من أجل لغتنا ..محاولة لقراءة الأسباب
شؤون ثقافية
الأثنين 8/5/2006
بقلم :د. مكي الحسني
السيد رئيس تحرير جريدة ( الثورة ) المحترم:
تحية طيبة
قرأت صفحة ( الشؤون الثقافية )في عدد 24 نيسان 2006 و عنوانها ( مجمع اللغة العربية يتيم بلا كفيل) لاشك أن غيرتكم على لغتنا الوطنية العظيمة هي سبب إثارتكم لهذه المسألة الخطيرة . و هذا أمر تشكرون عليه. وقد رأيت أن أكتب لكم ?..1 لا لأدافع عن المجمع ( لأنه - حقاً - لا يقوم بمهامه على الوجه المطلوب , و سأتحدث عن أسباب ذلك فيما بعد ) , بل لاساهم في معالجة هذه القضية الخطيرة , بأن أضع أمامكم بعض الحقائق , لأبين أن المجمع غير مسؤول عن تدهور مستوى الاداء باللغة العربية لدى جمهور المتعلمين و سأتحدث بصراحة عن الجهات المسؤولة كلها . و آمل ألا تكون هناك ( خطوط حمر )....
كما آمل أن تتصدى جريدتكم للقضية بقوة , و أن تقوم بدور فاعل في السعي لمكافحة الأخطار المنتشرة كالسرطان للقضاء على لغتنا.
أود أولا أن أعقب على كلمة السيد ديب علي حسن , فهو يقول ( حماية لغتنا لا تأتي بالندوات و المحاضرات .. بل لا بد من العمل و من بداية الطريق , من مناهجنا التربوية , من قدرتنا على تبسيط بعض أبواب النحو ( المجعلكة و المنفرة ) ).
أنا اتفق معه اتفاقاً تاماً : فمناهجنا التعليمية غير صالحة البتة ( و لا مجال هنا للخوض في التفاصيل ). ثم إن الطفل يولد و ينشأ و يشب و يعيش عمره كله في بيئة فاسدة لغوياً و إذا تذكرنا ما قاله ابن خلدون قبل خمسة قرون تقريباً : ( ملكة اللغة تكتسب بالحفظ و السماع أكثر مما تكتسب بالضابط و القاعدة )
سألنا أنفسنا : أين يسمع الطفل , ثم المواطن . اللغة السليمة ? في البيت ? في المدرسة ? في الطريق ? من الإذاعة و التلفزة ?.. إذن , كيف يمكن أن يكتسب ملكة اللغة السليمة ? لقد ذكرلي قبل مدة طويلة أحد أساتذة الجامعة أن ( دبلوم الدراسات العليا في قسم اللغة العربية بحامعة دمشق ) تلقى محاضراته بالعامية !!!
وقد عقد في مجمع اللغة العربية بدمشق ندوة في المدة 22- 25 - / 10 / 2000 حول ( اللغة العربية و التعليم ) و الغريب أنه لم يقدم في الندوة سوى بحث واحد , يحلل أسباب انحدار اللغة عند أبناء الأمة , ثم يقدم مذهباً متكاملا للإصلاح . كتب هذا البحث الأستاذ يوسف الصيداوي رحمه الله , و هو يقع في 37 صفحة , و سمح له أن يلقى في الندوة موجزاً مكثفا خلال 20 دقيقة فقط!
لقد كانت علاقتي بالأستاذ الصيداوي وثيقة جداً , و أعلم ما أنفق من الوقت و الجهد في سبيل الوصول إلى تحليل تلك الأسباب و تقديم ذلك المذهب . و إن الأسى ليعصر القلب حين يتذكر كيف هب بعض الحضور ينبذون ما قيل و يعلنون غضبهم عليه , من قبل أن يقرؤوه أو يلموا به إلماماً كافيا,ً اللهم إلاما سمعوا المحاضر يلقيه خلال 20 دقيقة , متمسكين بمذهب في التعليم سقيم , لا يقبلون منه بديلاً لأنهم اعتادوه ! و العجيب أن السيد وزير التربية آنذاك > وهو مختص بالعربية - استمع إلى المحاضرة , و حصل على نصها الكامل . و مع ذلك سألت بعد أشهر عن مقترحات الصيداوي : هل نظر فيها ? فكان الجواب سلبيا! ً و بتاريخ 9 / 12/ 2003 رفعت مذكرة إلى السيد رئيس المجمع و أعضائه ( تجدون صورتها مع هذا الكتاب ). و أنا مضطر إلى إطلاعكم عليها بصفتكم الشخصية ( لا للنشر ) لتروا إلى أي مستوى انحدر تعليم العربية في بلادنا بعد جلاء المستعمر الغاشم عنها, لتروا كيف تسير الأمور...
