النقاشات الراهنة حول العلم والدين في الإسلام
لماذا تأخرت مهمة تجديد الخطاب الإسلامي؟
زكي الميلاد
(1)
لقد مرّ الخطاب الإسلامي بأطوار من التحول في علاقته بمفهوم التجديد، وتكشف هذه الأطوار عن المفارقات المعرفية، والوضعيات التي كان عليها الخطاب الإسلامي ما بين بدايات القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين. كما تكشف تلك الأطوار أيضاً عن ملامح التطور الثقافي في بنية وتكوينات الخطاب الإسلامي. وهذه الأطوار هي:
الطور الأول: حين كان الخطاب الإسلامي يتعامل بمنطق الرفض والشك لمفهوم التجديد، ولا يتقبل الاقتران بين الخطاب الإسلامي وكلمة التجديد، الكلمة التي كانت تفسر بخلفيات التآمر والانفلات والتخريب لفكر المسلمين وعقيدتهم وآدابهم.
وحسب هذا التصور فإن الغربيين هم الذين اخترعوا مفهوم التجديد، وهم أول من تحدثوا عنه بعد انحلال الخلافة العثمانية، وحاولوا إقناع المسلمين والنخب الفكرية منهم بالذات بهذا المفهوم ليكون إطاراً يحدد اتجاهات الفهم والنظر للإسلام والفكر الإسلامي، بقصد أن لا يكون الإسلام عقبة في تقبل النموذج الثقافي والقيمي الغربي.
وأبرز الكتابات الغربية التي يستشهد بها في هذا الشأن، هما كتابان، الأول: كتاب "الإسلام والتجديد في مصر"، لشارلز آدمز من الجامعة الأميركية في القاهرة، والصادر عام 1933م، والثاني: كتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" للمستشرق البريطاني هاملتون جيب عضو المجمع العلمي العربي في القاهرة، والصادر في الأربعينات من القرن العشرين.
ولعلّ أكثر كتاب يعبر عن هذا الطور في علاقة الخطاب الإسلامي بمفهوم التجديد هو كتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي، الصادر عام 1957م، الذي تحدث فيه عن التجديد في الفكر الإسلامي، وخصص له فصلاً موسعاً في كتابه زادت عدد صفحاته على 170 صفحة، ويقصد بهذا المنحى الاتجاه الفكري الذي يتماهى ويتطابق مع نظام التفكير الغربي، وحسب قوله "فالتجديد في رقعة الشرق الأدنى منذ بداية القرن العشرين هو محاولة أخذ الطابع الغربي، والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين، سواء في تعبيرهم عن الدين، أو في تحديدهم لمفاهيمه، ومفاهيم الحياة التي يعيشونها، أو في تقديرهم للثقافات الشرقية الدينية والإنسانية"(1).
وبعد أن تتبع الدكتور البهي مسارات هذا الاتجاه خلال ما يزيد على نصف قرن، منذ بدايات القرن العشرين إلى أواخر الخمسينات، ختم كلامه مع نهاية هذا الفصل بقوله "والآن نرى أن التجديد في الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر يعيش في التفكير الغربي الذي خلقه القرن التاسع عشر، وينقل منه ما لا يفيد التوجيه في الشرق الإسلامي. ينقل منه آراء المستشرقين الصليبيين فيما يصور الإسلام على أنه رسالة بشرية لمصلح إنساني، أو قائد ناجح، يرتبط اعتبارها بوقت حياة هذا المصلح، أو ينقل منه آراء بعض المدارس اليسارية والإحادية ضد الدين عامة"(2).
والنماذج التي تحدث عنها الدكتور البهي وصنفها على هذا الاتجاه، محاولة الدكتور طه حسين في كتابيه "في الشعر الجاهلي" الصادر عام 1926م، و"مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938م. ومحاولة الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الصادر عام 1925م. ومحاولة الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "خرافة الميتافيزيقا"، ومحاولة الدكتور مصطفى محمود في كتابه (الله والإنسان) الصادر عام 1955م، وأخيراً محاولة الدكتور خالد محمد خالد في كتابه "من هنا نبدأ".
ويتناغم مع هذا الطرح ما يراه الدكتور طارق البشري بعد عدة عقود من الزمن على ذلك الكلام حيث يرى بأن المحاولات الفكرية التي رفعت شعار التجديد تعمدت إقصاء الفكر الإسلامي، والجدير بالانتباه كما يقول بأن "إقصاء الفكر الإسلامي من قبل النزعة الغربية بدأ بلفظ التجديد. ومن هنا إذاً كان التجديد يقصد به إقصاء الفكر الإسلامي"(3).
