بيكاسو ولوحة (الجورنيكا)بعد مرور أكثر من مئة عام على مولد الفنان المبدع بيكاسو، واحتفال العالم بهذه المناسبة، يستحق منا ومن محبي فنه العظيم، أن نقف أمامه وقفة طويلة .. لنكشف بعض أسرار من حياته الفنية..وبعض جوانب من مواقفه الفكرية والإنسانية... ونحن نقول ( بعض) لأن حياة هذا الفنان وأعماله سوف تظل موضع دراسات لسنوات طويلة ، وسوف يكتشف النقاد والدارسون صفحات جديدة تضاف إلى سجله الفني الخالد.. فـ «بابلو بيكاسو» هو بحق فنان عبقري .. ترك بصماته على حياة هذا العصر .. والعصور المقبلة..
لاشك أن بيكاسو، فيما كان يقدم من أعمال فنية، ويخط بريشته من أشكال وألوان ، كان يعبر عن فكر سياسي واجتماعي، ورؤية شاملة للحياة، فقد كان بداخله دائماً بيكاسو السياسي والموقف الرافض للديكتاتورية، الهاجرلوطنه إسبانيا طالما هي تحت ظل الحكم الدكتاتوري..
بيكاسو صاحب لوحة الجورنيكا أشهر لوحة في العالم، تحولت إلى مايشبه إنساناً منفياً ظل حبيساً في متحف الفنون الحديثة بنيويورك حتى عادت إلى اسبانيا بصورة سرية، لتحفظ داخل غرفة مصفحة تحت رقابة أربعة أجهزة تلفزيونية، قبل أن تعرض في إطار خاص من الفولاذ المضيءيحميها زجاج واق من الرصاص ، ولايسمح لأكثر من مئة زائر بمشاهدتها يومياً في إسبانيا واعتبرت آخر منفي يعود إلى الوطن.
ويتجلى فكر بيكاسو أيضاً في أول أعماله وهي « لوحة الفرار إلى القاهرة» وكانت تعبر عن هجرة السيد المسيح إلى مصر مع والدته مريم العذراء، عندما سألوه لماذا رسمت نخلتين في اللوحة ؟ فقال:للإشارة إلى أنهما كانا بحاجة إلى قوت ، والتمر كان أقرب الأشياء إلى متناولهما.
هكذا كان الفكر وراء الفرشاة والألوان ، قبل استعراض القدرة الجمالية الإبداعية، فالفنان الحقيقي موقف .. وليس أروع من التدليل على الموازنة بين نجاح الفنان وأثر فكره على هذا النجاح ، ومن عبارة بيكاسو نفسه: « إن اللوحات لم ترسم لتزيين المنازل، بل إنها سلاح» .
وكل من كتب عن بيكاسو استشعر هذه الحقيقة. يقول عنه الناقد الإيطالي رافييل كارييري: بيكاسو هو أعرق أوروبي في تاريخنا المعاصر، إنه ترجمة الألم والأمل ، الضغط والانفجار، الحرب والسلم، الشيطان والملاك، فيه تجتمع كل التعديلات ، أما «روجيه غارودي» الكاتب والفيلسوف الفرنسي فيقول عنه: إن هذا القرن هو قرن بيكاسو، فهو خير معبر عنه، كل لحظات العصر تنعكس في أعماله الإبداعية، نسيج اللون والخط، صانع الأسى والحب والعذاب.
شخصية بيكاسو
«أنا إسباني لذلك أنا بدائي، وحاد المزاج» و«أنا كالسمكة إذا خرجت بعيداً من عالمي أفقد القدرة على التنفس» لقد كان عالمه الحسي هو البحر، والغابة لايطيق البعد عنهما، في عام 1900 قام برحلته الأولى إلى باريس، أدى امتحان القبول لكلية الفنون الجميلة في يوم واحد ، بينما بقية زملائه يؤدونه في شهر كامل، وأقام أول معرض له في باريس في العام التالي 1901.
في بداية حياته تأثر بالانطباعيين، أي مدرسة التصوير للمشاهد المختلفة لنشاط الحياة فصورها تصويراً انطباعياً فوتوغرافياً، التفوق فيه لمن يستطيع أن يقترب أكثر من أصل الموضوع المرسوم. ولكن الفكر والتأمل كانا يخلقان بداخله الرغبة في الخروج عن المألوف في رسم الإحساس والرؤية الخاصة للموضوع وليس نقله كما هو، ويلخص رأيه في الفن وفي تطوره فيقول: ليست هناك أشكال تجريدية أو جامدة، من وجهة نظر الفنان ، وإنما توجد أشكال تتضمن قليلاً أو كثيراًمن أكاذيب مقنعة. كون هذه الأكاذيب ضرورية لكياننا الروحي، أمر لاشك فيه، لأننا عن طريقها نخلق التصور الجمالي للحياة .هذا هو بيكاسو ...الفكر ....والفنان.
أما بيكاسو صاحب لوحة الجورنيكا التي ولدت في الغربة « في باريس» وكان قد أوصى بألا تدخل وطنها الأم إسبانيا إلا إذا انتهى حكم « فرانكو» الديكتاتوري وعادت الديمقراطية مرة أخرى.
وكان « متحف الفن الحديث» بنيويورك قد أقام في السادس عشر من سبتمبر عام 1981 حفلاً كبيراً لتوديع لوحة «جرونيكا » التي نزلت ضيفة على الولايات المتحدة الأمريكية طوال الـ «42»عاماً الماضية.. وفي اليوم التالي أقام«متحف برادو» بمدريد حفلاً أكبر لاستقبالها، وقد بلغت من العمر«44» عاماً.
«جورنيكا» هي القرية الاسبانية التي ألقى عليها الألمان في عام 1936 قنابلهم فدمرت حتىآخرها وقتل ألفان من مواطنيها المدنيين.. حدث مروع حقاً ولكنه واحد من تلك الأحداث المروعة التي اعتادها القرن العشرون من مطلعه وحتى الآن، ومع هذا فقد حظي هذا الحدث المروع باهتمام الفنانين والشعراء والكتاب بطريقة متفردة، وغدت «جرونيكا » مادة خصبة أكثر من «هيروشيما» و«ناجازاكي»و«بور سعيد»و«دير ياسين»و«بيروت» وعواصم ومدن وقرى كثيرةأخرى في أنحاء عالمنا المعاصر.
وقد تأثر بيكاسو بهذه الجريمة البشعة، ورسم لوحة في العالم التالي تصور تلك المأساة اللاانسانية، وأطلق عليها اسم « القرية المنكوبة»أي «جرونيكا» انتهى بيكاسو من رسم هذه اللوحة وهو في السادسة والخمسين من عمره « عام 1937، وقد رسمها على سبع مراحل، ويصل طولها إلى ثمانية أمتار وارتفاعها لثلاثة أمتار ونصف المتر، ولم يوقع عليها أو يسجل عليها تاريخاً، فقد اعتبرها صرخة إنسانية في وجه الظلم ،وشهادة أبدية تندد بالعدوان ، ودعوة عالمية تنادي بالسلام في كل زمان ومكان.