في الاصطلاح الفلسفي.. النفــــاق: مفهومه وأنواعه وأسبابه
النفاق اصطلاح نفسي أخلاقي اجتماعي، وهو بالمطلق قيمة أخلاقية ثلاثية البعد الدلالي والتشخيصي، أخلاقي مطلق، نفسي، اجتماعي.
واذا رجعنا الى لسان العرب وجدنا لجذر النفاق معنيين متناقضين ظاهرياً:
أولهما الموت الذي لا يستحق الاكتراث أبداً، ولذلك سمي موت البهائم بالنفوق ولم يسمى بذلك موت الانسان.
ثانيهما رواج السلعة أو الشيء، أي تزايد اهتمام الناس به، ولذلك قالت العرب: نفق البيع: راج..ونفقت السلعة: غلت ورغب فيها.
الوجهان على ما يبدوان عليه من تناقض يصلحان أساساً لفهم النفاق، بل لعلمنا لن نستطيع ولوج عمق الدلالة الحقيقية للنفاق من دون الوقوف على هذا الجذر اللغوي بوجهيه، ولكن ابن منظور يقرر ان اصطلاح النفاق لم يشتق من أي منهما وانما اشتق من سلوك اليربوع الذي يدخل الجحر من مدخل واذا هوجم هرب من «النافقاء» وهو موضع يرققه اليربوع في مكان حجره حتى اذا هوجم نقره وهرب منه، ومن ذلك قال بعض اللغويين القدامى:«سمي المنافق منافقاً لأنه نافق كاليربوع...المنافق يدخل في الاسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه».
هذا الاصطلاح ظهر في اللغة العربية مع ظهور الاسلام، وعنى استناداً الى جذره اللغوي:«ان يستر المرء كفره ويظهر ايمانه» والنفاق هنا إذن يشبه الرياء فكلاهما اظهار خلاف ما في الباطن..ولكن السؤال الذي يفرض ذاته الآن هل كل اظهار المرء خلاف ما يضمر أو يبطن هو نفاق؟
نحن في حقيقة الامر أمام أكثر من نوع من أنواع اظهار خلاف المضمر او ضده، ولكنه وان تساوت في المطلق في القيمة الجهوية الدلالية فإنها تفترق عن بعضها في النية بغض النظر عن صورة السلوك..الذي يجعل هذا السلوك نفاقاً هو قيامه سوء النية أياً كانت طبيعة هذه النية من طبائع السوء وجهاته، أما أنواع اظهار خلاف المضمر أو ضده للآخرين فهي ما سنتحدث عنه تحت عنوان مستويات النفاق وأنواعه.
مستويات النفاق وأنواعه
المستويات الستة التالية التي سنتحدث عنها هي في حقيقة الأمر أنواع اظهار خلاف ما هو مضمر في الذات تجاه شخص او جماعة، منها ما ينطبق عليه مفهوم النفاق انطباقاً تاماً ومنها ما يبتعد عنه كثيراً وما بينهما مستويات وأنواع.
أولاً: اذا كنت تحتقر أحداً، أو لا تحترمه، أو تعرف أنه سيىء...وأظهرت له أنك تحترمه أنك تراه حسناً...وكان هذا الشخص أقوى منك أو أكبر أو أعظم..وكان دافع قلب الحقيقة او اظهار ما يخالف الابطان هو الخوف أو الطمع او التسلق او الوصولية...كلاً أو أبعاضاً كان هذا السلوك هو النفاق عينه، وكان النفاق هو هذا السلوك.
ثانياً: اذا كنت تحتقر أحداً، او لا تحترمه، أو تعرف أنه سيىء...وأظهرت له أنك تحترمه أنك تراه حسناً...وكان هذا الشخص أصغر منك أو أضعف أو أقل شأناً...ولم يكن الدافع لقلب الحقيقة أو اظهار ما يخالف الابطان آتياً من ضغط خارجي أو غاية خارجية اخرى غير السلوك المباشر بين الطرفين صعب ان نسمي هذا السلوك نفاقاً، قد يكون خداعاً ولكنه قد يكون انعدام ثقة في الذات، وقد يكون أيضاً ضرباً من التوجيه او التأنيب لاصلاح الآخر، وربما يكون غيره ذلك، ولكنه لن يكون كل ذلك معاً، بل لن يجمع احتمالين منها معاً.
ثالثاً: أما اذا كنت تحترم أحداً وتكن له التقدير الحسن وأظهرت له عكس ذلك أو خلافه كالازدراء مثلاً أو التأنيب..فإنه ان لم يكن نفاقاً لغيره فهو ليس نفاقا، ومن ثم فإن السلوك ذاته ليس نفاقاً مباشراً، أي التقليل من المضمر في الاظهار ذاته ليس هو النفاق وإنما النفاق هو ما كان تجاه شخص آخر بما أضمر لهذا الآخر ذاته وليس للشخص موضوع فعل تقليل الحسن المضمر له.
رابعاً: أما اذا قام التقليل من شأن من تكن له التقدير الحسن على نية سيئة تسعى من خلالها الى تقزيمه او تحقيره او إفقاده الثقة في نفسه او غير ذلك مما يشبهه فإنه سيكون لؤماً أو حقداًأو غيرة أو حسداً أو غير ذلك مما يشبهه وليس هذا من باب النفاق في شيء.
خامساً: فان لم يقم التقليل من شأن من تكن له التقدير الحسن على نية سيئة مخططة، ولاعلى النفاق لثالث، ولا على نية حسنة مقصودة، فإنه سيكون كذباً صريحاً لسبب أو لآخر، ضرورة، ظرف طارىء ، مرض نفسي...وغير ذلك مما يدور في اطاره، ولا يدخل هذا أيضاً في باب النفاق وان كان من التباس في صورة الفعل.
سادساً: أما اذا قام التقليل من شأن من تكنّ له التقدير الحسن على نية تخلو من السوء، بمختلف أحواله وتخلو من الخلل الذي يبدو في صورة السوء فإنه سيكون في الاغلب الأعم شحذاً وتحريضاً، والشحذ والتحريض هو الوجه الحسن الوحيد في هذا النمط من أنماط اظهار خلاف المضمر تجاه شخص ما، ويستوي في ذلك ان يكون من تخاطبه، أي الذي تظهر له خلافاً تضمر عنه، أقوى منك أو أضعف.
تستوي هذه الانواع كلها في صورة الفعل ولكنها تختلف في طبيعة المضمون وغايته، ولذلك كان لكل منها اسمه الخاص، وكان النفاق اسماً لأول هذه الأنواع بالاجماع، أما الأنواع الاخرى فلكل منها اسمه الخاص،والذي يحدد هذا الاسم أو الاصطلاح هو طبيعة السلوك وغايته وما قد يحيط به مما يحدده..والنفاق بهذا التحديد قيمة أخلاقية سلبية موجودة في حياة الانسان منذ تكون المجتمعات البشرية لان ما يقود اليها هو مكانة الانسان في المجتمع وبنيته النفسية أو خصائص شخصيته، هذا يعني أننا أمام أساسين للنفاق هما الأساس النفسي والاساس الاجتماعي، وكلاهما على درجة من التوازي لتكافؤ يجعل من الصعوبة بمكان تقديم أحدهما على الآخر.
الأساس النفسي للنفاق
البنية النفسية للانسان هي الحامل لأنواع السلوك منها النفاق، فإذا نظرنا الى دوافع النفاق وجدنا ان صورة الأسباب هي الخوف أو الطمع او الوصولية، ولكن هذه الاسباب هي الصورة الظاهرة لأسباب نفسية داخلية يمكن تقسيمها من خلال عناصر مستقلة هي ليست مستقلة عن بعضها بالضرورة في تأديتها الى النفاق، ولكن قد يفعل كل منها فعله من دون وجود غيره من الأسباب، أما هذه الأسباب فهي:
أولاً: انعدام الثقة في النفس او ضعفها أحد أبرز الأسباب المؤدية الى النفاق، ذلك ان انعدام هذه الثقة أو ضعفها يقود المرء الى الشعور بالضعف وضرورة القيام بالنفاق إما على أنه مجاملة أو على أنه ضرورة اجتماعية لمماشاة الحال، قد يكون هذا النمط من النفاق مصحوباً بنزوع وصولي، ولكنه على الأغلب لا يكون كذلك، ومن ناحية أخرى قد يكون مصحوباً بالرضا والقناعة والقبول بالنفاق بوصفه (مجاملة وتلميعاً) وهذا هو الأغلب، ولكنه قد يكون مصحوباً بنوع من عدم القبول والرضا، وقلما يصل عدم الرضا الى الغل.
ثانياً: الشعور بالنقص هو السبب الثاني عدّاً لا ترتيباً من أسباب النفاق، وهذا النوع من الأسباب خطير جداً لان الشعور بالنقص يقود المرء الى استشعار العظمة في الآخرين والايمان بأن النفاق لهم واجب اجتماعي، ولذلك غالباً ما يكون هذا السلوك النفاقي مصحوباً بنوع من الغل والحق تجاه من يتم النفاق لهم، وقلما يكون مصحوباً بمشاعر الرضا والقناعة والقبول.
ثالثاً: السبب الثالث من أسباب النفاق هو ان يكون طموح المرء أكبر مما لديه من قدرات شخصية، الامر الذي يدفعه الىمحاولة تحقيق مكاسب من خلال تلميع صور قادته ومن هم أكبر منه على أمل ان ينظروا اليه بعين الاحسان ووضعه في مواضع عليا.
رابعاً: السبب الرابع من أسباب النفاق هو عدم اقتناع المرء، بما فيه من وضع وحال ومكانة اجتماعية أو مهنية..مع ضحالة أو انحسار او انعدام امكانات تحسين هذا الوضع في الأفق المرئي للمرء..
الامر الذي يدفعه للوصول الى ما يعتقد أنه حقه الى النفاق لمن هم أعلى منه مرتبة وقيمة وقدرة، ويكون هذا بغض النظر عما اذا كان المرء المنافق يستحق الارتقاء في مكانته هذه أم لا، وبغض النظر عن امتلاكه الكفاءات والامكانات اللازمة لذلك..
خامساً: السبب الخامس من أسباب النفاق هو ان يكون الحقد أو الحسد أو حتى الغيرة جزءاً من خصائص الشخصية..هذه الطبائع الثلاثة تؤدي الى التشدد في عدم النفاق مع من يظنون الضعف فيهم مهما كانت الحقيقة، ولكنهم من أكثر الناس نفاقاً أمام كل من يستشعرون القوة فيه والسطوة والهيبة إما خوفاً أو نزوعاً تدميرياً، ايماناً منهم بأن هذا السلوك المنافق سيؤدي الى العجب بالذات والغرور الذي سيقود في المحصلة الى تدمير الذات..
سادساً: السبب السادس من أسباب النفاق هو ان يكون النفاق حالة مرضية، عقدة نفسية، مثها مثل أي عقدة نفسية أخرى لها أسبابها النفسية والاجتماعية، كالكذب، أو الخوف من الماء، أو الظلمة...والمشكلة هنا ان المنافق يقوم بسلوكه النفاقي من دون الاعتراف به أو من دون رغبة.
الأساس الاجتماعي للنفاق
البنية النفسية للإنسان هي البنية الداخلية له، أما البنية الخارجية له فهي البيئة الاجتماعية أو المحيط الاجتماعي، والمحيط الاجتماعي بنيان له تأثيره الكبير في الفرد، ولكن هذا البنيان الاجتماعي مرتهن دائماً للمعطيات والظروف التاريخية للمجتمع وموقعه من المجتمعات الأخرى من جهة، ومكانته الاقتصادية والسياسية والمعرفية من جهة ثانية.
البنية الاجتماعية هي في حقيقة الامر بنية نفسية جمعية ومجموعة أخرى من العناصر مثلما البنية النفسية هي جزء من مكونات الشخصية، وهي بحكم كونها بنية نفسية جمعية فإنها تمارس تأثيراً معيناً متفاوت القوة في بناء البنية النفسية الفردية، ولذلك هي أيضاً من حوامل السلوك الجماعي، والسلوك الفردي أيضاً، ومن هذا الباب فإن البنية الاجتماعية تمارس تأثيراً أيضاً في النفاق، فالعادات والتقاليد والأعراف والمستوى الحضاري للمجتمع عوامل تحدد مدى انتشار النفاق في كل مرحلة من مراحل المجتمع التاريخية.
اذا كان من الممكن الحديث عن عدة أسباب نفسية للنفاق فإنه من الممكن الحديث عن مثلها من الأسباب الاجتماعية عدداً وصوراً، وربما أقل من ذلك أو أكثر، تبعاً للباحث الناظر في الامر، وفي أدنى الاحتمالات او أيسرها يمكننا الحديث عن الاسباب النفسية الستة السابقة بوصفها أيضاً أسباباً اجتماعية للنفاق، ولكن بعد نقلها من المستوى النفسي الفردي الى المستوى الجمعي، ناهيك فوق ذلك عما يمكن ان تحمله البنية الاجتماعية من أسباب اخرى للنفاق، ولكننا اذا نظرنا من زاوية تعميمية الى الموضوع أمكننا ان نجمل الأسباب الاجتماعية للنفاق في ثلاثة عوامل أساسية هي:
أولاً: انعدام الثقة في النفس أو ضعفها والشعور بالنقص يقابلهما على المستوى الجمعي التخلف الذي يعيشه المجتمع، والتخلف هو ترهل وضعف في مختلف البنى والعناصر المكونة للمجتمع، وقد بات من الثابت الأكيد ان النفاق يكثر في المجتمعات المتخلفة ويقل في المجتمعات المتطورة ولا ينعدم.
ثانياً: تردي الأحوال لاقتصادية للمجتمع غالباً ما يكون عاملاً من عوامل انتشار النفاق، وربما يمكن مقابلته مع الاسباب النفسية الثلاث بعد الثاني للنفاق، فتردي الحال الاقتصادية للمجتمع يدفع بالطامحين والطامعين وضعاف النفوس الى التفكير في التسلق والوصول، ويكون النفاق أحد أيسر السبل لتحقيق ذلك.
ثالثاً: العقلية الاجتماعية ذاتها يمكن ان تكون سبباً من أسباب انتشار النفاق أو كثرة انتشاره، كما يمكن ان تكون سبباً من أسباب انحساره، فالمجتمعات العاطفية والانفعالية ينتشر فيها النفاق أكثر من المجتمعات العقلانية أو الذرائعية، ولذلك غالباً ما يحدث التباس بين المجاملة والنفاق مع افتراق كل منهما عن الآخر في الطبيعة وان تشابها في الصورة.
ما يميز النفاق عن المجاملة هو النية ومبدأ السلوك، وفي هذا ما يستحق التفصيل ولكن ليس هذا مكانه، والنفاق عامة سلوك يقوم على سوء النية والطوية، وينطوي على شيء من الخبث والمكر يزداد وينقص تبعاً للشخص والحال، واذا كان من الصعب تقبل النفاق فمن الصعب تخيل الحياة من دون نفاق، واذا كان من السهل رد النفاق الى أسباب فردية نفسية واسباب اجتماعية من جهة المنافق فإنه من الصعب تجاهل تأثير الافراد الذين يكون النفاق لهم، فإن ثمة أشخاصاً لا يقبلون الا ان يعاملوا بنفاق، فإذا أردنا ان نعامل المنافقين وجب أيضاً ان نعالج المنافقين، وكلاهما مرض أعيا الأطباء والحكماء.
الدكتور: عزت السيد أحمد