ومع أن الخطاب الإسلامي المعاصر قد تجاوز الكثير من تلك الالتباسات والهواجس والرواسب التي أحاطت بمفهوم التجديد في ذلك الطور، إلا أنه ما زالت هناك بعض البقايا، وعند الخطاب الإسلامي السلفي تحديداً، كما عبر عن ذلك جمال سلطان في كتابه "تجديد الفكر الإسلامي" بقوله "مصطلح التجديد في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر قد واكب مرحلة فكرية ومعرفية، تجعلنا مدعوين إلى إعادة النظر فيه، أو تنويع الرؤية له على ضوء تلك المرحلة وخلفياتها، فقد شاع في مرحلة بدأت فيها المنهجية العلمانية تتسرب في قطاعات واسعة من حياتنا الفكرية والمعرفية والقيمية والفنية.. وكان مصطلح التجديد قد شاع في أوائل هذه المرحلة للحديث عن مفكري الإسلام الذين يقتربون بنسقهم الفكري من القيم الغربية والفكر الغربي والمنهجية العلمانية الغربية. وأصبح مصطلح التجديد يثير القلق والريبة والتوجس في نفوس المسلمين؛ لأن التيارات العلمانية استطاعت احتلاله وتعبئته بمضامين وتوجهات جعلته رمزاً على تجاوز الشريعة وتخريب الدين"(4).
ومشكلة الخطاب الإسلامي في هذا الطور أنه كان متأثراً بصدمتين، صدمة انهيار الخلافة العثمانية في العقد الثالث من القرن العشرين، وصدمة تخلي الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار عن الهوية الإسلامية والمرجعية الإسلامية، حينما تبنت هذه الدولة فكرة العلمانية، لذلك لم يكن وارداً في تلك الوضعيات الحديث عن التجديد في داخل الخطاب الإسلامي، ولم يكن مقبولاً أيضاً عند طرحه من خارج الخطاب الإسلامي.
الطور الثاني: في هذا الطور تغيرت صورة الخطاب الإسلامي بعض الشيء، وأخذ يتعامل بمنطق الحذر، والاقتراب المحدود لمفهوم التجديد. وكان الهاجس الأساسي في هذا الطور هو محاولة ضبط مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي، وشكل البدايات الأولية لانخراط الفكر الإسلامي المعاصر في عملية التجديد، ومن بعدها تلاحقت التراكمات المعرفية في هذا المجال.
ولعل من المحاولات المبكرة في هذا الشأن، والتي يمكن أن تؤرخ لهذا الطور في تحوله وتحديد صورته هي محاولة الدكتور حسن الترابي نشر محاضرة عام 1973م بعنوان "الفكر الإسلامي... هل يتجدد؟" وقد اشتهرت هذه المحاضرة بعض الشيء في وقتها، وفيها حاول الدكتور الترابي أن يلفت النظر إلى أمرين أساسيين يشكلان بداية تحول في حركية الفكر الإسلامي المعاصر، وهذين الأمرين هما:
أولاً: التحول من الحديث عن الغزو الفكري إلى الحديث عن الضعف الذاتي في الفكر الإسلامي والالتفات إلى علله الداخلية. وفي هذا الشأن يقول الدكتور الترابي: "قد يحلو لنا أن نتحدث عن الغزو الفكري لنفلت من التبعية بعد أن نلقيها على الآخرين، والأولى بنا أن ننظر في تقصيرنا ونتأمل هذه الظاهرة التي عم بها البلاء"(5).
ثانياً: تحديد مجال التجديد وأن مجاله هو الفكر الإسلامي ولا يشمل الدين. فحين يتساءل الدكتور الترابي عن الفكر الإسلامي هل يتجدد؟ يجيب بقوله: "أليس الدين هدياً أزلياً خالداً لا مكان فيه للتجديد؟ بل الذي يتجدد ويتقادم ويبلى إنما هو الفكر الإسلامي. والفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية الخالدة(6).
وقد تابع الدكتور الترابي هذا الاهتمام، ونشر حوله العديد من الكتابات في أزمنة متلاحقة، كان ينطلق من خلفية التخلص من الفكر التقليدي القديم الذي عبرت عنه بعض الجماعات الدينية والصوفية، وتجاوز فكر الإخوان المسلمين المصريين بعد أن قطع صلته عنهم.
ومع هذا القدر من التطور في العلاقة مع مفهوم التجديد، إلا أن وجهة الخطاب الإسلامي العامة ظلت حذرة، وبقيت بعض الهواجس. ولهذا لم يحصل تقدماً مهماً وملحوظاً على مستوى التراكم المعرفي في هذا الشأن، والكتابات التي ظهرت كانت قليلة ومبعثرة، ويغلب عليها طابع الحذر وهاجس الدفاع عن الذات.
وفي تلك الفترة نشر الدكتور أحمد كمال أبو المجد مقالاً حول "التجديد في الإسلام" بمجلة العربي الكويتية عام 1977م، شرح فيه واقع الحال آنذاك بقوله: "لا يكاد صوت يرتفع اليوم منادياً بالتجديد في الفكر الإسلامي، شاكياً من الجمود والانغلاق، مناقشاً في ذلك أقوال العلماء من السلف أو من المعاصرين، أو داعياً إلى مراعاة ظروف الزمان والمكان، حتى تتناوشه من كل جانب صيحات المحذرين والمنذرين، يذكرون بالمزالق والمخاوف والمحاذير، ويؤكدون أن الدعوة إلى التجديد مدخل لإسقاط الالتزام بالشريعة، وباب شر ينفذ منه الحريصون على تمييع حقيقة الإسلام، وإذابة جوهره في جوهر حضارات وثقافات مناقضة لأصوله، معارضة لمبادئه"(7).
وهذه الأصوات الداعية إلى التجديد هي التي أدركت أن واقعاً جديداً بدأ بالتشكل بعد نكسة 1967م، وأن أمام الخطاب الإسلامي فرصة التقدم والنهوض، المهمة التي كانت بحاجة إلى تحريك مفهوم التجديد الإسلامي.
الطور الثالث: في هذا الطور وجد الخطاب الإسلامي نفسه مدفوعاً بقوة نحو مفهوم التجديد، ولم يعد لتلك الهواجس والإشكاليات السابقة من أثر، وتحول التعامل معه من منطق الحذر إلى التعامل معه بمنطق الاندفاع. ولذلك بعد ما شهد الواقع الإسلامي صحوة ويقظة غيرت من رؤية الخطاب الإسلامي لذاته، وتشكلت لديه رؤية إلى الواقع مغايرة للرؤية التي كان عليها في السابق، ولم يعد محكوماً بذهنية الخوف على الهوية، ومن الغزو الفكري والاختراق القيمي، أو أنه في موقف الدفاع عن الذات. كما وجد الخطاب الإسلامي نفسه أيضاً ولأول مرة منذ زمن طويل أنه أمام فرصة لأن يجرب ويختبر ما لديه من أفكار وتصورات وأطروحات، ويكون قريباً من الواقع ومكوناته وتعقيداته. الوضع الذي جعله يتعرض وباستمرار لمساءلة الآخرين المختلفين معه فكرياً وسياسياً، وإلى نقدهم وحتى إحراجاتهم. وهذه المساءلات والنقد والإحراجات كانت تدور في إطار هل يمتلك الخطاب الإسلامي برنامجاً؟ وما هو تفاصيل ومكونات هذا البرنامج؟ بمعنى لا يكفي الادعاء بأن الإسلام هو الحل، وإنما لا بد أن يستند هذا الحال على برنامج واضح ومحدد.
هذه الأرضيات والتغيرات والمساءلات ساهمت في بلورة بواعث الخطاب الإسلامي نحو مفهوم التجديد. ولهذا ظهرت في هذا الطور أوسع الكتابات والاشتغالات الإسلامية حول مفهوم التجديد، وبالذات في عقد التسعينات، حيث سجل الخطاب الإسلامي تراكماً كبيراً حول هذا المفهوم، وعقدت حوله العديد من الندوات والمؤتمرات الفكرية والإسلامية في المغرب والكويت ومصر ومالطا وغيرها، كما وخصصت الكثير من الدوريات الفكرية ملفات موسعة حوله أيضاً، مثل مجلة "الاجتهاد" في لبنان 1990م، ومجلة "قضايا إسلامية" في إيران 1996م، وغيرها. وفي عام 1997م صدرت دورية فكرية حملت عنوان التجديد، وهي المجلة التي صدرت في ماليزيا عن الجامعة الإسلامية العالمية. يضاف إلى ذلك أن هذا المفهوم قد استحوذ على اهتمامات الجيل الجديد من المثقفين والمفكرين الإسلاميين حيث صدرت لهم حوله كتابات ومؤلفات مهمة.
لكن ماذا بعد كل تلك الاهتمامات والتراكمات، فهل تجدد الخطاب الإسلامي؟
في تلك الفترة وتحديداً في النصف الثاني من عقد التسعينيات تعرض الخطاب الإسلامي إلى نكسة فكرية خطيرة مع ظهور حركة طالبان وسيطرتها على السلطة في أفغانستان، وانبعاث تيار الأصولية مرة أخرى الذي عبرت عنه بعض الجماعات السلفية المتطرفة التي تؤمن بالعنف والتكفير، وتنتمي إلى فكر قديم لا يتواصل مع العصر، ولا يتناغم مع المدنية، ولا يعبر عن الجوهر الحضاري للدين.
وبعد انبعاث هذا التيار الأصولي أدرك الخطاب الإسلامي المعاصر بأنه بحاجة إلى أن يميز نفسه عن ذلك التيار، وبذل جهداً في هذا السياق، كما ترسخت قناعته بضرورة التجديد.
الطور الرابع: في هذا الطور تغيرت ولأول مرة صورة العالم بتأثير من جماعة أصولية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، التي غيرت معها أيضاً صورة الخطاب الإسلامي ناظراً ومنظوراً إليه. فقد ظهرت هذه الأصولية إلى العالم بوجه مخيف ومرعب، وأنها قد تجاوزت في خطورتها عالم الأفكار والمفاهيم، وتحولت إلى قوة تدميرية على مستوى عالم الأشياء وعالم الإنسان، كما أنها لم تعد مصدر خطر يتحدد في إطار مجتمعاتها وبيئاتها، وتحولت إلى مصدر تهديد وخطر على مستوى العالم. لذلك أصبح الخطاب الإسلامي في دائرة نظر واهتمام العالم برمته، الجميع يتحدث عنه، ويقرأ ويكتب ويناقش عنه، وبات الشاغل الأكبر والأساسـي في مختلف وسائل الإعلام والنشر والاتصالات المرئية والسمعية والمقروءة.
