هذه إعادة لسياحتي في الكتاب الذي يتربع عنوانه على رأس هذه الصفحة ..قررت أخذ استراحة،وقراءة كتاب بعيدا عن هذه القضايا – شبه اليومية - التي تطاردنا،فاستعرت،من مكتبة الجامعة الإسلامية، كتاب : (الشكل الجديد لمدن العالم الثالث) من تأليف / تشارلز كوريا،وترجمة الدكتور محمد بن حسين البراهيم،والكتاب من منشورات جامعة الملك سعود،سنة 1420 هـ ( 1999م). قررت الاستراحة فإذا بالكتابة تطاردني،والأسئلة – المعتادة – تطاردني هل استفدنا من أفكار الآخرين وتجاربهم؟! أم أننا لابد أن نقع في نفس الأخطاء،ثم نسعى لحلها؟!ثم خطر لي أن أكتب هذه الأسطر،والتي تمثل (سياحة) في هذا الكتاب.لم أتجاوز الصفحة الثانية من الكتاب – المقدمة – حتى وجدت الكاتب يذكر سبب اختياره لكلمة "العالم الثالث" :(كلمة"العالم الثالث"إنني أجد هذا المصطلح أفضل من تلك التعبيرات التعسة وغير الدقيقة مثل "المتخلف" أو "النامي". إن مصطلح "العالم الثالث"الذي نستعمله الآن كان قد ابتكره نهرو وتيتو في الخمسينات من القرن العشرين وعبد الناصر وغيرهم (..) وكان القصد منه هو تعريف خيار ثالث يختلف عن الخيار الأمريكي (..) والخيار السوفيتي (..) إن هذا الخيار الثالث هو ما أريد أن ألفت انتباه القارئ إليه.){ ص "و"}.الحقيقية أنني لا أعرف مصطلح "العالم الثالث"إلا صفة سلبية أقرب إلى الذم،ولست أعرف من أين ترسخ في ذهني أن "العالم الثالث" تعني الدرجة التي نقبع فيها، في ذيل التسلسل الحضاري الحديث؟!! العالم الأول،هو العالم المتقدم جدا،أي "الغرب" يليه في "الدرجة" العالم الثاني أي الاتحاد السوفيتي وغيره من الدول الشيوعية،ثم يأتي "العالم الثالث" في ذيل القامة! فكيف تحول المعنى الإيجابي للعالم الثالث إلى معنى سلبي،نحاول التملص منه باستعمال مصطلح "الدول النامية"؟!!قبل أن يذكر المؤلف سبب اختياره لمصطلح العالم الثالث،كان قد قال :(ليس هناك شك لديّ أن التمدن السريع (الناتج عن الهجرة المتزايدة من الريف إلى المدينة) سيكون المسألة الرئيسية في الأحقاب الثلاثة القادمة : اقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا. ومع ذلك،فليس هناك نظرية متكاملة يمكن أن توفر قاعدة للعمل لمواجهة هذه المشكلة. ولابد أن نعطي أكبر الأولويات لتطوير نظرية كهذه. ولابد أن تأتي هذه النظرية من أولئك الذين يشتغلون بهذه القضايا يوميا إذ إن نظريات حرب العصابات لم تأت من الأكاديميين،ولكن من المشتركين فعلا في القتال..){ ص "و"}الشكل الجديد لمدن العالم الثالث : تشارلز كوريا 1 – 2من التمهيد نقتطف هذه الأسطر :(مدينة بومبي على سبيل المثال قبل عشرين سنة،لم يكن هناك أكثر من 400000 ساكن رصيف من بين إجمالي عدد سكان قدره 4.5 مليون نسمة. أما اليوم فهناك 4.5 مليون ساكن رصيف تقريبا من بين السكان الذين بلغ عددهم تسعة ملايين. ومن ثم يتضح أن عدد سكان الدولة قد ازداد بنسبة 50% وعدد سكان المدينة زاد بنسبة 100%،فيما زاد عدد سكان الأرصفة بنسبة 1100 % (أكثر من 10 أضعاف). ستغير مثل هذه الحقائق الصور التي تبدر إلى الذهن عندما نسمع كلمة "مدينة".){ ص "ي".}. ويقول أيضا :( قال لي صديق من أمريكا اللاتينية مهتم بالتنظيم العائلي : "كيف تقول لمزارع مكسيكي إنه لو صار لديه عشرة أطفال فستحل الكارثة بالعالم،بينما يعيش هو بالفعل في كارثة." ومما لاشك فيه،أن اهتمامنا بمصير الإنسانية في الطوفان البشري القادم ربما كانت دوافعه أنانية. إننا قلقون : كيف يمكن أن نعيش خلال الكارثة بدون وسائل الحياة التي تعودناها. أما الفقراء فهم يعيشون بدون أي شيء كما يفعلون ذلك الآن.إن قابلية الإنسان على التحمل والابتكار مدهشة حقا.){ ص"ل".}تمهيدهذا هو عنوان الفصل الأول من الكتاب،والذي استهله المؤلف بهذه العبارات :(غالبا ما نعجز عن رؤية الصورة الجديدة،لأن رؤيتنا للعالم الثالث محدودة وضيقة الأفق. خذ مثلا إحدى مزايا العالم الثالث التي يمكن اعتبارها أعجوبة. بالرغم من الفقر والاستغلال وقرون من الاحتياج والعوز،فإن الناس بوصفهم كائنات اجتماعية وإنسانية لا يزالون بخير. إن هذه حقيقة في غاية الأهمية لمن يهتمون بشؤون التنمية. ربما كان سكان الأرصفة في عيون الأثرياء أناسا مزعجين،لكن جهود سكان الأصفة { هكذا.} بأي مقياس آخر،هي جهود إيجابية من الناحية الاجتماعية ورائعة مثل جهود الطائر الذي يبني عشا.(..) إن أي حل لهجرة الفقر لابد أن يكون معقدا ومتعدد الأوجه. في البداية،ينبغي إعادة توزيع الأراضي وإجراء إصلاح اجتماعي في القرى لزيادة قدرتها على إعاشة السكان. وثانيا،ينبغي تحديد مدن الأسواق في كل مقاطعة وتقويتها لتصبح مراكز نمو جديدة. وثالثا،ينبغي وضع كل الصناعات الجديدة وبنايات المكاتب الكبيرة (بما في ذلك المكاتب الحكومية) في المدن الصغيرة المتوسطة الحجم وليس في المدن الكبيرة.){ الصفحات 1 – 3}ويقول المؤلف أيضا :(على كل حال،ليست الهجرات الكبيرة إلى المدن بالظاهرة الجديدة. لقد ازداد عدد السكان في أوربا عدة مرات في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين. وكان الناس يهاجرون للأسباب نفسها: زيادة عدد السكان بالنسبة للأراضي القابلة للزراعة. لكن الهجرة في أوريا كانت تختلف اختلافا جذريا عن الهجرة في الهند. لم يكن الأوربيين مقيدين بحدود بلادهم. بسبب قدراتهم العسكرية كان باستطاعتهم أن ينتشروا في بقاع العالم المختلفة،مما أدى بالتالي إلى ارتفاع مستوى المعيشة وانخفاض حجم العائلة.){ ص 5}كما يأسف لأن : ( إعادة توزيع السكان على نطاق عالمي لم يعد خيارا مفتوحا لدى دول العالم الثالث الآن. (..) على سبيل المثال،لا تتيح المباني العالية فرصة بنائها إلا لعدد محدود من الممولين الكبار القادرين على تنظيم تمويل المشاريع الكبيرة وعدد قليل من المهندسين والمعماريين القادرين على تصميم هذه المباني وعدد قليل من المقاولين القادرين على تنفيذها. أما الأرباح فغالبيتها تعود إلى عدد قليل من البنوك التي تمول المشروع.قارن هذا بالبناء الذي نجده في المناطق القديمة وسط مدن العالم الثالث : بنايات صغيرة متلاصقة،ارتفاع كل منها أربعة أدوار أو خمسة. في هذا النمط من البناء تنتشر فرص التوظيف خلال قطاع عريض من الناس هو قطاع الأسواق الشعبية : البناؤون،النجارون،المقاولون الصغار،وهلم جرا. وهكذا،فإن فوائد الاستثمار تعم جزءا أكبر من السكان.للأسف،فإن هذه المسائل لا يدركها صانعوا القرار والأثرياء ذوو النفوذ.){ الصفحات 7- 9}التمدنفي هذا الفصل،وهو الفصل الثاني،يخبرنا المؤلف : ( أن الفقر في الريف الهندي له وجه مختلف جدا. يُعد سكان الريف فقراء مثل سكان المدن بل ربما أكثر فقرا،لكنهم ليسوا في حالة بؤس كالتي يعيشها فقراء المدن. في القرية،هناك دائما،أماكن يلتقي فيها الناس ويتحدثون ويطبخون ويغسلون ثيابهم. وهناك،أيضا،أماكن يلعب فيها الأطفال. كيف تتم هذه النشاطات في المدن؟ من الواضح أنه ليس هناك علاقة بين الطريقة التي بنيت بها مدننا والطريقة التي يستفيد الناس بواسطتها من تلك المدن. (..) يتكون نظام الفارغات من أربعة عناصر رئيسية :أولا : الفراغ الذي تحتاجه العائلة للأغراض الخاصة،كالنوم والطبخ وتخزين المؤن الغذائية والأمتعة الشخصية.ثانيا : مناطق الاتصال القريبة مثل الفراغ أمام عتبة الباب حيث يتحدث الجيران ويلعب الأطفال.ثالثا : المناطق التي يلتقي فيها سكان الحي (..)رابعا : الأماكن العامة،كالميادين التي تستعملها المدينة بأكملها.){ ص 22}.ويواصل المؤلف حديثه عن الفراغات :(والحقيقة الثانية التي لا ينبغي تجاهلها في النظام الفراغي التدريجي هي إمكانية التبادل بين عناصره. (..) يمكن التعويض عن صغر الوحدة السكنية بفراغات جماعية كبيرة والعكس صحيح. ويوجد،أحيانا،عدم اتزان هائل : فالفراغات العامة المفتوحة في دلهي،مثلا،تتبع المعتاد 1.5 هكتار لكل 1000 شخص،وذلك يعني 75 مترا (مربعا) لكل عائلة. تخيل الفرق الكبير في نوعية حياة العوائل المكدسة في مساكن صغيرة في دلهي القديمة لو أن جزء بسيطا من هذه الفراغات العامة (الضائعة الآن في ميادين هائلة ومتنزهات ضخمة في دلهي الجديدة) يمكن مبادلتها بفناء صغير لكل عائلة. إن فهم هذا التدرج الفراغي وطبيعة هذه المبادلات هو أول خطوة مهمة نحو توفر السكن المناسب،وبدون ذلك هناك،دائما،خطر صياغة الأسئلة صياغة خاطئة،وسوء الفهم. هذا هو السبب وراء مشاريع الإسكان المنخفضة التكاليف التي همها الرئيسي صياغة تكديس أكبر عدد من الوحدات (الخلايا) السكنية في الموقع بدون الاهتمام بالفراغات الأخرى التي يشملها التدرج الفراغي. والنتيجة : بيئة غير إنسانية وغير اقتصادية وغير صالحة للاستعمال.لقد تجاهل مخططو هذه المشاريع حقيقة رئيسة في الأقطار الحارة،فالفراغ نفسه هو أحد الموارد المهمة تماما مثل الحديد والإسمنت. إن توفر الخصوصية للعائلة هو أمر في غاية الأهمية عند استخدام الفراغات المسقوفة،إذ أنه كلما كانت البنايات المجاورة عالية قلت صلاحية الفراغات للاستعمال. إن فناء الدور الأرضي يمكن لعائلة استعماله لعدة أغراض،بما في ذلك النوم أثناء الليل. وإذا أصبح ارتفاع البناية دورين فلا زال بإمكان العائلة أن تطبخ فيه. وعندما يصل ارتفاع البناية المجاورة إلى خمسة أدوار،يصبح الفراغ مجرد مكان لتوقيف السيارات. ){ الصفحات 26 – 28} ويقرر المؤلف أيضا،أننا : ( لو رجعنا إلى الوراء قليلا لنرى المدينة ككل سنجد أن آثار الفروقات في الكثافة على المدينة أقل فأقل أهمية. على عكس ما يظنه كثيرون،فإن مضاعفة ارتفاع المباني لا توفر كثيرا في المساحة الإجمالية للمدينة. إن المساكن لا تستهلك أكثر من ثلث المساحة الإجمالية للمدينة أما الباقي فتستهلكه المرافق الأخرى كالصناعة والمواصلات والأماكن الخضراء والمنشآت التعليمية (..) وزيادة على ذلك،تؤثر هذه التغيرات بشدة على تكلفة البناء.يمكن في المناخ الحار أن يبنى السكن من أنواع كثيرة من مواد البناء البسيطة،من الطين وخشب البامبو إلى الطوب المجفف بالشمس. تصلح هذه المواد،بطبيعتها،للإنشاءات غير العالية. وعندما يعلو الإنشاء إلى أربعة أدوار أو أكثر فإن مواد البناء لابد أن تتغير إلى الحديد أو الخرسانة،ليس بسبب المناخ ولكن للحصول على القوة الإنشائية. والزيادة في التكاليف نتيجة ذلك كبيرة جدا. والأمر مختلف في البلدان الباردة مثل أوربا و أمريكا الشمالية حيث تكون الزيادة في تكلفة البناء بسبب زيادة ارتفاع المبنى أقل مما هي عليه في المناخات الحارة،لأنه،حتى المباني ذات الدور الواحد،لابد أن تبنى من مواد مكلفة نسبيا حتى تكون قادرة على توفير قدر من العزل الحراري. وعندما نتحدث عن المباني المنخفضة،لا نعني،فقط،المباني التي يبنيها أصحابها بأيديهم (Self-Help Housing)،لكننا نعني،أيضا،المباني التقليدية عامة،تلك المنشئات التي يبنيها الناس في كل أنحاء العالم بدون الاستعانة بالمعماريين. هذه المباني ناجحة،ليس فقط،من الناحية الاقتصادية والجمالية والإنسانية (كما يعترف بذلك أي معماري أمين) بل إن النواحي الاجتماعية والاقتصادية لطريقة البناء تناسب الوضع.){ الصفحات 30 – 32}ويختم المؤلف هذا الفصل بقوله :(منذ مدة طويلة،أطول مما يجب،ونحن نحسب كثافة مدننا بحسابات ضيقة تحددها مصالح المستثمرين العقاريين. كانت تؤدي الكثافة العالية إلى ارتفاع في أسعار الأراضي،وتلك تؤدي إلى الكثافة العالية،وهكذا نستمر في دائرة حلزونية مثل الثعبان الذي يقتات على ذيله. في هذه الأيام تقوم صناعة البناء بأكملها في معظم مدننا بإنتاج مبان لا يستطيع شراءها سوى الطبقة المتوسطة الثرية،وهكذا ندفع بنصف مجتمعنا إلى الأرصفة. وفي خضم هذه الربكة واليأس،يحاول المعماريون والمهندسون أن يبحثوا عن معجزات تقنية،مثل الكيميائيين في القرون الوسطى الذين يحاولون العثور على الحجر السحري الذي يحول كل شيء إلى ذهب. منذ مدة طويلة،ونحن نجاهد للعثور على أجوبة بينما الأسئلة نفسها صياغتها خاطئة.إن مشكلة إسكان الغالبية العظمى من سكان مدننا لا تكمن في إنتاج مواد بناء أو طرق بناء خارقة،إنها،أساسا،مسألة كثافة،مسألة إعادة تنظيم استعمال الأراضي.){ الصفحتين 35 - 36}الفراغ أحد الموارديفتتح المؤلف فصله الثالث بالقول :(كانت المجتمعات عبر القرون تنتج المساكن التي تحتاجها بطريقة طبيعية،كل مجتمع حسب ظروفه. إن قرية ميكانوس (اليونان) وجيزلميت (..) وصنعاء ليست مساكن صممها أناس من خارج البلد،إنها نتيجة طبيعية مثل الأزهار التي تنبت في المراعي. وإذا كانت مدننا تشهد نقصا في السكن فإن ذلك دليل على خلل في النظام. مهمتنا إذن هي معرفة هذا الخلل ومحاولة إصلاحه. بدلا من ذلك نشرع في تصميم المساكن؟ لماذا نفعل ذلك؟بالرغم من النوايا الحسنة في الظاهر،فإن نظرتنا،في الحقيقة،قبيحة جدا. يبدو أننا نريد أن نعتقد أن السبب في نقص المساكن لدى الفقراء هو جهلهم،ولابد لنا أن نريهم الطريقة. إن هذا الاعتقاد أسهل على ضمائرنا من مواجهة الحقيقة : إنهم بدون منازل لأنهم الطرف الخاسر في النظام الاجتماعي.){الصفحتين 37 - 38}. في هذا الفصل يكرر المؤلف مزايا المباني المنخفضة :(صيانة المباني المنخفضة أسهل كثيرا من المباني العالية. فالنورة (الجبس الأبيض) الرخيصة يمكن لشخص واحد أن يدهن بها بيته باستخدام سلم عادي. بالمقابل،فإن المباني العالية ليست،فقط،غالية الصيانة (تتطلب سقالات خارجية خاصة لدهانها من الخارج) لكنها،تعلو فوق مستوى الأشجار وتفسد المنظر عدة أميال حولها أيضا. لقد أصبحت هذه مشكلة حادة في معظم مدن العالم الثالث.){ ص 42}. ويضيف المؤلف ميزة أخرى :(هناك ميزة أخرى لهذا النوع من السكن قد تفوق في أهميتها الميزات الأخرى وهي العدالة. (..) ولو كان بالإمكان إيجاد قانون للحقوق الأساسية للسكن في العالم الثالث فلا بد أن يشتمل على ثمانية مبادئ رئيسية : التدرج،العدالة،الانفتاح إلى السماء،انعدام الطبقية،التعددية،المشاركة،فرص العمل،التنوع الفراغي.){ الصفحات 42 - 45}.إلى اللقاء في الحلقة القادمة .س/ محمود المختار الشنقيطيس : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتابالعدالة