بها أو كما ذكر بالنص " نتخبط في إسارها " . ورغب مشاركة المختصين بأوراق تقويم على أن تُنشر في كتاب . ورغب البروفيسور أن نستجمع من قلائدنا الفكرية التي استجمعها منتدى السودان الفكري وناشطيه بأبوظبي للمساهمة في رفد هذا المسعى بما يناسب . تبدو المهمة عسيرة علينا ولكنها ليست بمستحيلة . وقد كتبت هذا المقال من وحي السير في ذلك المسعى ،فالطريق ممتلئ بأشواك الحديث عن " الصفوة " الذي لا تنقضي عجائبه.
فنحن نُبشر بأنبياء جُدد من المفكرين أو المثقفين ، من الذين لم تطالهم سكاكين الاغتيال . قليل منهم كتب ، وكثير منهم احتجب .وفي مجتمع بدوي النزعة ، يحُب الثقافة الشفهية ، فكتب تراثه على الرمل .قصة تذروها الرياح . منهم من ذاب كقطعة ملح في قِدرٍ ضخم يسمى المجتمع . قدم ما استطاع في ظل ظروف قاهرة .قدم كتابه ورسمه بشفرة لا نراها ، ومات وأسرار شفرته معه دُفنتْ في القبر. نحسبها أسورة اعتقال اجتماعي عصف بمفكرينا وبتميزهم . أطلق الرصاص على تجاربهم الحثيثة حين جلسوا للصفاء ليكتبوا عن تلك الخواطر ويؤسسوا حفراً على أسطُح الحجر الصلد .كم امتلأت أشباه المدائن والقرى والأرياف بالمعلمين والمعلمات يحابون الجهالة دون كلل . أغفلتهم كُتب التاريخ من الذكر ، وأوسمة التكريم من أن تذكرهم . وإنها لحسرة .
*
مما يذكر قديماً أن مجموعة من أصدقاء الشاعر الراحل " إدريس محمد جمّاع " ومنهم المبدع " محمد محمد علي " كانوا يلتقون بأترابهم ومجايليهم في نهارية كل يوم جمعة بالحلفاية ، لا تنتهي إلا ليلاً . يتسامرون بكنوز الأدب والفكر . ويقلبون شتى الرؤى. يستريحون عندما يتنفسون بلغة يحفظون بها بعض ما يستطيعون من توازن ، لعل مُقبِل الأيام فسحة من الحرية . ويختمون مجلسهم مدحاً لرسول الله . كان ذلك قبل انكسار الخواطر وهزيمة النفس . فللمبدعين قضية أخرى تنتظر الكشف .

عبد الله الشقليني
2/9/2012 م


http://www.sudanile.com/2008-05-19-1...---------.html