-
تأملات في الكتابة والحياة / د.العالية بنت ماء العينين
تأملات في الكتابة والحياة / د.العالية بنت ماء العينين
قال أديب افريقيا الكبير، الحكاء والشاعر السينغالي بيراغو ديوب BIRAGO DIOP ردا على سؤاله، عن بداياته في كتابة الحكايات، بأنه كان يشعر بالملل في مزاولة عمله اليومي كطبيب بيطري فتذكر حكايات الطفولة وما قرأه أو حُكي له، وكانت تلك البداية. (1)
رغم ان سؤال الكتابة، شائع ويكاد يكون نمطيا من كثرة طرحه على الكتاب، إلا انه يظل سؤالا لا نهائيا يلفه الغموض، يتأرجح بين ثابت قد يكون حبلا سريا يربط كل الذين يكتبون، ومتحول يجعله، مرتبطا بحالة فردية وتجربة خاصة توصل صاحبها إلى الكتابة.قد يبدو جواب الأديب السينغالي، صادما ومخيبا لمن ينتظرون دائما إجابات مدهشة لارتباط “الكتابة” عندهم بالدهشة والقوة الخفية والساحرة ربما. هذا الجواب البسيط والعفوي، واللامبالي، بالنسبة لهم، لا يليق بفعل ارتبط بالقداسة والسمو والتميز ليقترب من درجة عالية من المثالية، تجعل الكتاب، احيانا يتفننون في افتعال أحداث غريبة وطقوس عجائبية تليق بمقام “السؤال”.ولأن فعل الكتابة عظيم، فإنه بالنسبة للبعض، لا يكون إلا استجابة لطلب أو رجاء. وكأن هذا الامر الجلل لا بد له من دافع قوي. فقد كان القدماء يذكرون في “افتتاحيات مصنفاتهم ان شخصا طلب منهم إنشاء كتاب في موضوع من المواضيع، لا يسمونه عادة، وقد يكون ذا نفوذ أو مجرد صديق” (2)في مقدمة كتابه الرائع عن الحب” طوق الحمامة في الالفة والالاف” يقول ابن حزم: “وكلفتني أعزك الله ان اصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه واعراضه وما يقع له على سبيل الحقيقة…” ورغم أن الأديب لم يذكر اسم من طلب منه ذلك -على عادتهم- ولكن من الواضح من أسلوب الخطاب أن الشخص له مكانة عظيمة. وعلى نفس المنوال، يشير الجاحظ إلى انه ألف كتابه “البخلاء” نزولا عند رغبة أحد عظماء الدولة ولم يذكر اسمه.بل إن الامر قد يتجاوز ذلك إلى سبب خفي أو قوة غير محسوسة عندما يصبح الطلب أو الامر بالكتابة، عن طريق الحلم كم حدث مع الزمخشري في “مقاماته”، يقول في افتتاحها متحدثا عن نفسه بضمير الغائب” والذي ندبه لإنشائها أنه أُرِي في بعض اغفاءات الفجر كأنما صوَّت به من يقول له يا أبا القاسم اجلٌ مكتوب. واملٌ مكذوب…”(3)وبالعودة إلى ما قاله “ب- ديوب،” وإن بدا جوابا غريبا، إلا انه يثير الانتباه إلى بعض الحالات التي تكون فيها الكتابة وليدة ظروف خاصة تجعل الكاتب يتخذ القرار. ويذكرنا هذا الأمر بكتاب الحماسة لابن تمام وهو واحد من أهم المختارات الشعرية في الخزانة الادبية العربية. يحكى في سبب كتابته، ان أبا تمام كان في إحدى رحلاته، عائدا من خراسان إلى بغداد ولكن سقوط الثلوج قطع عليه الطريق ومنعه من السفر، وقد كان حينها ضيفا لدى صديقه أبي الوفاء بن سلمة في همذان، وقد أثقل عليه الأمر وضاق به صدره ” فما كان من صديقه إلا ان وضع مكتبته بين يديه وطلب منه أن يوطن النفس على الإقامة فالثلج لن ينحسر إلا بعد زمن…وهكذا بدأت رحلة الاختيار والانتقاء لدى شاعرنا…وولد كتاب الحماسة “(4)نلاحظ هنا أن هناك تشابها بين حالة ب-ديوب وأبي تمام فكلاهما وجد نفسه في حالة “ملل” فرضتها عليه ظروف حياته فكانت دافعا للكتابة.لكن الكتابة قد تكون أيضا قرارا شخصيا وتحديا علميا للدفاع عن هوية خاصة أو عامة. ومن ذلك ما وجدناه عند لسان الدين الخطيب الشاعر والوزير الاندلسي والذي قال بانه ألف كتابه المشهور” الإحاطة بأخبار غرناطة” عندما تذكر مجموعة من المؤلفين الذين افردوا مؤلفات للحديث عن أوطانهم جعلته يتخذ قرار الكتابة عن بلده.يقول: ” فداخلتني عصبية لا تقدح في دين ولا منصب وحمية لا يذم في مثلها متعصب، وجعلت هذا الكتاب …” (5).
