جلس أمام التلفاز ِ في ملل ٍ، وأشعل سيجارته ، ووضعها على طاولةٍ خشبية ، استقرت على حصيرةٍ بالية ، وشرع يقلب في قنواته تارةً ، وفي رسائل هاتفه النقال تارةً أخرى . فاستقرت عيناه على رسالةٍ قديمة من صديقه ( عاصم )
( سامحك الله ، ألم نتفق على الهجرة سوياً ؟! انتظرتك في المطار كثيراً ، يبدو بأن ترددك قد انتصر للمرة الألف ، سأراسلك حين أصل ، الأمر لله )
فابتسم في مرارةٍ وندم .
وكانت إشارة الإرسال في جهازه تشير إلى المنتصف ، وهو يعلم بأنها ستختفي - كأحلامه - إذا ما تحرك من مقعده هذا .
قنوات التلفاز ِ تصدح بالغناء تارةً ، وتنذر بحرب ٍ وشيكة تارةً أخرى ، مع كل حركة من حركات أصابعه على جهاز التحكم الذي بيده .
لطالما كان يسخر من قنوات المسابقات التي تصرخ بأرقامها على الشاشة ، ولطالما آمن بأن الحظ لن يطرق بابه أبداً .
بيد أنه كان متأكداً بأن الحاج ( متولي ) سيطرق بابه بعد ثلاثة أيام ٍ لينتزع أحد الأمرين ، إيجارالبيت أو روحه ..!
ثم إنه قرر ذات غفلةٍ من تردده أن يجرب حظه ، وضغط أرقاماً عشرة ، كانت تظهر أمامه على الشاشة ، وفوقها جملة ( جائزة المائة ألف دينار )
تلتها رنةٌ طويلةٌ ، وصوتٌ يخبره بأنه تجاوز مرحلة التردد ، وأن لا سبيل للتراجع الآن .
فكر للحظةٍ أن يغلق الخط ، ويكتفي بالندم على فعلته هذه ، وبأنه قد دفع ثمن شجاعته النادرة من رصيده ، وبأنه تعلم الدرس جيداً ، لكنه سمع ذلك الصوت يخبره بالضغط على الرقم واحد لسماع الأسئلة الخمسة ، ففعل .
السؤال الأول : من هو القائد الذي انتصر ... ؟
علمته الحياة بأن الانتصار مسألةٌ نسبيةٌ ، تختلف بين ميدان وآخر ، وآخرانتصاراته التي يذكرها ، هي تلك الشهادة المعلقة على الحائط منذ عشر سنوات ، والتي تخبره بأنه قد أصبح مهندساً مع مرتبة الشرف . كان سعيداً وهو يضغط على الزر الصحيح بكل ثقة .
السؤال الثاني : من هو الروائي الذي كتب ... ؟
العزلة - التي عبرت عنها حياته في هذه الحارة الشعبية - جعلته يعتكف على قراءة الروايات والقصص هروباً من الواقع الذي ما انفك يحاصره بكل قسوةٍ ، ويغتال أحلامه الواحد تلو الآخر ، وتقمص الشخصيات التي بداخله كان يساعده على التنفس لمدة ٍ أطول ، ازدادت ابتسامته اتساعاً وهو يضغط على الزر الصحيح للمرة الثانية .
السؤال الثالث : كم من الوقت يحتاج الرجل للصعود إلى ... ؟
تجاهُل ِ مشاعره نحو بنت ( أم علاء ) - جارته في الدور الثالث - لم يكن رغبة ً ، بقدر ما كان ضرورةً ملحة ، فرضتها ظروف فقره ، والذي كان يجبره على الصمتِ كلما رنا منها صاعداً إلى شقته في الطابق الأخير .
شعر بارتباكٍ قبل أن يضغط على الزرالصحيح هذه المرة .
السؤال الرابع : ما الذي يصدر ضجيجاً أكبر الـــ .... ؟
صياح البائعين في هذه الحارة ، أصبح عادةً وطقساً تعود عليه كل صباح ، وكلما زادت درجة الحرارة ، ازدادت الرغبة في الصياح اكثر ، وجبينه يتفصد عرقاً الآن ، فتتساقط حبات العرق على عينيه ، إلى يديه ، وكادت يده تنزلق لوهلةٍ ، لكنه ضغط على الزر الصحيح هذه المرة وبشدة .
السؤال الخامس : من هو المناضل الذي ضحى بحياته من أجل ... ؟
كان الطرق على بابه يزداد ضراوةً ، وصراخ ( أم علاء ) و الحاج ( متولي ) خلف الباب يعلو أكثر فأكثر ، أن افتح الباب إن البيت يحترق .
بيد أنه كاد يغشى عليه وهو يستمع إلى المجيب الآلي ( بقي لديك دقيقة واحدة في رصيدك ) فضغط على الزر الصحيح بسرعة ٍ .
( مبروك .. لقد فزت بالجائزة وكل ما عليك فعله هو تسجيل اسمك الثلاثي الآن )
أصابته نوبة ضحكٍ هستيري ، وعبراته تقاطعت مع حبات العرق ، وانكب على وجهه يكتب في انهماكٍ اسمه ، الذي كاد ينساه للحظة ، ويداه تتدحرجان على الأزرار ، فيعيد كتابة الإسم من جديد ِ ، وطرقات الباب تزداد - كما النار - سعيراً .
.
.
قالت ( أم علاء ) : حاولنا إنقاذه ، لكنه كان ممسكاً بالكرسي وبجهازه النقــال بشدة .. !
تمت ..