نضال برقان
بعد رحيل والده بخمسة عشر عاما أخرج ابن أحمد شوقي, حسين شوقي إلى النور كتابه (أبي شوقي) الذي قدم من خلاله صورة تلقائية عن أبيه وعالمه الشعري, راصدا كذلك ملامح من صورة مصر في تلك الفترة (أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) على الصعيد الاجتماعي والسياسي والأدبي.
وقد أعيدت مؤخرا طباعة الكتاب عبر سلسلة (ذاكرة الكتابة) التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة, بتقديم الشاعر خليل مطران الذي رأى أن عبقرية شوقي جمعت إلى عبقرية العقل عبقرية القلب, فكان كبيراً في أصغر دعاباته, كما كان كبيراً في أسمى مبتدعاته.
وعن الشاعر الذي كان مناط احترام وتقدير شوقي, يروي الابن, أن شوقي كان شديد الإعجاب بالشاعر العباسي أبي نواس, وكان يرى أنه لم ينل حظه من الدراسة والتقييم, وأنه ظلم حين صوروه على أنه (شاعر ماجن) وقد تبلور هذا الإعجاب في إطلاق شوقي اسم (كرمة ابن هانئ) على حديقة منزلهم الغناء الفسيحة, سواء منزلهم القديم في ضاحية المطرية آنذاك, أو بعد ذلك في منزلهم على نيل القاهرة بالجيزة.
وبكل شجاعة, يهتك الابن مناطق شديدة الخصوصية في شخصية شوقي, فيراه سريع التقلب كالمحيط, ويذكر أن أهم عيوب أبيه أنانيته الشديدة, متسائلا هنا: هل هي من لوازم الشعراء?.
ويذكر في هذا الخصوص أنهم لم يكونوا يستطيعون الغداء في ساعة معينة, بل كان لزاماً عليهم أن ينتظروا إلى أن تحين شهية الأب, وكثيراً ما كان يطول هذا الانتظار, لأنه كان يصحو من نومه متأخراً, وسبب هذا التأخير كما يروي الابن أن شوقي كان يراجع بعدما يعود من سهرته ما نظم من شعر طوال نهاره.
وعلى الرغم من احتفاء حسين شوقي بصورة أبيه واعتزازه بها, إلا أنه يرى أيضاً أنه كان بوهيمي النزعة إلى حد بعيد, ويدلل على ذلك بعدد من الوقائع الطريفة منها هذه الواقعة التي حدثت أثناء منفى شوقي في مدينة برشلونة بأسبانيا, في الفترة من عام 1915 إلى 1920 يقول: (ركبنا الحافلة ذات يوم, هو وأنا, فصعد رجل عملاق بادي الترف والثراء, يعلق سلسلة ذهبية بصدره وفي فمه سيجار ضخم, ثم ما لبث أن استسلم للنوم في ركن من العربة, وراح يغط غطيطاً يرهق الأعصاب. وصعد نشال في مقتبل العمر جميل الصورة, وهمّ بأن يخطف السلسلة, لكنه أدرك أن أبي يلمحه, فأشار إليه إشارة برأسه مؤداها: هل آخذها? فأجابه أبي برأسه "خذها" فنشلها الشاب ونزل. بعدما حيّا أبي برفع قبعته!, ولم يكد ينزل حتى التفتّ إلى أبي وقلت: هل يصح أن تترك النشال يأخذ سلسلة الرجل وهو نائم?, فأجاب: شيء عجيب يا بني!, لو كنت مقسم الحظوظ فلمن كنت تعطي السلسلة الذهبية?, أكنت تعطيها عملاقاً دميماً أم شاباً جميلاً?, فقلت: كنت أعطيها الشاب الجميل, فأجاب ببساطة: ها هو ذا أخذها!).
ويعاين المؤلف باستفاضة سنوات المنفى الخمس التي قضاها والده وأسرته في إسبانيا بعد عزل الخديوي عباس حلمي على يد الاحتلال الإنجليزي, وفرض السلطة العسكرية على مصر إبان الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من قسوة المنفى وشظف العيش الذي لم يعتده شوقي, إلا أنه استطاع أن يتكيف مع هذه الأجواء وأن يجعل الحياة لذيذة مسلية ويخفف من وطأة المحنة على كاهل أسرته الكبيرة التي كانت تضم عشرة أفراد. وقد تولى شوقي تعليم أولاده الثلاثة, فكان يعطيهم دروساً في اللغة العربية طيلة مدة المنفى, كما وفر لهم مدرسين للغة الألمانية والفرنسية, علاوة على ذلك تعلم شوقي الأسبانية, لكن نطقه فيها لم يكن سليماً.
العودة إلى مصر
ويستعرض الكتاب صداقات شوقي لعدد من الساسة والأدباء والشعراء العرب والمصريين, ويستعيد ملامح من ذكرياته في باريس أثناء دراسته في جامعة مونبلييه, وتعرفه على الشاعر الفرنسي الشهير فرلين على أحد مقاهي ميدان السوربون. ويحكي شوقي أن فرلين كان لا يكف عن الشراب لحظة, وكانت الخمر تتساقط على ذقنه فلا يعنى بمسحها, إذ كان شاعراً بوهيمياً, وكان طلبة السوربون الذين يمرون بين يديه وهو على تلك الحالة يرفعون له قبعاتهم إجلالاً له, بينما هو لا يشعر بهم, فهو سابح في عالم الشعر والخيال.
ويروي الكتاب الكثير عن حفلات شوقي الذي كان يقيمها في الكرمة وبخاصة في المناسبات والأعياد, ومن أشهرها حفل تكريم شاعر الهند الكبير طاغور والذي حضره الكثير من الأدباء والكبراء, على رأسهم الزعيم سعد زغلول الذي أخر اجتماع مجلس النواب ساعة آنذاك, كي يتسنى للأعضاء المدعوين إلى الحفل تلبية الدعوة.
وبعد عشر سنوات يروي حسين شوقي أنه سأل الطبيب النمساوي عن سبب موت أبيه, برغم أنه لم يكن متقدماً في السن إذ توفي في الثانية والستين, فقال له: (نعم لم يكن مسناً, لكن أعصابه مع الأسف كانت بالية, كانت أعصاب شيخ في الثمانين).