وإذا كان ذو الوزارتين لسان بن الدين بن الخطيب قد ألف هذا الكتاب للدفاع عن الاندلس، فإن ياقوت الحموي ألف كتابه المشهور “معجم البلدان” الذي يعد من أشهر الموسوعات العربية، لاقتناعه بقوته العلمية في هذا المجال ومسؤوليته في توثيق هذه المعلومات التي تفتقدها الساحة العلمية العربية، ويدل على ذلك الحكاية التي أحاطت بتأليف مؤلفه المذكور، ذلك انه حدث خلاف بينه وبين احد الناس حول اسم “حباشة” وهو موضع ورد في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى ياقوت أن الحاء مضمومة- وهو الصحيح- ورأى غيره أنها بالفتح ، فقال ” فأُلقي في روعي افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشـأن مضبوطا، وبالإتقان وتصحيح الالفاظ بالتقييد مخطوطا ليكون في مثل هذه الظلمة هاديا وإلى ضوء الصواب هاديا.” (6)العلاقة بين الكتابة والحياة، ومهما اختلفنا في طبيعتها أو أهميتها فإنها ثابتة راسخة رسوخ الحرف في وجدان الأمم والحضارات، ويبقى الإنسان حامل وقودها والساهر على وهجها. علاقة عطاء متبادل ومجرى هواء للحياة ومياه للارتواء…الكتابة، أيضا مقاومة وفرصة أخرى للحياة وهي أيضا سبيل للتغيير وما أكثر النماذج التي غيرت الكتابة مسارها الخاص وبالصدفة، كما حدث مع الكاتب الإنجليزي ريتشارد آدامز RICHARD ADAMS الذي ألف أول أعماله الروائية وقد تجاوز الخمسين من عمره ويتعلق الامر بروايته الشهيرة watership down والتي كتبها بطلب من طفلتيه بعد أن كان يقصها عليهما خلال رحلة طويلة كنوع من التسلية. فاستجاب لهما وكتبها ثم قام بنشرها. وكانت بداية تاريخ حافل بالكتابات والجوائز والتكريمات. والرواية من نوع المغامرات الخاصة بالأطفال، أبطالها أرانب.وتذكرنا هذه الحكاية بقصة واحدة من أشهر كتاب هذا القرن وهي الإنجليزية جي كي رولينج J.K ROWLING مؤلفة روايات هاري بوتر الشهيرة.
هذه الأم المطلقة، التي كانت تعاني من حياة صعبة، نتيجة تعرضها للعنف الزوجي وفشلها في إيجاد سبيل لحياة مستقرة، بدون عمل وبين يديها طفلة رضيعة وتقيم مع اختها. في ظل هذه الظروف، وحالة الاكتئاب التي تعيشها والتي جعلتها تفكر مرارا في الانتحار، تذكرت العمل الوحيد الذي أحبته في حياتها وهو “الكتابة” فرجعت إلى استكمال عمل كانت قد بدأته قبل تجربتها الفاشلة في الحياة، ذات سفر في القطار حيث وجدت نفسها تتخيل عوالم سحرية، ثم بدأت بالكتابة عنها. وبعد رفض اثنتي عشر دار نشر مختلفة نشر الرواية، فتحت أمامها فرصة قدمها لها مدير نشر bloomsbury والذي ساهمت ابنته التي اعجبت بعوالم الرواية، في إقناعه بقبول نشرها ورغم ذلك بقي مترددا وطلب منها إخفاء اسمها الكامل حتى لا ينتبه القراء إلى انها امرأة…اليوم تعتبر رولينج واحدة من أهم “الروائيين” في هذا العصر ومبيعاتها جعلتها أول روائية مليارديرة في العالم.هل الكتابة، قوة خفية، او فرشاة ساحرة؟ هل الكتابة من علامات النجاح أو السعادة او الشهرة؟ قد تكون كل ذلك، ولكنها ليست فقط ذلك؟ هي أيضا وجوه أخرى للحياة عناوينها، المقاومة اليأس، الاكتئاب، الضعف، الخوف والحزن الأبدي…تجارب كثيرة لكتاب كبار صاحبتهم الكتابة ولم تمنع مصائرهم الحزينة والقاسية، ، فرغم القوة الكبيرة التي تمتعت بها أعمالهم والجاذبية التي شدت إليهم جماهير من القراء من مختلف العوالم والامكنة والأزمنة، إلا انهم لم يستطيعوا تجاوز حالات الضعف والكآبة والخوف التي حاصرتهم ودفعتهم إلى مصائر مأساوية….أرنست همنجواي الخائف من الجنون والهارب منه إليه، رغم كل ما حققه من نجاح أنهى حياته برصاصة في رأسه. سيلفيا بلاث، ذات الثلاثين ربيعا، في قمة شهرتها وغزارة انتاجها الادبي، من الكتب والدواوين والروايات، تضع رأسها في فرن غاز لتموت اختناقا، بسبب اضطرابات نفسية وعدم تحمل خيانة الزوج /الحبيب. الشاعر خليل حاوي، لم يتحمل دخول جيوش الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت في عام 1982 فأطلق النار على رأسه…ونماذج أخرى كثيرة لكتاب امتلكوا قدرة الإبداع والإدهاش وإلهام العشاق والمريدين وعجزوا عن مواجهة الحياة واستسلموا للضعف والخوف….
ولكن هل هُزموا فعلا؟في كتاب أصدره مجموعة من الباحثين المتخصصين في الادب الإنجليزي والمحللين النفسانيين، تحت عنوان “فيرجينيا وولف- الكتابة ملجأ ضد الجنون”(7)، قرروا بأن فيرجينيا وولف التي عانت من طفولة، تعرضت فيها لاغتصاب من طرف اخوتها ورحيل أمها المبكر وفقدان الاب والاخت …وكل ما مرت به من مصائب، لا يمكن النظر إليها كنموذج لحالة نفسية مرضية، ولكن يجب أساسا التركيز على مقاومتها بالكتابة ضد الآلام الوجودية التي عاشتها..نعم رغم النهايات المأساوية إلا ان الكتابة ساعدتهم على الانتصار والاستمرار في الحياة وما بعد الحياة..2 غشت 2019الهوامش
1-​LES GRANDES VOIX DE L’AFRIQUE – RFI- AOUT 2016
2-​”لن تتكلم لغتي ” عبد الفتاح كيليطو ط1 ص 86
3-​” مقامات الزمخشري” الطبعة1 ص 10/ وكتاب “الادب والغرابة” – ع. كيليطو ص88
4-​”شرح ديوان الحماسة لأبي تمام ” – الطبعة الأولى – تأليف الخطيب التبريزي ص4
5-​”الإحاطة في اخبار غرناطة “– لسان الدين بن الخطيب – الجزء 1 ص 89 – تحقيق عبد الله عنان
6-​” معجم البلدان” المقدمة – ياقوت الحموي
7-​”VIRGINIA WOOLF – L’ECRITURE REFUGE CONTRE LA FOLIE
Ouvrage Collectif dirige par STELLA HARISSON
التعديل الأخير تم بواسطة محمود المختار الشنقيطي ; 11-03-2019 الساعة 07:26 AM
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى