تحليل سياسي لحقيقة ما يحدث في الوطن العربي من أحداث وتطورات ؟
الباحث : عبدالوهاب محمد الجبوري
البعض يرى أن ما تشهده بعض الدول العربية من أحداث يدعو إلى وقفة حقيقية أمامها لتفهم طبيعتها وأبعادها ، ويعتبر هذا البعض هذه الحوادث مؤشراً على دخول المنطقة مرحلة غير مسبوقة وغير واضحة الأهداف والمعالم .. ويشيرون إلى أن معالجة أية مشاكل ومواصلة أعمال البناء والإصلاحات لا تتمان إلا من خلال وجود أمن واستقرار والتحلي بالحكمة والحوار في الحفاظ على إدارة الشؤون الداخلية واختيار الطريق السليم للتطور المستقبلي الذي يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة..
والبعض الآخر يرى في انتفاضة الجماهير العربية وثورتها نوع من الفوضى وتدعيم التطرف باسم تغيير الأنظمة وإملاء الشروط على الشعوب ويرى أن هذا الأمر يرفضه المجتمع الدولي وتستنكره العقيدة الإسلامية – حسب ادعائهم - وهو ما يفرض اليقظة تجاه المؤامرات التي يحـيكها أعداء الأمة العربية والإسلامية على حد تعبيرهم ..
في هذا المقال سنلقي الضوء على ما تشهده المنطقة العربية من أحداث ومتغيرات لأول مرة منذ عقود طويلة ، ونأتي على حالة التأزم التي تعيشها بعض الأنظمة العربية القمعية تجاه شعوبها وواقع الأمة المتردي والحالة المأساوية التي وصلت إليها الشعوب في ظل حالة الضعف العربي المصحوبة بإجراءات القمع وكبت الحريات وممارسة القهر والاستبداد ومصادرة الحريات فضلا عن تفشي الفقر والجوع والبطالة وانتشار الفساد بكل أشكاله .. الخ
فما حدث من تحولات ثقافية وسياسية في تونس ومصر ويحدث حاليا في ليبيا وعدد آخر من الأقطار العربية ، يؤكد أن العالم العربي يسير في طريق آخر غير الذي كان عليه قبل سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، مما يقتضي الوقوف قليلا عند تلك المتغيرات وأسبابها والمحفزات التي أدت لحدوثها ، ومنها نتوقع أن تتغير تدريجيا خارطة الوطن العربي والسياسات العربية الداخلية والخارجية منها ، ونؤكد على أن السنوات المتبقية من العقد الراهن لن تمضي دون أن تترك بصماتها وآثارها الاستثنائية على تلك الخارطة السياسية والجيوسياسية المستقبلية للعالم العربي ..
يرى بعض المحللين ، ومنهم الدكتور لؤي صافي ، أن عاملا من عوامل الحكم والسياسة بين الشعوب والحكومات قد بدأ بالتغير جذريا منذ المرحلة الفاصلة بين العقدين - ونقصد – تحديدا ما يطلق عليه بالخطاب السياسي الرسمي ، وخصوصا ذلك الذي كان يبرز بين الحين والآخر بما تقتضيه الضرورة السياسية فيدفع الرؤساء والحكومات إلى مخاطبة الشعوب والتواصل معها ، أو بمعنى آخر توجيه رسالة معينة لها ..
وطبعا فان تحليل هذه الظاهرة وقراءتها قراءة صحيحة يحتاج إلى أن تتشارك في ذلك التحليل وتلك القراءة العديد من العقول والجهود السياسية منها والإعلامية والسيكولوجية والتاريخية ، وكما يقول سيرغييف في كتابه : مناهج التوقع في السياسة ، من أن عملية تحليل الظواهر السياسية عملية صعبة ومعقدة ، فقبل كل شي يجب اللجوء إلى العلاقات الاجتماعية والطبقة الموضوعية القائمة في مجتمع ما ، وفي لحظة ما ،ومن الجهة الأخرى يجب التأكيد على الجهود العقلية الواعية التي يبذلها الـناس بغية التغــير والتحول أو حتى الحفاظ على الوضع القائم ..
فإذا ما تحدثنا عن الخطاب السياسي الرسمي العربي ( سنلاحظ حدوث تحول في هذا الخطاب في العقدين الأخيرين نتيجة هبوب رياح الديمقراطية على المنطقة ونتيجة الثورة المعلوماتية والتقنية التي حطمت جدران العزلة التي كانت تفرضها النظم على شعوبها ) وهذا يعني أن ثقافة المجتمع وقدرة أبنائه وطبقاته الاجتماعية والنخبوية والمتغيرات الدولية قد فرضت نفسها على شكل وأسلوب الخطاب السياسي الرسمي العربي في القرن الجديد .. وفي هذا نشير إلى أمرين مهمين في هذا المجال :
النمط الكمي : فقد تزايدت في الآونة الأخيرة الخطابات الرسمية الموجهة من قبل الحكومات إلى الشعوب وذلك نتيجة الحاجة الملحة لذلك التسارع الناجم عن تلك التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية التي استجدت على الساحة العربية والدولية ..
