تنشب في رمضان معركة بين وسائل الإعلام القديمة وبعبقها الرائج ونكهتها الفواحة ووسائل الإعلام الحديثة بخدماتها المتميزة وعطائها المتجدد؛ إذ على الرغم من الانتشار الكثيف لوسائل الإعلام في العصر الحديث؛ إذ لا يكاد بيتٌ يخلو من جهاز الرائي أو المذياع؛ وعلى الرغم من إصرار معظم محطات التلفاز وموجات الأثير على تزويق وتنميق الفترة القصيرة التي تسبق أذان المغرب معلنة موعد الإفطار، فإنها لم تفلح بأصواتها المرتفعة في أن تُسكت صوت المدفع الذي يعلو مشيراً إلى دخول وقت الإفطار؛ ذلك أن قلة من الناس هم الذين يعتمدون تلك الوسائل ليبدؤوا بالطعام
على حين يترقب أكثرهم صوت المدفع، وما ذاك لعدم ثقتهم في دقة الأخبار الإعلامية ببعض المحطات الفضائية، وإنما لحنينهم الداخلي إلى تلك العادة القديمة البدائية التي ألفوها منذ القدم فغدت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم الرمضانية.
كانت الدول القديمة في الأزمنة الغابرة التي لم تكن فيها وسائل الإعلام قد انتشرت هذا الانتشار الواسع الكثيف إذا أرادت أن تخبر رعاياها خبراً ما ترسل منادياً يطوف في الأسواق يرافقه رجل يحمل طبلاً كبيراً يقرعه حتى يتجمع الناس على صوته فيقرأ المنادي الخبر المطلوب إعلانه بصوت عال يكاد يسمعه القاصي والداني.
أما اليوم فإن وسائل الإعلام الحديثة قد امتلكت تقنية إعلامية متطورة ووسائل مغرية وباتت تقدم نتائج إعلامية مذهلة، لكنها على الرغم من ذلك لم تتمكن من أن تنافس ذلك الحنين إلى التراث الإعلامي القديم الذي ما انفك يرتع في نفوس الناس كباراً وصغاراً؛ إذ حقاً ما زال صوت المدفع معلناً بداية شهر الصوم ونهايته وبداية يوم الصوم ونهايته يلقى رواجاً وارتياحاً في نفوس الكثيرين، وإن صوت طبلة المسحر ما زال يترنم في القلوب؛ لا كما تفعل أصوات المنبهات الوقتية، فضلاً عن شخصية المسحر (القديمة) ولباسه المتميز، تلك عادات وطقوس اختصها الناس بهذا الشهر الفضيل لا تتعداه إلى سواه ولقد استمرت عبر القرون، وهذه الطقوس والعادات من الأهمية بمكان بحيث تلفت أنظار السائحين والزوار لكل بلد إسلامي حتى إن بعض المؤرخين قد أفردوا فصولاً في كتبهم يتحدثون فيها عن عادات أهل مدينة أو بلد ما في شهر رمضان.
عندما قام الرحالة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي برحلته الأولى بين عامي 1325-1349م زار مكة المكرمة وحج حجته الأولى، ثم بعد سنوات عاد إليها ليحج حجته الثانية فأقام به سنتين، وقد لفت نظره عادات أهل مكة آنذاك في شهر رمضان فتحدث عنهم فيما روي عنه، حيث قال إن أهل مكة كانوا يقرعون الطبول إذا هل هلال رمضان، ثم يجتمعون في المسجد الحرام ويشعلون المشاعل والشمع حتى يتلألأ الحرم نوراً ويسطع بهجة وإشراقاً، ويجتمع فيه القراء حتى يرتج المسجد لأصواتهم، فترق النفوس، وتحضر القلوب، وتهمل العين... حتى إذا ما حان موعد الإفطار تناوب المؤذنون الأذان في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فسمع الجوار الأذان وعرفوا أن موعد الإفطار قد حان، أما من كانت داره بعيدة عن الحرم ولا يصل إليه الصوت فكان يعتمد على القنديلين... فقد كان في مكة (سطح) عال وضع عليه قنديلان يبصرهما الناظر من جميع أنحاء مكة، وهذان القنديلان يتم إشعالهما منذ أذان المغرب حتى أذان الصبح، بحيث يستطيع الناظر إليهما في شهر رمضان أن يتناول الطعام طالما يبصر القنديلين حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل.
اليوم وقد تطورت وسائل الإعلام فنحن لسنا بحاجة إلى قناديل مضاءة لتُعلمنا موعد السحور وموعد الإفطار، وحتى لو وضعنا مثل تلك القناديل تقليداً روحياً أثرياً، فإن بصرنا سوف (ينحرف) عنها، لأننا إذا ما نظرنا إلى السطوح فإننا لا ننظر لنعلم موعد السحور والإفطار بقدر ما ننظر إلى (الصحن) الذي يلتقط المحطات الفضائية، حتى نطمئن على ثباته و... (اتجاهه).