غاب عنا نجيب محفوظ ، وغيب الموت أستاذا تعلمنا منه إحترام الوقت ، ودقة الموعد والإخلاص للعمل والتفاني بحب الوطن.غاب "محفوظ" كأي مخلوق لا بد أن يقع عليه سيف الموت ، بعد أن ترك لنا مدرسة في الأدب ، ونهجا في الولاء للدولة التي كان يبادر بنفسه لدفع ما عليه من مستحقات مالية لها ، مات "نجيب محفوظ" بعد أن أرسى قواعد مدرسة الانضباط في العمل وإحترام الدوام وعبادة الوقت.من لا يقرأ إبدعات محفوظ ، لا يرقى للإنضمام لكوكبة الأدباء، و من لم تستوقفه شطحاته الفلسفية، لا يمكن أن يتذوق الفكر.ُعرف نجيب محفوظ بغزارة الإنتاج على مدى عمرة، حتى حالت صحته من إستكمال المشوار، فكان عميق المعاني ، فيلسوف النظرة والمعالجة ، ُمتخم الذاكرة بالتفاصيل والدقائق ، التي تثري موضوعه ،مما جعله واحدا من اصحاب المواهب العظيمة الذين لن يجود الزمان بمثلهم .تأمُلِ الحياة كانت مهنته، والامعان في سؤال الوجود ظل هاجسه حتى إقتنصته يد القدر.فضل "محفوظ "علينا وعلى الأدب العربي كبير، فنيلهُ لنوبل عام 1988، لفت أنظار العالم لنا ولأدبنا ، ولا نبالغ إن قلنا : لمجمل مشروعنا الحضاري العربي ، حتى الصهاينة التفتوا لإدبه وكرّسوا له فريقا متخصصا ُيُترجم إبداعاته للعبرية، بعد أن تُرجم لخمسة وعشرين لغة عالمية أخرى .سيتوقف النقد أمام محطات كثيرة في رحلة محفوظ الإبداعية والحياتية ، ولن ينسى قارئوا ونقاد أدبه، مدينة القاهرة بحواريها وشوارعها وعطفاتها ، التي خلّدها محفوظ في أدبه ، الذي سيظل موئل دراسات إجتماعية كثيرة، لفهم المجتمع المصري ومخاضاته ، وكافة المنعرجات السياسية والفكرية التي مرت عليه وعصفت به.بعد أن أصبح "نجيب محفوظ " في الغابرين ، وأصبح أدبه ُملكا للتاريخ والنقد ، علينا أن ُنميز بين حالةالإعجاب والتقديس اللتان تعميان بصيرة الدارس المدقق ،وبين النظرة الموضوعية العلمية في مساءلة النصوص وتقييمها ، ومحاورتها وإستنطاقها، ومن هنا، علينا طرح بعض التساؤلات التي ُِتضيف جديدا لإبداع الرجل، وتضيىء عتماته.أولها، وقوف "محفوظ" أمام التاريخ الفرعوني، يستلهمه في كتاباته ، منذ بداياته الأولى، ضاربا عُرض الحائط بتاريخ عروبته ، حتى اضطر لدراسة التاريخ الفروعني وتاريخ مصر الفرعونية دراسة مستفيضة، عاكفا على توظيفها في روايات، كما فعل "جورجي زيدان"!!فنشر "عبث الأقدار" عام 1939و"رادوبيس" عام 1943، و"كفاح طيبة" عام 1944.ثانيها :علاقته بأفكار "سلامة موسى" وتتلمذه على يديه، وهو المعروف كأحد دعاة الشعوبية والتغريب وإستبدال الحرف العربي باللاتيني!وأن أول كتاب نشره سلامة موسى "لمحفوظ" كان "مصر القديمة".ثالثها: إختفاء قضية فلسطين من ُمجمل كتاباته، الأمر الذي ُيفسَرُ مرتبطا بنزعته السابقة، أليس غريبا ألا تحظى قضية العرب الأولى باهتمام رائد الرواية الواقعية العربية الحديثة ؟رابعها : موقفه من الصراع العربي الصهيوني والتفاوض مع اليهود ، سبق تولي أنور السادات الحكم وقول محفوظ : أن حرب الاستنزاف كلام فارغ ، لأن المواجهة العسكريّة الطويلة لن تجدي،حسب رأيه، ومن الجائز أن ُيثبت اليهود أنهم جيران صالحون.خامسها: روايته المثيرة للجدل" أولاد حارتنا" والتي جاءت ضمن الحيثيات الرسمية التي قدمتها لجنة نوبل لفوز محفوظ بالجائزة .سادسها:رؤيته للمرأة ، التي تبدت في أعماله الأدبية ، ولعل أشهر هذه الأعمال على الإطلاق ثلاثيته "بين القصرين، قصر الشوق ، السكرية" التي جاءت فيها المرأة باهتة سلبية ، حتى صارت "أمينة" الزوجة المُطيعة على الدوام لفرمانات "السيد أحمد عبد الجواد" عنوانا، فالمرأة إما سلبية مثل "أمينة" في الثلاثية أو فتاة ليل كما هو حال مع "زبيدة" و"زنوبة العوادة" في الثلاثية ،كما قدم نماذج ملوثة بالسقوط الأخلاقي .في الختام لا يسعنا إلا أن نختم بقول لشخصية محورية في كتاب أصداء السيرة الذاتية عندما وجه له السؤال: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب-: نعم..إذا كان من عشاقها المخلصين .
** نشرت في ملحق فنارات الأدبي