80 - خطبتى الجمعة بعنوان
( التوبة فى شهر التوبة )
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نستهديه ، و نؤمن به و نتوكل عليه ، يجبر الكسر ، و يغفر الذنب و يعفو عن السيئات ، و يقيل العاثر من العثرات ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين و الآخرين ، و رب الأرض و السموات ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبد الله و رسوله ، عبد ربه حق عبادته ، و دعا إلى دينه ، فكان أتباعه بالحق هم الظاهرين ، صلى الله و سلم عليه و على آله و صحبه ، نجومٌ في الدجى زاهرة ، و كواكبٌ على الهدى سائرين ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .أمــا بــعــد : فأوصيكم - أيّها الناس – و نفسي بتقوَى الله عزّ و جلّ , فاتَّقوا الله رحمكم الله ، و اعملوا و استعدّوا ؛ فالموت مورِد , و الساعة موعِد , و القيامة مشهَد , فاستقيموا و أحسنوا , فمن أحسن الظنَّ بالله أحسنَ العمل , الإيمانُ ليس بالتحلّي و لا بالتمنّي , و لكن ما وقَر في القَلب و صدَّقه العمَل , و من سار على طريق رسول الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلَّم و منهاجه و إن اقتصَد سابِقٌ لمن سار على غَير طريقهِ و إن اجتهد , يمشي الهُوينى و يجيء في الأوّل , { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك: 22]. عبادَ الله ، و أنتم في تعيشون ساعات الشهر القادم الكريم , ترجون فضلَ ربكم , و تتعرَّضون لنفحات مولاكم , تأملون في خيره و بِرِّه , و تحاذرون تقصيركم , و تخشَون ذنوبَكم , تقبَّل الله منا و منكم , و رزقنا فيه الإحسان في العمَل , و رزقنا الله فيه القيامَ و الصيام .إعلموا حفظكم الله ، أنه يحيط بابن آدم أعداء كثير ، من شياطين الإنس و الجن ، يحسنون القبيح ، و يقبحون الحسن ، ينضم إليهم النفس الأمارة بالسوء ، و الشيطان ، و الهوى ، يدعونه إلى الشهوات ، و يقودونه إلى مهاوي الردى. ينحدر في موبقات الذنوب صغائرها و كبائرها ، ينساق في مغريات الحياة، و داعيات الهوى ، يصاحب ذلك ضيق و حرج و شعور بالذنب و الخطيئة فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل ، و يدخل في دائرة اليأس من روح الله و القنوط من رحمة الله .و لكن الله العليم الحكيم ، الرؤوف الرحيم ، الذي يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير ؛ فتح لعباده أبواب التوبة ، و دلهم على الاستغفار و جعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات ، و في ابتلاءاتهم مكفرات . بل إنه سبحانه بفضله و كرمه يبدل سيئاتهم حسنات : { وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:27، 28].أيها الصائمون القائمون ، لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً و ملجأ حصيناً ، يلجه المذنب معترفا بذنبه ، مؤملاً في ربه ، نادماً على فعله ، غير مصرٍ على خطيئته ، يحتمي بحمى الإستغفار ، يتبع السيئة الحسنة ؛ فيكفر الله عنه سيئاته ، و يرفع من درجاته. التوبة الصادقة - حفظكم الله - تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر و الشرك { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال:38].و قتلة الأنبياء ممن قالوا إن الله ثالث ثلاثة و قالوا إن الله هو المسيح بن مريم - تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا – لقد ناداهم المولى بقوله : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة:74].فتح ربكم أبوابه لكل التائبين ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، و يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، و خاطبكم في الحديث القدسي : (( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم )) و في التنزيل : { قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر:53]، { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء:110]، و من ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء . كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمن الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صواماً قواماً قانتاً لله ساجداً و قائماً يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه .معاشر الصائمين القائمين المتصدقين المنفقين ، من تدنس بشيء من قذر المعاصي فليبادر بغسله بماء التوبة و الاستغفار ؛ فإن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين .جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم قال: ( إذا أذنب عبد فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفر لي فقال الله : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب و يأخذ بالذنب ، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة : فليعمل ما شاء ) ، يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه غير مُصر .و جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يقول : و اذنوباه مرتين أو ثلاثاً فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ( قل اللهم مغفرتك أوسع لي من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، ثم قال له: أعد فأعاد، ثم قال له: أعد فأعاد فقال: قم فقد غفر الله لك ) . أخرجه الحاكم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه ، و أخرج أيضاً من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله : أحدنا يذنب ، قال: ( يكتب عليه ). قال : ثم يستغفر منه قال: ( يغفر له ويتاب عليه ) . قال: فيعود فيذنب. قال : ( يكتب عليه ). قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: ( يغفر له و يثاب عليه . و لا يمل الله حتى تملوا ) .و سئل علي رضي الله عنه عن العبد يذنب ؟ قال : يستغفر الله و يتوب . قيل : فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله و يتوب . قيل : فإن عاد ؟ قال : يستغفر الله و يتوب . قيل حتى متى ؟ قال : حتى يكون الشيطان هو المحسور .و قيل للحسن رحمه الله : ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود ؟ فقال : ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا ، فلا تملوا من الاستغفار. إلى جانب التوبة و الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ تأتي الأعمال الصالحة من الفرائض و التطوعات تكفر بها السيئات ، و ترفع بها الدرجات . طهارة و صيام و صدقات و حج و جهاد و غيرها .من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله يقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة و الأخرى ترفع درجة ، و الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر. و من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع و انصت غفر له ما بينه و بين الجمعة و زيادة ثلاثة أيام ؛ أخرج كل ذلك مسلم في صحيحه من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه . و هذا باب واسع لا يكاد يقع تحت حصر من طلب الرزق ، و إطعام الطعام ، و حسن الخلق ، و السماحة في التعامل ، و طلب العلم ، و قضاء الحوائج ، و حضور مجالس الذكر ، و الرحمة بالبهائم ، و إماطة الأذى . فأبشروا و أملوا و أحسنوا الظن بربكم .يضاف إلى ذلك يا عباد الله ما يصيب المسلم من البلايا في النفس و المال و الولد ، و ما يعرض له من مصائب الحياة و نوائب الدهر ، فهي كفارات للذنوب ، ماحيات للخطايا ، رافعات للدرجات .في خبر الصحيحين : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله له بها حتى الشوكة يشاكها )و في رواية : ( إلا رفع الله له بها درجة و حط عنه بها خطيئة ) .