والنمط النوعي : حيث لم يتوقف التغير عند حدود الكم والعدد إذ وصل ذلك إلى الأسلوب وطريقة الخطاب والتوجه الثقافي والسياسي واللغوي حيث بدأ واضحا على الكثير منها الرضوخ لمطالب الشعوب وإرادتها ، كما اتضح على بعض النماذج منها الارتباك والعاطفة والاستجداء والضعف والخوف وهو على عكس الخطابات السابقة والتي كانت اقرب إلى الرسائل الحازمة والسلطوية ..
من هنا يمكن القول أن مرحلة زمنية معينة انتهت من عمر ذلك الخطاب العربي الرسمي الذي كان يعاني من التقهقر والبعد عن الشارع وهموم الناس بعد أن تأكد للشارع العربي ، كما اشرنا آنفا ، أن الأفكار التي كانت تحملها الطبقة الحاكمة لم تعد مقنعة للجماهير وان تلك المبادئ والأفكار والسياسات والتوجهات لم تعد مفيدة للمجتمع وغير ملبية لطموحات الطبقات المتوسطة والفقيرة .. بمعنى حدوث تخلخل أو شبه انهيار في منظومة التواصل الثقافي والفكري بين طرفي الحكم في الدولة ... الشعب والحكومات أو الشعب والنظام ..
وعن هذا يحدثنا الباحث الأستاذ محمد سعيد الفطيسي ( إن حالة الاختناق التي انتابت التعبير السياسي الرسمي العربي في مواجهة حالة الانحدار العام والاختراقات الأمنية التي لم تشهد المنطقة مثيلاً لها منذ عقود ، كما تبدو في الاحتلال والتدخل العسكري والأمني الأجنبي وتراجع مكانة العالم العربي في المستوى العالمي ، هذه الحالة المعبرة عن مضامين عجز السلطة الرسمية قد صاحبها تحولان أساسيان غاية في الأهمية ، الأول : هو التحول من نموذج دولة الدور السياسي ، أي البحث عن الإقليم المركزي إلى البحث عن الدولة الوطنية النموذجية ، والثاني : التحول في الخطاب السياسي الذي ينتجه قادة الرأي والمثقفون ، أي العقلانية الجديدة ، وكل منهما يحتاج إلى معالجة خاصة ) ..
واقرب تصور لتشريح الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة التي تمر بها كياناتنا ومجتمعاتنا العربية اليوم ، هي فشل أو إفلاس الايدولوجيا السياسية للأنظمة القائمة ، وهو ما دفع شعوب المنطقة إلى التحرك لإيجاد أيديولوجيا جديدة تساعد على ربط السلطة والنظام بالشعوب .. بمعنى وصول الأنظمة إلى مرحلة الشيخوخة السياسية وعجزها عن إقناع الجماهير باستمرار المبادئ والأفكار التي حملتها منذ عقود طويلة والتي أصبحت متناقضة مع أفكار الشعوب وطموحاتها وتوجهاتها العصرية وهو ما دفع تلك الشعوب بالتدرج إلى البحث عن أفكار جديدة وأيديولوجيا سياسية أخرى ..
أما عن مناخات انتشار هذا التحرك الجماهيري وامتداده إلى دول عربية عديدة فقد يكون راجعا لحالة التأثير المتبادل بين الشخصيات القيادية الجديدة وأفكار التحول والتغيير التي تحملها وبين الشعوب والجماهير العربية في الدول التي تتعرض للقمع والاضطهاد والظلم ...
فالتأثير المتبادل للشخصيات والشعوب ، مثله مثل التأثيرات المتبادلة بين الشعوب والأحداث التاريخية وكما يقول المحلل الاستراتيجي شبنجلر : (إن الأحداث العظيمة تحمل مسؤولية مرحلتها والنهوض بشعبها ، وهو ما قد يدفع بقية شعوب العالم إلى الاحتذاء والاقتداء بتلك الشعوب والمكونات الاجتماعية ، في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية ) ..
وهذا ما يجعلنا نفهم الأسباب التي أدت إلى الأحداث الأخيرة على الساحة العربية ، ومن المؤكد أنها ستستمر لتشمل أجزاء أخرى من عالمنا العربي خلال السنوات القادمة ، حيث لم تعد الجماهير تؤمن سوى بأفكارها وأفكار قياداتها الجديدة ..
بمعنى لم تعد تؤمن أو تصدق أفكار حكامها وقادتها وزعاماتها التقليدية التي حكمت فترة طويلة دون تغيير ودون إحداث تطورات وتحولات لصالح الجماهير ومعبرة عن أفكارها وطموحاتها وهمومها .. كما يمكننا التأكيد على أن السنوات القليلة القادمة ستشهد الكثير من التحولات الفلسفية والتغيرات الثقافية على صعيد أشكال وأساليب ولغة الخطاب الرسمي العربي ، فهذه المرحلة التي نشهد تسارع تراكماتها الأيديولوجية والسسيولوجية على المشهد السياسي العربي اليوم تعد المرحلة الأخيرة لشكل ومضمون خطابات الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي ..