كلنا في الحاضر ضحايا لجلاد واحد
أسامة عكنان
إن تحديد الموقف السياسي من تنظيم أو من حزب أو من حركة أو من فئة ما، له قواعد وأصول، وليس نوعا من الانطباعية السياسية الناجمة عن موروث ثقافي نمطي صنعته المدخلات والمخرجات السياسية لمرحلةٍ ماَّ..
الشيوعيون الجزائريون في عشرينيات القرن الماضي كانوا ضد استقلال الجزائر ومع دمجها في الدولة الفرنسية وتحويل النضال السياسي للجزائريين إلى نضال طبقي ضمن الدولة الفرنسية، ضد الطبقة البرجوازية الرأسمالية..
نضال يجمع العامل والفلاح الجزائريين العربيين المسلمين مع العامل والفلاح الفرنسيين المستوطنين المستعمرين، في خندق واحد، ضد سلطة واحدة تمثل الطبقة المعادية، ولم يقبلوا – أي الشيوعيين الجزائريين – اعتبار المسألة مسألة تحرر وطني ضد الاستعمار الفرنسي، فكانوا هم دعاة "حركة الاندماج" التي رفضها الشعب الجزائري الذي كانت ردة فعله ظهور "حزب نجم شمال إفريقيا" الذي أصبح هو "حزب الشعب" بقيادة "مصالي الحاج"، الذي انشق عن الشيوعيين بعد اختلافه معهم في الفكرة. ومن قلب هذه البُنية السياسية والثقافية الجديدة نشأت مكونات الثورة التي حررت الجزائر من الاستعمار بمقاتلين اعتبروا أنفسهم "مجاهدين" و"مجاهدين" فقط..
ومثلما حصل في الجزائر، حصل في فلسطين..
فكان الشيوعيون الفلسطينيون في طروحاتهم لا يختلفون كثيرا عن الشيوعيين الجزائريين، وكان جلُّ اهتمامهم النضالي منصبا باتجاه تعبئة فلاحي الشعب الفلسطيني ليتحالفوا مع القوى اليهودية المستوطِنة "الوطنية!!!" وليخوضوا معا صراعا طبقيا ضد البرجوازية البريطانية ممثلة في سلطة الانتداب..
ولم يكن يعنيهم أو يشغلهم أو يثير لديهم أيَّ مردود فكري، المشروع الصهيوني ذاته الذي انتبه إليه الفلاحون الفلسطينيون وبعض قوى الشعب الفلسطيني الأخرى، فخاضوا حربهم ونضالهم ضده عبر مواجهة ظاهرة الاستيطان الصهيوني وسلطة الانتداب في الوقت ذاته..
ولم يحاول الشيوعيون الفلسطينيون الخروج من أزمتهم الثقافية السياسية هذه إلا بمشروعهم الهزيل عام 1943 وهو "عصبة التحرر" لمواكبة ظاهرة النضال الفلسطيني ضد "حالة استعمارية استيطانية بريطانية صهيونية" فيما يندرج تحت مبدأ النضال من أجل التحرر الوطني عن الاستعمار..
هكذا كانت معظم الحركات والأحزاب الشيوعية العربية..
بل هكذا كان أساطين الشيوعية الأوائل في العالم، وعلى رأسهم "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز"..
ومن شاء التأكد فليطلع على مراسلات "ماركس – إنجلز"، عندما كان ماركس يزور الجزائر المستعمرَة من قبل فرنسا في ما بعد منتصف القرت التاسع عشر..
لم ينشغل "محرر أوربا العظيم ماركس" سوى بما انشغل به الشيوعيون الجزائريون، "الصراع الطبقي" بين عمال وفلاحين كلهم فرنسيون حتى من كان منهم جزائريا يُسلخ عن إنسانيته وعن أصله وعن جذره بأبشع أنواع القهر..
ولم يستطع لا ماركس ولا إنجلز ولا كل من جاء بعدهم، التعاطي مع الحالة الجزائرية باعتبارها حالة استعمارية وحالة تحرر وطني..
حتى المجازر والمذابح وسياسة الإبادة التي اتبعتها فرنسا في الجزائر لتفعل بها مثلما فعل الأوربيون في سكان القارة الأميركية والقارة الأوسترالية حين أبادوهم ليقيموا مكانهم وجودا أوربيا جديدا..
نقول.. حتى هذه الممارسات لم يقرأها ماركس ولا إنجلز إلا باعتبارها صراعا بين طبقتين، وليذهب إلى الجحيم كل من ينظر إلى الوجود الفرنسي في الجزائر باعتباره "استعمارا" يولِّد حتما مظاهر نضالية تندرج تحت مسمى "التحرر الوطني"..
والفكر الشيوعي لم يتعامل مع الاستعمار باعتبارة مُنْتِجا لحالة تحرر وطني إلا بعد الحرب العالمية الثانية، في ظاهرة تطور فكري وأيديولوجي وسياسي تُشْهَد للماركسيين الجدد في العالم الثالث نفسه..
