أحاديث الغربة والتغرب:
هذي مجموعة أحاديث أكتبها من وحي الذاكرة، ولخبرة حياتية تمتد لعشرات السنين قضيتهافي الغربة، بعيداعن مسقط رأسي وبلدي الذي حرمني منه الحكام الطغاة، لانالتهم رحمة الرحمن، ولاأعادتهم الأقدار، ليحكمواالعراق، بلد الخيرات والمقدسات إنه سميع مجيب.
عسى أن تجدوا فيها من العبرة والخبرة ماينفع الشاب في غربته والغريب في محنته.
ليسامحني من لايتفاعل مع الوقائع، ولكن هكذاهي الحياة فيهاالحلوالمسر، كمافيهاالعلقم المر، والصامدالمثابرمن تجرع مرها، كما إستذوق حلوها، وإلى أول حديث منها.
(الحديث الأول):
إستمالة شيوعي عراقي في بريطانيا
في الستينات من القرن الماضي، وفي فترة شبابي، كنت طالب بعثة في بريطانيا، وبسبب نشأتي الدينية وإلتزامي الديني، كنت قريبا من بقية الجنسيات الإسلامية، سنية وشيعية والمتواجدة في الكليات والجامعات وبقية المعاهد البريطانية. ولكون الحياة في بريطانية منظمة ومتطورة، وأجواء الحرية متاحة للجميع، في تأسيس الجمعيات والتجمعات الثقافية، كنت تجد في كل جامعة وكلية، جمعية إسلامية أوعربية أوشيوعية وغيرها.
فالطلبة أصحاب الميول الدينية، كانوا منخرطين في الجمعيات الإسلامية، وأصحاب الميول القومية في الجمعيات العربية وهكذا.
ولكن كان هناك تمييز معين بخصوص الجمعيات الإسلامية، وهو دمغها بالأخوانجية أو محسوبة على الإخوان المسلمين، حتى وإن كانت غيرعربية، أو شيعية. فالدعاية الناصرية كانت تصور كل نشاط إسلامي شبابي هو نشاط إخوانجي!!
ولم يكن للنشاط السلفي أي وجود ظاهرلكنه نمى لاحقا.
المهم كنا في الجمعية الإسلامية، خليط من الباكستانيين وكان عددهم كبيرا ونشيطا، والعرب من جنسيات مختلفة، عراقيين (الشيعة من المراكز الدينية النجف وكربلاء والسنة من الموصل ) وسودانيين ويمنيين ومصريين وإيرانيين وكانو ثوريين شئ ما، وصوماليين وأريتريين وقبارصة أتراك ومن غرب أفريقيا وشرق أفريقيا........الخ.
كنا إخوة متحابين في الله، فلا مذهبية مميزة ولا طائفية، وكنا متعاونين مع بعضنا، والقيادة كانت للطلبة القدامى، وكانت النشاطات تقتصرعلى إقامة الصلاة، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان، وإحياء المناسبات الدينية من أعياد وموالد وغيرها. وأهمها كان مساعدة الطلبة الجدد، للتكيف مع ظروف الحياة الجديدة في بريطانيا.
الشيوعيون العراقيين، كانوا منظويين تحت إسم جمعية الطلبة العراقيين، وكان أحدهم شرس جدا، وكثير التحرش بأعضاء الجمعية الأسلامية، ونعتهم بالعمالة لإسرائيل وأمريكا، وأنهم عملاء إستعماراخوان المسلمين. وكنا نتحاشاه لشراسته وسوء أخلاقه.
كان يعمل على تمزيق إعلانات الجميعة الإسلامية، أو تلطيخها بالحبر الأسود، وكان يحضر إجتماعات الجمعية لخلق المشاكل والشوشرة.
إختفى لفترة هذا الشيوعي العراقي، وعرفنا بأنه مريض في المشفى، فعقدنا العزم على زيارته، مع صديق مؤمن سوداني، وأحضرنا له بعض الفاكهة والمجلات ، وخطط الأخ السوداني، بأن يشتري له كتاب نكات، وغلفه بغلاف يوحي للرائي بأنه مصحف.!!!!
زرناه في المشفى فوجدناه لوحده، فأستغرب من زيارتنا له، وأنبهر بما أحضرنا له من فاكهة، ولاطفناه وطيبنا خاطره، وبدى عليه الخجل، فكان يقول: لا أكاد أصدق بأن يزورني أخوان المسلمين في المشفى بعد كل المشاكل التي عملتها لهم.
قلنا له: لا عليك نحن إخوتك، وإن ظرفك يستدعي الجميع، أن يزورك. فقال وأنتم أول من زارني، وبدأ يعتذر،عن أفعاله، وينصحنا بأن نكون وطنيين، وإن نترك العمالة لأمريكا. كنا نشفق عليه وعلى كلامه، وهنا بدأ الأخ السوداني في ذكر بعض النكات له! فأنبسط وأنشرح للنكات وضحك كثيرا.
وقبل مغادرتنا، ناوله الأخ السوداني الكتاب. فغضب، وقال: عرفتم كيف تأثرون علي بإستغلال ظروف مرضي، فجلبتم لي هذا المصحف، وأوعدكم بأنني سوف أقرأه، ولكن لن يغير من مبدأي شئ.
قلنا له أفتحه وسوف يشفيك مما أنت فيه! فحنق أكثر، وعندما فتحه وجده كتاب نكات فأنكسر، وبان عليه الخجل، وظل مطرقا. فأعدناتطييب خاطره، وقلنا له لا يهم، نحن لانزال أخوتك وودعناه تاركين المشفى.
وبعد خروجه من المشفى، كان أول عمل قام به! هوزيارتنا. ليقول لنا بأنه لم يسعد بزيارة مثل زيارتنا، وتغير الرجل تماما. وبدأ يحضرمعنا في نشاطاتنا، وفي فترة لاحقة بدأ يحضر حتى للصلاة معنا. وحتى زملاؤه تعجبوا من تغييره!! فكان يقول لهم لقد هداني الله وأضلكم، وأنهى دراسته بنجاح. في حين تخلف بعض زملائه في الدراسة. وكان دائما يقول كل ذلك، بفضل الله والأخوان المسلمين.
وإلى حديث آخر.