وفي ظلّ هذه الأجواء وجد الخطاب الإسلامي المعاصر أنه أمام محنة شديدة تجاه ذاته وتجاه العالم، تجاه ذاته حين وجد تفشي ظاهرة الأصولية بالصورة المخيفة التي ظهرت عليها، وما تمثله هذه الظاهرة من غلو وتطرف وتكفير ونزعة نحو العنف، وكأن هذه الأصولية هي التي كانت تتنامى وتتقدم في المجتمعات العربية والإسلامية على حساب نهج الوسطية والاعتدال والتنوير، وهي الملامح والأبعاد التي كان يشتغل عليها الخطاب الإسلامي المعاصر.
وتجاه العالم حين أوقعته تلك الأصولية التي نسبت لنفسها أحداث أيلول/ سبتمبر في مشكلة حرجة وخطيرة للغاية، فبعد أن بذل الخطاب الإسلامي المعاصر جهداً في سبيل تطوير تواصلة مع العالم، وإذا به يجد نفسه في مشكلة مع هذا العالم بدون رغبته واختياره، وهو الذي يدفع بأفكار حوار الحضارات وتعارف الحضارات، والارتقاء بمستويات التفاهم بين عالم الإسلام وعالم الغرب، والاهتمام بتحسين صورة الإسلام في الغرب، وتجديد المعرفة بمنظومة الأفكار المعاصرة كالحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها. وإذا بهذه الأفكار ترتد إلى الوراء وتتراجع؛ لأن العالم لم يعد يرى مشكلة غير الأصولية، ولم يعد يرى المجتمعات العربية والإسلامية إلا من خلال هذه المشكلة.
لذلك فقد تغيرت رؤية الخطاب الإسلامي لمفهوم التجديد وطريقة التعاطي معه، وأصبحت القناعة بهذا المفهوم حقيقة وفعلية وأولوية من أجل مواجهة التطرف والغلو والتكفير، والانتصار على نزعة العنف والإرهاب، والتغلب على هذه الأصولية المتحجرة، وترسيخ نهج الوسطية والاعتدال والتنوير.
وإذا كانت هناك بعض المخاوف والمحاذير من وجود ضغوطات سياسية ودولية تطالب بإصلاحات دينية وفق معايير معينة، ومع معقولية هذه المخاوف والمحاذير، إلا أنها ينبغي ألاّ تعطل أو تعرقل مهمة التجديد.
(2)
ماذا يعني تجديد الخطاب الإسلامي!
لماذا تأثر مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي بطبيعة المحددات الناظرة له، وهي المحددات التي كانت تتغير وتتبدل بحسب القضايا والمشكلات التي ظلت تعترض الخطاب الإسلامي في أزمنته المتغيرة والمتلاحقة، فهذه المحددات في رؤية الدكتور محمد إقبال ليست مجرد التناغم أو الملاءمة مع أوضاع الحياة العصرية، وحسب قوله "إن لهذا التجديد ناحية أعظم شأناً من مجرد الملاءمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها، وإن العالم الإسلامي وهو مزود بتفكير عميق نفّاذ، وتجارب جديدة ينبغي عليه أن يقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره"(8). وقد جاء هذا الكلام من إقبال في أواخر عشرينات القرن العشرين، ولعله أسبق المفكرين الإسلاميين حديثاً عن التجديد برؤية فلسفية جديدة، كما شرحها في كتابه الشهير "تجديد التفكير الديني في الإسلام".
وفي أواخر الخمسينات كانت هذه المحددات لها صورة أخرى في رؤية الدكتور محمد البهي الذي كان مسكوناً بهاجس الغزو الفكري والاختراق الثقافي والقيمي، وقد ارتبطت هذه المحددات عنده بمفهوم الإصلاح الديني في مجال الإسلام، التسمية التي يفضلها ويختارها على عبارة تجديد الفكر الإسلامي، ويعني به "محاولة رد الاعتبار للقيم الدينية، ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك، قصد التخفيف من وزنها في نفوس المسلمين. ونعني به كذلك محاولة السير بالمبادئ الإسلامية، من نقطة الركود التي وقفت عندها في حياة المسلمين إلى حياة المسلم المعاصر، حتى لا يقف مسلم اليوم موقف المتردد بين أمسه وحاضره، عندما يصبح في غده. والإصلاح الديني في مجال الإسلام بهذا المعنى ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، وبالفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا الفكر"(9).
وفي الستينيات عبر أبو الأعلى المودودي عن رؤية مغايرة من حيث طبيعة محدداتها، لأنه كان مهموماً بفكرتي الحاكمية والجاهلية، لهذا اعتبر أن "التجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان"(10).
وفي السبعينات كانت هذه المحددات في رؤية الدكتور حسن الترابي تتصل بعلل الفكر الإسلامي، والتي حددها في ثلاث نقاط هي:
أولاً: أن يتفاعل الفكر الإسلامي ويتصل بالأصول الخالدة التي انقطع عنها شيئاً ما بتقادم العهد.
ثانياً: الانقطاع عن العلوم والمعارف العقلية.
ثالثاً: انقطاع الفكر الإسلامي عن حياة الناس، وأصبح فكراً مجرداً(11).
ويتناغم مع هذه المحددات الرؤية التي طرحها الدكتور علي شريعتي في تلك الفترة أيضاً، حين ناقش مفهوم الإصلاح الديني، واعتبر أن لا إصلاح ديني في الإسلام "بمعنى إعادة النظر في الدين، بل إعادة النظر في رؤيتنا وفهمنا الديني، والعودة إلى الإسلام الحقيقي. من هنا أضحى الشعار الفكري والعقائدي لسائر كتابنا ومفكرينا، خصوصاً في جيلنا المعاصر الذي يشتد فيه الإحساس لهذه الحاجة، هو العكوف على إصلاح فكرنا الديني، يعني المعرفة الدقيقة والعلمية للإسلام، ونحن إذا لم نكيف رؤيتنا الدينية مع منطق العصر، ولم نتعرف على الإسلام الفاعل الإيجابي المسؤول، فمن المحتمل أن نضيع الكثير من أصولنا العقائدية خلال جيلين آتيين، وستفقد الأجيال القادمة أبسط الميل والتفاعل مع هذه الأصول، ويضحى لها الإسلام الواقعي والإسلام الخرافي على حد سواء"(12).
أما فـي الثمانينات والتسعينـات فقد تعددت وتباينت تلك المحددات تضييقاً وتوسيعاً، قبضاً وبسطاً، تشدداً واعتدالاً، بحسب طبيعة الميول والانتماءات الفكرية والثقافية، على طريقة ما يظهر بين التقليديين والتجديديين، المحافظين والإصلاحيين، لأن جميع هؤلاء على اختلاف وتعدد تلك الانتماءات الفكرية والثقافية أخذوا يتحدثون عن التجديد في الفكر الإسلامي والخطاب الإسلامي، والفروقات بينهم تظهر في أن التقليديين أميل بطبعهم إلى التضييق والقبض والتشدد، بخلاف الإصلاحيين الذين هم أميل إلى التوسيع والبسط والاعتدال، كما أن التضييق والقبض والتشدد في هذه الحالات لا تظل على درجة واحدة من الثبات وبدون تبدل أو تغيير، ولهذا فإن هذه الحالات لها أكثر من ذوق وصورة وفهم حتى بين التقليديين أنفسهم.
وأما الحديث عن التجديد في وقتنا الراهن، فلاشك أن تلك المحددات قد تأثرت بأحداث أيلول/ سبتمبر، وارتبط هذا التـأثير تحديداً بتغيير الرؤية إلى العالم، الرؤية التي تغيرت تقريباً عند مختلف الأمم والثقافات، والرؤية إلى العالم هي من المقولات الفلسفية التامة، والتغيير فيها يكون له شدّة وقوة على منظومات الأفكار، وهذا من طبيعة فاعلية وتأثير المقولات الفلسفية. وهذه المحددات قد ارتبطت بقضيتين، قضية الأصولية، وقضية الإرهاب، الأصولية قضية فكرية ناظرة إلى الجانب الذهني وهي تعبر عن نزعة الغلو والتطرف والتكفير، والإرهاب قضية سلوكية ناظرة إلى الجانب العملي وهي تعبر عن نزعة العنف والقوة والصدام. وهذا يعني أن الأصولية شوهت صورة الإسلام أخلاقياً، وكأن الإسلام يدعو إلى العنف، ولا يتوافق مع الآخر المختلف. لذلك أصبحت صورة الإسلام في العالم تارة تقترن بالتطرف، وتارة تقترن بالإرهاب. وهذا الذي ينبغي أن يتغير، وهي مهمة التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر. والتخلص من الأصولية بحاجة إلى تجديد داخلي على مستوى الذات، والتخلص من الإرهاب بحاجة إلى تجديد خارجي على مستوى الآخر. هذه هي السياقات والأرضيات الفكرية والموضوعية التي تبلور وتحدد فيها مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي.
والذي أراه في النظر لهذا المفهوم بعيداً عن تلك السياقات والأرضيات، ومحاولة فهمه بطريقة معرفية بعيداً عن المحاذير والالتباسات، وذلك بالنظر إليه من جهتين، من جهة تفكيكية يكون النظر فيها بقصد تحليل عناصر ومكونات المفهوم، ومن جهة تركيبية يكون النظر فيها بقصد تحديد المعنى العام والكلي لذلك المفهوم.
الجهة الأولى: تفكيك عناصر المفهوم.
أولاً: "تجديد" هذه الكلمة ناظرة إلى الآلية والطريقة التي بإمكانها أن تحقق فعل التجديد، ليكون للتجديد المعنى الناجز المتحقق. وبالتالي فإن البحث هنا هو في المنهجية، بمعنى ما هي المنهجية التي من خلالها نصل إلى التجديد ليتحقق بالفعل، وليكون المعنى له نسبة خارجية.
ثانياً: "الخطاب" هذه الكلمة ناظرة إلى طبيعة المجال الذي يتوجه إليه فعل التجديد، وهذا المجال هو بنية النص المتصل والمتفاعل بشرائط ومكونات الزمان والمكان والحال، أو ما يطلق عليه جمعاً وتركيباً بمفهوم العصر.
ثالثاً: "الإسلامي" هذه الكلمة ناظرة إلى مرجعية الخطاب، وهذه المرجعية يقصد بها مجموع القواعد والأصول والثوابت التي يرجع إليها ذلك الخطاب ويستند عليها ويتقوم بها. وبالتالي فهي ناظرة إلى محددات وجوهر التجديد.
وعلى ضوء هذه المحددات نستخلص النتائج التالية:
1- التجديد هو بحث عن الجانب المنهجي، ما هو المنهج أو المنهجية؟. والخطاب هو بحث عن الجانب المرجعي، بمعنى تكوين المعرفة بأصول هذه المرجعية وقواعدها ومصادرها.
2- التجديد هو بحث عن المنهج، والسؤال ما هو هذا المنهج؟ والجواب أن محددات هذا المنهج أمران، الأول هو الموضوع والمقصود به "الخطاب". والثاني هو الإطار العام أو الإطار المرجعي والمقصود به "الإسلامي".
3- "الخطاب" هو الجانب المتغير، و"الإسلامي" هو الجانب الثابت. وينبغي ألا ينفصل المتغير عن الثابت، كما لا ينبغي أن يفتقد الثابت إلى المتغير. فالثابت يعطي المتغير عنصر النظام الذي يحفظه من الفوضى والانفلات، والمتغير يعطي الثابت عنصر المرونة والحركة الذي يحفظه من التوقف والجمود.
4- الإسلامي هو المحدد والضابط لما هو "التجديد"، ولما هو "الخطاب". بمعنى أن لا يقود التجديد إلى خطاب غير إسلامي أو لا يتوافق مع الإسلام، وهذا هو المعيار الرئيسي والثابت في تحديد واختيار المنهج. كما أن الخطاب المستهدف في عملية التجديد هو خطاب يتصل بمرجعية الإسلام، وإذا لم يتصل بهذه المرجعية أو لا ينتمي إليها فهو خارج عن مجال البحث.
هذا من جهة "تفكيكية"، وأما من جهة "تركيبية"، يمكن القول بأن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يتحدد في نسقين، النسق الفكري الذاتي، والنسق الفكري الموضوعي.
وبحسب النسق الأول فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة اكتشاف الحداثة بالمعنى الإسلامي من داخل المرجعية الإسلامية، ولسنا بحاجة إلى الفكر الغربي في بناء هذه الحداثة بنسقها الإسلامي. وهذا المعنى له ثلاثة عناصر:
1- تغليب النزعة المعاصرة على النزعة التراثية القديمة، للتخلص من إشكالية الاحتباس في الماضي، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته.
2- اكتساب القدرة على مواكبة العصر وشروطه ومقتضياته، للتخلص من إشكالية الانغلاق، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع عصره.
3- اكتشاف مفهوم التقدم والتأكيد عليه، للتخلص من إشكالية الجمود، وهذا يرتبط بعلاقة الخطاب مع ذاته وعصره معاً.
وأما بحسب النسق الموضوعي فإن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي يعني محاولة تحديد صورة لهذا الخطاب تكون مفارقة ومغايرة عن حالتين، عن حالة الجمود والتحجر في الحالة الأولى، وهي حالة داخلية متوارثة من عصور الانحطاط والتخلف. وعن حالة التبعية والاستلاب في الحالة الثانية، وهي حالة خارجية متوارثة من عصور الهزيمة والسيطرة الغريبة.
فالجمود والتحجر لا يحمي هوية، ولا يحفظ تراثاً، ولا يصنع تجديداً بالتأكيد، والتبعية والاستلاب لا تخلق حداثة، ولا تبني تقدماً، ولا تصنع تجديداً بالتأكيد.
وتجديد الخطاب الإسلامي هو تعبير عن نقد ومفارقة لتلك الحالتين، والعمل على بلورة نموذج ثالث يتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، ويتواصل مع العصر ولا ينسحق به.
وهذا يعني أن التجديد هو في الرؤية الفكرية والمنطق الفكري للخطاب الإسلامي وليس في العبادات أو العقائد أو الأخلاق؛ لأن المشكلة ليس في العقيدة، وإنما في الفكر، وليس في الدين وإنما في الفهم البشري المتكون حول الدين.
(3)
لماذا لم يتجدد الخطاب الإسلامي؟
تجديد الخطاب الإسلامي يتوقف على سؤال لماذا لم يتجدد هذا الخطاب، أو لم يواصل استكمال عملية التجديد؟
والبحث في هذا السؤال يحتاج لمعرفة السياق الموضوعي والزمني الذي اتصل به الخطاب الإسلامي وأثر على اتجاهاته وتكويناته، وإلى هذه الحالات التي وصل إليها. إلى جانب عوامل وأسباب أخرى قد تتصل أو تنفصل عن ذلك السياق.
فما هو هذا السياق الموضوعي، وما هي الأسباب المعرفية والمنهجية التي أعاقت أو أخرت أو جمدت عملية التجديد؟
أولاً: القطيعة بين الفكر الإسلامي في مرحلتيه الحديثة والمعاصرة، الحديثة التي تنسب إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي وانبعاث حركة الإصلاح الإسلامي بزعامة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. والمعاصرة التي تنسب إلى النصف الثاني من القرن العشرين وتمثلت في مجموع الكتابات الإسلامية الصادرة والمؤثرة في تلك الفترة. والذي كشف عن هذه القطيعة المفارقات الكبيرة التي تظهر بين تلك المرحلتين، فقد أظهرت المقارنات بينهما بأن الفكر الإسلامي في مرحلته الحديثة كان على درجة من التميز والتقدم يفوق ما كان عليه في مرحلته المعاصرة. ولعل الدكتور رضوان السيد هو أكثر من حاول أن يلفت النظر لوجود هذه القطيعة والتأكيد عليها، والتي تتحدد حسب رأيه في أن الإشكالية الرئيسية للفكر الإسلامي الحديث كانت إشكالية النهوض والتقدم، بينما الفكر الإسلامي المعاصر إشكاليته الأساسية هي الهوية ومقتضياتها وأساليب حفظها. وبتأثير تلك القطيعة أصبح الغالب على الحقبة المعاصرة في التفكير الإسلامي، كما يضيف الدكتور السيد، هي في النكوصية، ويتمثل ذلك في اعتبار أن محمد عبده كان متقدماً على رشيد رضا، ورضا كان متقدماً على حسن البنا، والبنا كان متقدماً على سيد قطب، وقطب كان متقدماً على عمر عبد الرحمن(13).
وكثيرة هي الكتابات التي بلغت في وصف تلك المرحلة الحديثة بأوصاف التجديد والتحديث والإصلاح والتقدم كتأكيد على تميز تلك المرحلة وتقدمها. والقطيعة التي حصلت جعلت من الفكر الإسلامي المعاصرة لا يبني تصوراته وأفكاره بالاستفادة من التراكمات الفكرية والثقافية القادمة من تلك المرحلة الحديثة، لكي يواصل أو ينجز عملية التجديد.
ثانياً: إن ظهور الدولة العربية الحديثة ساهم في تراجع وركود الفكر الإسلامي، وذلك حين قطعت هذه الدولة صلتها الثقافية والمعنوية والمرجعية بالإسلام والمنظومة الإسلامية، وارتبطت في المقابل بمرجعية الفكر الأوروبي الذي أخذت منه كل ما يرتبط بتكوين الدولة، وتشكيل مؤسساتها، وصياغة أنظمتها وقوانينها وتشريعاتها، لأنها أرادت أن تكون على صورة الدولة الأوروبية الحديثة، ولكي تكتسب وصف الدولة العصرية، أو المغايرة لصورة دولة الولايات السلطانية التابعة للخلافة العثمانية.
لهذا فقد عملت هذه الدولة العربية الحديثة على إهمال كل ما يرتبط بالثقافة الإسلامية من مؤسسات ومعاهد وجامعات وأوقاف، وضيقت عليها إلى أن تحولت إلى مجرد آثار وذكريات تاريخية كجامعة القرويين في المغرب والتي كانت من أقدم جامعات العالم، وجامعة الزيتونة في تونس وغيرها.. وذلك على خلفية أن هذه المؤسسات إنما تنتمي إلى عصور التأخر والجمود، وأنها باتت قديمة وتقليدية، ولا تنسجم أو تتناغم مع مقتضيات ومتطلبات الدولة الحديثة، وكان البديل عنها هو الجامعات والتي نشأت بدورها أيضاً على أساس القطيعة مع منظومة الثقافة الإسلامية، والارتباط الكلي بمنظومة الثقافة الأوروبية باعتبارها تمثل مصدر التعليم الحديث والمعارف الحديثة.
ثالثاً: ما أصاب المؤسسة الدينية من أزمة في علاقتها بالعصور والمعارف الحديثة، حيث انغلقت على نفسها، وانشغلت بالعلوم القديمة والتقليدية، وقطعت جسور التواصل مع مجتمعاتها، وذلك على خلفية حماية كيانها من الغزو الفكري والاختراق القيمي، والتحصن من أي تأثر بالثقافة الأوروبية.
وهذا كان حال هذه المؤسسة مع بداية القرن العشرين، وتكرس هذا الوضع بصورة أشد بعد قيام الدولة العربية الحديثة، فهذا الوضع الذي كانت عليه المؤسسة الدينية لم يكن يدفع باتجاه تجديد الخطاب الإسلامي، بل كان يعارض ويصادم من يتبنى مثل هذه النزعات الإصلاحية والتجديدية، ولسنا بحاجة إلى جمع الأدلة والبراهين على ذلك لشدة وضوح هذا الأمر، كما أن كتابات الإسلاميين ورجال الدين منهم في هذا الشأن أصبحت كثيرة ومعروفة، وعلى المستويين السني والشيعي. والتغير المهم الذي حصل في واقع هذه المؤسسة كان في العقدين الأخرين من القرن العشرين خصوصاً على المستوى الشيعي لكنه لم يكن كافياً.
وهذا يعني أن تجديد الخطاب الإسلامي يتطلب تجديداً وإصلاحاً في واقع هذه المؤسسات الدينية.
ربعاً: انقطاع المثقفين والنخب الفكرية عن الثقافة الإسلامية، ففي الوقت الذي اندفع هؤلاء نحو الأفكار والمعارف الحديثة، وتمكنوا منها معرفياً ومنهجياً، والتي كانت ترجع في مصادرها إلى مرجعيات الفكر الأوروبي، ويقابل هذا الاندفاع انقطاع عن الأفكار والمعارف الإسلامية، وهذا هو منشأ الخلل والضعف. وهذه القطيعة أو الانقطاع أثرت على طبيعة تكوين رؤية هؤلاء للثقافة الإسلامية وطرائق التعامل معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الثقافة الإسلامية كانت بأمس الحاجة إلى خبرة هؤلاء المعرفية والمنهجية الأمر الذي لم يحصل.
خامساً: سلطة التراث وغلبة التقليد. وسلطة التراث قد تمثلت في جهتين، في جهة قوة حضوره وشدّة هيمنته على الأفكار والمعارف الإسلامية، وفي جهة صعوبة التعامل معه، أو الخروج عليه حيث اكتسب رهبة وهيبة كهيبة السلطة ورهبتها. وهناك العديد من المقومات التي كانت شائعة ومتداولة في مجال الدراسات الإسلامية وتكشف كيف أن التراث اكتسب سلطة، ومن هذه المقولات، مقولة "مخالفة المشهور مشكل وموافقتهم من غير دليل أشكل"، أو مقولة "ليس بالإمكان أبدع مما كان" أو "ما ترك السابق اللاحق شيئاً". والذي يراجع الفقه الاستدلالي كما يقول السيد محمد تقي المدرسي يجد كم تتكرر هذه الكلمات "لولا الشهرة أو لولا الإجماع المحكي لكن الرأي الفلاني مرجح. فالإجماع أو الشهرة قد يشكلان خلفية تكوّن الآراء، وإطاراً لفهم النصوص، وهذا يحدد مجال الاستنباط، ويجعله مجرد انتخاب رأي بين الآراء"(14).
سادساً: الاستبداد السياسي. الذي شكل مناخاً فكرياً يعارض اتجاهات الإصلاح والتجديد ويكرس اتجاهات التبعية والتقليد، وبين الاستبداد والعلم كما يقول الكواكبي حرب دائمة، وطراد مستمر، يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها.. أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إرادة مستبد تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل(15).
الهوامش
1- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي. محمد البهي، القاهرة: مكتبة وهبة، 1991، ص157.
2- المصدر نفسه. ص325.
3- انظر كتاب: الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات، منير شفيق، بيروت: دار الناشر، 1991م، ص68.
4- جمال سلطان، تجديد الفكر الإسلامي، الرياض: دار الوطن، 1412هـ، ص 61.
5- حسن الترابي، الفكر الإسلامي.. هل يتجدد؟، تونس: مكتبة الجديد، بدون ذكر التاريخ، ص23.
6- المصدر نفسه. ص23.
7- أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، القاهرة: دار الشروق، 1988م، ص43.
8- محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة، 1968م، ص206.
9- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مصدر سابق، ص329.
10- أبو الأعلى المودودي، موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، ترجمة: محمد كاظم سباق، بيروت: دار الفكر، 1968م، ص52.
11- انظر كتاب: الفكر الإسلامي.. هل يتجدد؟ مصدر سابق، ص23.
12- علي شريعتي، الأمة والإمامة، طهران مؤسسة الكتاب الثقافية، ص9.
13- انظر كتاب: سياسيات الإسلام المعاصر، رضوان السيد، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص7.
14- السيد محمد تقي المدرسي، التشريع الإسلامي مناهجه وأصوله، طهران: انتشارات المدرسي، 1411هـ، ج22، ص133.
15- عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دمشق: دار المدى، 2002م، ص44-47.