و كما تعلمون لا يملك المجمع سلطة تنفيذية لإلزام وزارة التربية ( أو الإعلام ) بإنفاذ مقترحاته . فالدواء ( على حد تعبير السيد ديب علي حسن ) المؤدي إلى الإصلاح جاهز , و لكن المريض لا يريد تعاطيه , فمن يستطيع الضغط على المريض ?
> تحدث السيد ديب علي حسن أيضاً عن ( تبسيط بعض أبواب النحو ) . يبدو أنه لم يطلع على حصيلة جهود 25000 ساعة عمل تقريباً , بذلها الراحل يوسف الصيداوي على امتداد أزيد من ست سنوات لاعداد ( كتاب العمر ) كما كان يقول لي قبل إنجازه , الغرض من هذا العمل العظيم ليس تجارياً قطعاً ( يمكن إنجاز عمل تجاري خلال 100 ساعة عمل , أي خلال شهر تقريباً ) , الغرض هو ما يسميه الناس ( تبسيط / تيسير النحو ) أما الصيداوي فقد توصل بعد تفكير طويل جداً إلى حقيقة لم يسبق إليها , و هي أن النحو شيء , و قواعد العربية شيء آخر ! و إن النحو لا ييسر , ولا داعي لمحاولة ذلك . أجل استطاع هذا اللغوي العملاق أن يعزل قواعد اللغة , و يخلصها من شرنقة النحو ( الذي هو جولان فكري في القواعد ) , و أن يعرضها مرتبة ألغبا ئياً في 332 صفحة فقط في كتابه الذي سماه - تواضعاً فيه ( الكفاف ) و الذي صدر عن دار الفكر بدمشق سنة 1999 . و قد تحدثت عن هذا الكتاب بعض صحف دمشق , و إذاعتا دمشق و لندن , و أقيمت حوله ندوة في المركز الثقافي في المزة..
و لإعطاء فكرة عن هذا المؤلف أقول : بحث ( المنادى ) في كتاب (النحو الوافي ) يشغل 115 صفحة ! وفي الكفاف صفحتين (قواعد بلا نحو !! )
ومع ذلك , ما زالت مناهج التعليم تتجاهل هذا العمل المفيد جداً , إضافة إلى تجاهل خطة الإصلاح التي اقترحها الصيداوي في بحثه ذاك ( 37 صفحة ) , و الأمور تسير من سيء إلى أسوأ!
> سؤال : كيف تسمح وزارة التربية بفتح مدارس تعلم جميع المواد باللغة الإنكليزية ? علماً بأن اليونسكو أوصت حكومة حكومات جميع الدول بجعل التعليم كله باللغة الوطنية إلى أعلى مرحلة ممكنة تستطيعها هذه اللغة ( هذا لا يعني عدم تعليم التلاميذ لغة أجنبية . و بالمناسبة , كنا قبل 65 سنة نتعلم الفرنسية في المرحلة الاعدادية , ثم الفرنسية و الإنكليزية في المرحلة الثانوية ,, ثم درسنا في الجامعة مقرراً علمياً في كل سنة بلغة أجنبية و قدمنا الامتحان بهذه اللغة !) . هل سيشعر طلاب هذه المدارس ( الإنكليزية ) بالانتماء إلى الوطن , وهم عاجزون عن إقامة لسانهم أو كتابة جملة واحدة بلغة عربية سليمة ?!! لقد تحقق حلم تلك الجهات التي تحارب العربية , فمن المسؤول عن ذلك ? و ما موقف صحافتنا ? و ما موقف مجلس الشعب?
- أما و سائل الإعلام فلم يتغير فيها شيء بعد الندوة التي عقدها مجمع دمشق في المدة 21 - 23 / 11 / 1998 و عنوانها ( اللغة العربية و الإعلام ) و شارك فيها وزير الإعلام حينذاك بمحاضرة.
وقد طلبت خطياً من وزير الإعلام قبل سنتين , التدخل لمنع و سائل الاعلام من استعمال كلمات و تراكيب غير صحيحة مثل ( خليوي ) و ( إن هكذا أشياء ) لأن الصواب هو ( خلوي , مثل نبوي و علوي ) و ( إن مثل هذه الأشياء , أو : إن أشياء كهذه ..) فكان جوابه بالهاتف ( و أنا أشكر له رده ) د بلوماسياً وسلبياً ! وأذكر أني طلبت هاتفياً من مديري تحرير صحف دمشق ماطلبته من الوزير . ولكن ... ثمة ظاهرة خطيرة وواسعة الانتشار هي التسييب اللغوي , بل اكاد اقول (الاباحية اللغوية ) , وهذا مايرمي إليه اعداء العروبة , انظروا الى لافتات المحال التجارية, والاعلانات في الطرقات وبعض الصحف والمجلات , تجدوا طوفاناً من كلمات اجنبية بحروف عربية ! اوعبارات عاميّة , ومئات المنتجات الغذائية وغير الغذائية أسماؤها اجنبية ! ويسمح كثير من الناس لأولادهم او لأنفسهم أن يرتدوا ملابس يسيرون بها فرحين متباهين , وقد صارت صدورهم وظهورهم دعايات متحركة للانكليزية .... من غير ان يشعر أحد بالمهانة أو أن يحرك ساكناً إزاء هذه المهانة ( كأن يمنع انتاج هذه الملابس واستيرادها) أليس من واجبنا جميعاً أن نكافح هذا المرض النفسي الذي استشرى, ( عقدة الشعور بالدونية إزاء الغرب), وهذا الانحلال في الشخصية , ومظاهر الانتماء إلى الغرب , وأن ندافع عن كرامتنا بدفاعنا عن لغتنا ! .
> سؤال : لماذا لايعاد عرض مسلسل ( افتح ياسمسم) ? كنت اتوقع ( أنا وغيري من المواطنين ) أن يعرض مرة كل سنة ,لان هذا المسلسل التلفزي الرائع ترك في تكوين أطفالنا أثراً إيجابياً قويا, لماذا (حظر) عرضه وفسح المجال لأفلام غير هادفة , بل تسيىء إلى نفوس أطفالنا ?
> سؤال آخر : لماذا
( تروج ) المؤسسة العربية للاعلان اللغة العامية ? لقد كان المأمول ألا تسمح هذه المؤسسة الحكومية بنشر أي اعلان مالم تكن لغته سليمة , وفي وسعها أن تفعل ذلك , لأن المعلنين لايستطيعون تجاوزها , فلماذا تروج العامية ??!!
> أما حماية اللغة فهي مسؤولية السلطة (والمواطنين الواعين , وما أقلهم ) , وقد رفع مجمعنا قبل سنتين مشروع حماية قانون حماية اللغة العربية ( مع الاسباب الموجبة واللائحة التنفيذية ) إلى رئاسة مجلس الوزراء , ولا ندري لِِم وضع على الرف هناك ! الوضع خطر , ويحتاج إلى ( ثورة ) على هذا الجمود , ولهذا أكتب إلى جريدة (الثورة ): إن أعداء العربية وعملاءهم والجهلة من المواطنين مستمرون في التخريب , وما من رادع! تسير في الشوارع فلا تشعر أنك في بلد عربي , فأين ( قلب العروبة النابض ) ?
> سؤال هل لدى الصحف السورية ومجلس الشعب علم بما يجري في القطر ? وإذا كان الجواب بالإيجاب فلماذا لا ( يتحركون ) ?
> سؤال آخر : القيادة السياسية , ماموقفها من كل ماذكرت ?
والآن عن مجمع اللغة العربية بدمشق
السؤال الذي يمكن أن يوجّه هو:
ما الذي يستطيع مجمعنا أن يفعله للدفاع عن العربية وتطويرها ?
الجواب :
>> القيام بدراسات عميقة , وهذا ماتثمره الندوات والمؤتمرات , إذا أُحسن إعدادها ....
>> رفع توصيات هذه الندوات والمؤتمرات وغيره, إلى الجهات المعنية , التي تملك سلطة التنفيذ , لأن المجمع لايملكها ....
>> متابعة تنفيذالتوصيات المذكورة , بمعنى متابعة الجهات صاحبة الشأن ,وهذا مالايفعله المجمع الآن !
>> وضع مصطلحات عربية تقابل ما يجد من مصطلحات أجنبية هذا ما يفعله المجمع تبؤه أشد مما ينبغي ...
>> توحيد المصطلحات العلمية المستعملة في الجامعات السورية , هذا مايفعله المجمع الآن وقد أنجز المرحلة الأولى من معجم مصطلحات علم الفيزياء (باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية , مع بيان أصولها اللاتينية أو اليونانية ) وتضم هذه المرحلة أكثر من 6000 مصطلح , وسوف يصدر هذا المعجم قريباً .
أخيراً لاشك أنكم تعلمون أن وضع المجمع الحالي ليس مثالياً ولاقريباً من المثالي .... بمعنى أنه لايستطيع تحقيق الآمال التي يعلقها عليه المواطنون الواعون .... ولاشك أيضاً في أن ظروف البلد (التي تعلمونها جيداً ) لها دورها غير الإيجابي .... والمأمول أن تتحسن الأحوال جميعاً .
آمل أن أكون قد جلوت غامضاً و عرضت معلومات تساعدكم على العمل النافع , ولكم شكري وشكر الأمة سلفاً على مساعيكم الخيرة .
عضو مجمع اللغة العربية بدمشق أستاذ في جامعة دمشق سابقاً