الكتابة .. هي الحل
مقالات ملفقة ( 34\2)
بقلم ( محمد فتحي المقداد )
جاءت الكتابة في المقام الأول في تاريخ البشرية، نتيجة للتعلم، وهي فنٌ مكتسب اقترنت مع مهارة القراءة المكتسبة أيضاً، بذلك تكون الكتابة هي هدف القراءة الأبرز، حيث أنها سابقة عليها كمرحلة أولى، الكتابة تستلزم القرطاس و القلم، عندما تطورت الحال من النقش على الحجر و الطين والخشب وغير ذلك، وهي احتراق داخلي للكاتب، وفضيحة تكشف كثيراً من دواخله.
في بيتنا القديم بجانب الجامع العمري في مدينة بصرى الشام، جنوب سوريا، وفي التحديد في غرفة جدّي، كانت هناك ( كُتبيّه ) عبارة عن فجوة في الحائط السميك، على شكل مستطيل، لها باب وقفل و برواظ، بمثابة مكتبة يحتفظ فيها بمجموعة من الكتب التي كان يمتلكها آنذاك.
كلمة كَتَبَ مثيرة بما لها من دور في حياتنا، و من كتَبَ كِتاباً وكتابة، و الكِتاب أيضاً له دلالة على الفرض و الحكم و القدر، ( كتب الله على نفسه الرحمة ) و ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم )، أي فُرض عليكم. و للتعبير عن الضيق و التأفف في المثل الشعبي من أمر ما، بقولهم ( شو هالكِتْبَهْ )، أي ما هذا الذي فرض علينا بغير إرادتنا.
الكاتب عند العرب، هو العالم العارف، ومنه قوله تعالى: ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون) فإذا كانت الكتابة رديئة الخط غير واضحة، يقال عنها: ( خرابيش جاج - دجاج - ) لصعوبة و تعسّر قراءتها. وفي دوائر الدولة تعتبر وظيفة الكاتب في بداية تعيين أي موظف، فيكون كاتباً في الديوان، أو المحاسبة، أو غير ذلك مما يحتاجون إليه في أي عمل يستطيع القيام به. كما أنه في جمهورية تونس تعتبر تسمية كاتب الدولة ( وزير الدولة )، هو وزير بلا وزارة، ويكون عضوًا في مجلس الوزراء وله حق التصويت. يرتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء.
و الكاتب يجمع على كُتّاب بالضم و التشديد، و الكَتَبة، وقد أصبحت اتحادات للكتاب الذين امتهنوا الكتابة، كالأدباء و الشعراء و الروائيين و المثقفين. وكان الكُتّابُ أو المكتب، هو المكان الذي يقوم بتعليم الأولاد مبادئ الكتابة و القراءة بداية من الأحرف الأبجدية، صعوداً إلى تعليم القرآن، وكان المعلم يطلق عليه لقب شيخ، وهذا ما وعيته في صغري، من كُتّاب الشيخ ناصر الأيوب الكفيف رحمه الله، الواقع جنوب الجامع العمري مباشرة بمحاذاة البوابة الشرقية، وإلى الشرق من الكُتّاب تقع القناطر القديمة. وهذه الكتاتيب كانت تقوم بدور المدارس الحكومية الآن، و لها الفضل في محو الأمية في مجتمعات الأرياف خاصة.
يعتبر (عبد الحميد الكاتب )، وهو عبدالحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب القرشي، من أعلام الكتاب في القرن الثاني للهجرة، فارسي الأصل عربي الولاء. عمل أخيرًا كاتبًا أول للدولة الأموية على عهد (مروان بن محمد) آخر خلفاء بني أمية. قتل مع خليفته على يد العباسيين عندما تولوا الحكم. وقد ارتقت على يديه صناعة الكتابة، و عُدّ من أساتذة البلاغة العربية، ورائد كتّاب الرسائل عامة، وطور الرسائل بكثرة التحميدات في صدر الرسالة، وبالتوسع في المعاني والعناية بترتيبها ووضوحها.