فمن حيث المبدأ لا توجد في بواكير "الشيوعية" و"الماركسية" أي تأصيلات لظاهرة التحر الوطني من الاستعمار..
فكل العالم المستعمَر كان في الرؤية الشيوعية الأولى مجرد أراضي أوربية تقطنها شعوب متخلفة وبدائية، لم يتم التعاطي مع قضاياها باعتبارها قضايا تحرر بل هي باستمرار قضايا صراع طبقي ضمن المجتمع الواحد والدولة الواحدة ليس إلا..
ومع ذلك لم يحاسب أحد الماركسيين والشيوعيين الجدد على مخازي سياسات الشيوعيين القدماء الذين كانوا أقرب إلى "منظري" المشاريع الاستعمارية تحت عناوين الصراع الطبقي الهزيلة، من حيث أدركوا أو لم يدركوا..
وتعامل الجميع مع برامجهم اللاحقة ذات البعد الوطني باعتبارها مشاريع وطنية وحاسبوهم عليها متجاهلين ماضيهم السيء في التعامل مع قضايا التحرر الوطني الكبرى وعلى رأسها حالتي الجزائر وفلسطين..
السؤال الذي يطرح نفسه..
لماذا نقبل باتباع هذه السياسة المنطقية جدا مع الشيوعيين ومع حملة الفكر الشيوعي، لكننا نصر على محاسية "الإخوان المسلمين" على ما فعلوه عام 1957 مثلا، او ما فعلوه قبل ذلك أو بعد ذلك؟!
إن ما فعلوه لا يقل سوءا ولا يزيد سوءا عما كان يفعله الشيوعيون الذين ضربناهم أمثلة في الماضي..
ومع ذلك قبلنا من الشيوعيين أنهم أبناء اليوم ولم نقبل من الإخوان المسلمين أنهم أبناء اليوم؟! وقبلنا من الشيوعيين أنهم كانوا يتطورون وأصبحوا أكثر قدرة على التعامل مع قضايا أوطانهم بشكل مختلف، ولم نقبل ذلك من الإخوان المسلمين؟!
لست مع الإخوان المسلمين لا فكرا ونهجا سياسيا، لا بل ولا تصورا دينيا، فأنا شخصيا عندهم وعندكل السلفيين مشكوكٌ في إسلامي أصلا لأني قدمت تصورات دينية ليس من السهل لديهم اعتبار من يتعاطاها مسلما من حيث المبدأ..
ومع ذلك أرى أن التعامل معهم بمحاسبتهم اليوم على خطأ ارتكبوه قبل ستين عاما، ليس منهجا سياسيا سليما..
وإن الموضوعية تقتضي محاسبتهم على ما يفعلونه اليوم..
أنا أختلف مع الإخوان المسلمين سياسيا، ولا أرتاح لطروحاتهم ولا لبرامجهم، وأستصعب الثقة في أيِّ ىتعامل سياسي معهم، ولكن ليس لأنهم كانوا رجعيين على مدى خمسين أو ستين عاما من عمرهم، ولا لأنهم تآمروا مع النظام عام 1957، بل لأنهم الآن متخبطون، إقصائيون، انتهازيون، أنانيون، ذاتيون.. إلخ..
وبالتالي لأنهم لم يثبتوا حتى الآن أنهم قادرون على إقناعي بأنهم وطنيون بمعنى وطنية البرنامج ولا تنظيميته أو حزبيته..
هكذا أفهم تحديد الموقف السياسي من أيِّ فئة..
أما إذا صممنا على إقامة هذا الموقف على أساس التنبيش في الماضي السياسي والثقافي، فمن يحاسبون الإخوان المسلمين اليوم على خيانتهم للوطن وللشعب عام 1957 وما وما بعده وفق رؤيتهم للوطنية، هم أنفسهم من يجب أن يحاسبوا على خيانة أسلافهم للأمة ثقافيا وسياسيا وأيديولوجيا وبالتالي وطنيا قبل ظهور الإخوان إلى حيز الوجود بعقود، من وجهة نظر كل الشعوب آنذاك للوطنية التي لم تكن تعني لديهم سوى مناجزة الاستعمار للتحرر منه، بعيدا عن أيِّ مقولات فارغة وهزيلة كانت تختزل مسائل التحرر في صراع ضد سلطة المستعمر على لقمة خبز ووظيفة شاغرة!!!!!!!!!!!!!!
نظرك إلى ماضي الآخر لتبرير موقفك منه اليوم، يعطيه نفس الحق لينظر إلى ماضيك ليحدد موقفه منك اليوم..
وعندئذ فلنعد جميعا إلى بيوتنا، ولنكف عن التشدق بالوطنية..
فلكل منا أسلاف أساؤوا..
فليس ماضي فلان بأنصع ولا بأكثر قبولا من ماضي علان..
وكلنا في الحاضر ضحايا لجلاد واحد..