ورواية ( نجمة ) المترجمة للعربية عن الفرنسية ، وهي الأشهر بين روايات الأديب الجزائري ( كاتب ياسين )، المشهور عالمياً، و كل كتاباته باللغة الفرنسية. أما عبد الرسول عبد الزهرة عبد الأمير بن الحاج حبيب الأسدي، فهو الاسم الحقيقي للباحث العراقي (أحمد الكاتب)، فكان هذا الاسم الذي وقّع به كتبه ومؤلفاته العديدة، وهو من أعلام حركة إصلاح التراث الإسلامي ولد في مدينة كربلاء التاريخية بالعراق عام 1953م، نشر كتابه (الحسين كفاح في سبيل العدل والحرية)، قدم فيه قراءة جديدة مغايرة لما كان متعارفاً عليه بين الأوساط الدينية الشعبية، من أن الحسين قتل مظلوما فقط، وأن الله قدر له أن يُقتل في كربلاء. وفي عام (1971) ألف كتابه الثاني (تجربتان في المقاومة)، عن ثورة التنباك في إيران، وثورة العشرين في العراق، ودور المراجع والعلماء في قيادة الثورة. وأصدر عدة كتب أثارت جدلاً لم ينته حتى الآن في الأوساط الشيعية، من أهمها (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه)، و(السنة والشيعة ، وحدة الدين ، خلاف السياسة والتاريخ). وهو صاحب تيار فكري ربما غرد خارج السرب، وتفكير خلاف السائد، جدير بمتابعته فكرياً.
أما الكتيبة في الجيش، هي المتكونة من ثلاث سرايا، وكل ثلاث كتائب تكون نواة لواء، وقد تلجأ الكثير من الصحف و الجرائد، للطلب بـ (اسْتِكْتَاب ) المثقفين و الأدباء و المحللين السياسيين في قضايا الساعة، مقابل أجر مادي متعارف عليه، ومن ( اكْتَتَبَ) أي كتب، ومنه قوله تعالى ( اكتتبها )، ومن كتب نفسه في ديوان السلطان، و استخدم مصطلح الاستكتاب على بيوت و شقق الجمعيات السكنية، أو على أي شيء آخر.
وقد جاءت تسمية كاتب بالعدل من آية الدين في آخر سورة البقرة ( وليكتُبْ بينهُما كاتبٌ بالعدل) وانسحبت صفة ( كاتب العدل ) على موظف المحكمة، الذي يقوم بتوثيق العقود على اختلاف أنواعها، يفترض به أن يكون موضع أمانة وثقة لتحقيق العدل. وفي صدر الاسلام، كانت (المُكاتبة و التكاتُبْ ) بمعنى أن العبد يكاتب سيّده على نفسه بثمنه، لاعتاق نفسه من ربقة العبودية.
و للخروج من مآزقي الكثيرة، لجأت للكتابة حين وجدت فيها الحلّ، لتبيان مما استشكل في ذهني من أمور للتوضيح، وخاصة فئة ( الكَتَبْجِيّه ) هذه الكلمة المعبرة بدلالة استخدامها على المخبرين المؤذين بتقاريرهم الكاذبة، و يتجنبّهم الناس اتقاء شرّهم.
آمنتُ أن الكتابة هي الحل، عندما تؤرخ فضائح المتآمرين و الخونة، وتغوص في ثنايا الحاضر في محاولة لحلحلة المشاكل، وتذليل الصعوبات، وتجعل تتطلع لآفاق المستقبل وهي ترسمه مزروعاُ بالأمل و التفاؤل ونحن خطانا بهمة عالية للوصول.
آمنتُ أن الكتابة هي الحل، وأن ما كُتبَ سيقرأ، وما بقي شفاهية تتناقله الألسن سينسى، ويموت بموت صاحبه، فمن استطاع الكتابة.. فليكتُبْ لقادم الأجيال.
عمّان \ الأردن
21 - 9 - 2015