العباس بن الأحنف وشعره
د. إبراهيم عوض
العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة الحنفي اليمامي شاعر عباسى ولد عام 133هـ تقريبا، ومات فى حدود 190هـ. وهو من أسرة كريمة، واشتهر بحسن الأخلاق والفضل، وحَظِىَ بالقرب من هارون الرشيد وصحبته. ويُعَدّ من فحول شعراء الغزل الذين اقتصروا عليه دون غيره من الأغراض. وقد أحب فتاة اسمها "فوز": وحدها أو أحبها ضمن من أحب، لكننا لا ندرى هل تزوج وأنجب أو لا، إذ تخلو من ذلك أشعاره وأخباره فى الكتب المختلفة رغم أنه عاش نحو ستين عاما لا أدرى كيف لم يتزوج خلالها. ترى لِمَ لَمْ يتزوج فوزًا مثلا تلك التى يلهج كثيرا بها وبتولهه بهواها فى شعره؟ وكيف ظل يحبها وينسب بها حتى مات دون أن يفكر فى الزواج بها؟ ذلك أنهما، كما يقول شعره، كثيرا ما التقيا وتبادلا حديث الغرام، وربما جمشها أيضا. أم تراهما انفصلا وأغرم بامرأة أخرى؟ فلم لم يقترن بهذه المرأة الأخرى؟ أتراه قد تزوج امرأة أخرى لم يقل فيها شعرا؟ فلم لم تذكر ذلك الزواجَ الكتبُ التى ترجمت له أو تناولت أخبار حياته؟
ويفهم مما كتبه د. زكى مبارك عن العباس أنه نظم قصيدته البديعة التالية فى فوز فى مرضه الأخير قبيل وفاته:
أَزَينَ نِساءِ العالَمينَ أَجيبي دُعاءَ مَشوقٍ بِالعِراقِ غَريبِ
كَتَبتُ كِتابي ما أُقيمُ حُروفَهُ لِشِدَّةِ إِعوالي وَطولِ نَحيبي
أَخُطُّ وَأَمحو ما خَطَطتُ بِعَبرَةٍ تَسُحُّ عَلى القرطاسِ سَحَّ غُروبِ
أَيا فَوزُ لَو أَبصَرتِني ما عَرَفتِني لِطولِ شُجوني بَعدَكُم وَشُحوبي
وَأَنتِ مِنَ الدُنيا نَصيبي فَإِن أَمُت فَلَيتَكِ مِن حورِ الجِنانِ نَصيبي
سَأَحفَظُ ما قَد كانَ بَيني وَبَينَكُم وَأَرعاكُمُ في مَشهَدي وَمَغيبي
وَكُنتُم تَزينونَ العِراقَ فَشانَهُ تَرَحُّلُكُم عَنهُ وَذاكَ مُذيبي
وَكُنتُم وَكُنّا في جِوارٍ بِغِبطَةٍ نُخالِسُ لَحظَ العَينِ كُلَ رَقيبِ
فَإِن يَكُ حالَ الناسُ بَيني وَبَينَكُم فَإِنَّ الهَوى وَالوِدَّ غَيرُ مَشوبِ
فَلا ضَحِكَ الواشونَ يا فَوزُ بَعدَكُم وَلا جَمَدَت عَينٌ جَرَت بِسُكوبِ
وَإِنّي لَأَستَهدي الرِياحَ سَلامَكُم إِذا أَقبَلَت مِن نَحوِكُم بِهُبوبِ
وَأَسأَلُها حَملَ السَلامِ إِلَيكُمُ فَإِن هِيَ يَوماً بَلَّغَت فَأَجيبي
أَرى البَينَ يَشكوهُ المُحِبونَ كُلُّهُم فَيا رَبُّ قَرِّب دارَ كُلِّ حَبيبِ
...
ومعنى ذلك أنه ظل إلى نهاية حياته يحب فوزا حتى لو كان قد أحب غيرها أيضا. فلماذا لم يتزوجها، وبخاصة أنها لم تكن فى عصمة رجل آخر كما هو واضح من الشعر الذى نظمه فيها العباس ومن أخباره معها؟ ألا إن هذا لأمر غريب غير مفهوم. ذلك أن الروايات لا تذكر أنه كانت هناك عوائق اجتماعية تمنع الحبيبين من الزواج. فلماذا لم يقترنا؟ وإذا قبلنا إعراض العباس عن الزواج فكيف نفسر عدم زواج فوز: منه أو من غيره؟ وهناك قصة عن ظروف وفاته فى الطريق بين العراق والحجاز وسمها د. زكى مبارك بأنها "أسطورة"، ولا أعرف سبب ذلك، إذ ليس موته على النحو الذى صورته القصة المذكورة بالشىء المستبعد، بله المستحيل. وهذه القصة أيضا توحى بقوة بأنه لم يكن زوجا، فضلا عن أن يكون أبا.
واسم حبيبته، كما رأينا، أو اسم أشهر حبيباته هو "فوز"، ذلك الاسم الفريد بين أسماء حبائب الشعراء العرب، وإن كان د. زكى مبارك، فى "العشاق الثلاثة"، يرجح أن يكون اسم "فوز" اسما كنائيا لا حقيقيا لأن الشاعر فى رأيه كان حريصا على كتمان حبه واسم حبيبته عن الناس بل مولعا به. إلا أن كثيرا من أشعار الشاعر تفضح رغم هذا كل ما كان يؤلمه أو يبهجه من ذلك الحب. بل إنه ليؤكد أن المحب لا يمكنه الكتمان:
مَنْ ذا، فَدَيْتُكِ، يَسْتَطِيعُ لِحُبِّهِ كَتْمًا إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْه ضُلُوعُ؟
* * *
لَقَدْ كُنْتُ أطوي ما أُلاقِي مِنَ الهَوى حِذارًا وأُخْفِيهِ وَأَكْتُمُهُ جُهْدي
فَنَمَّتْ على قلبي سَواكِبُ عَبْرَةٍ تجودُ بِها عينايَ سَحًّا على خَدّي
وَفي هَمَلانِ العَيْنِ أَعْدَلُ شاهِدٍ على غَيْبِ ما يُخْفِي الضَّميرُ مِنَ الوَجْدِ
وأنه هو قد صار مشهورا بين الناس بحبها من كثرة مجيئه إلى دارها ووقوفه ببابها:
سَعَى بي إِلَيْكِ الحُبُّ عَزْمًا على دَمِي فَلِلَّهِ دَرُّ الحُبِّ: أَيْنَ سَعَى بي؟
أُطيلُ وُقوفي مُستَهمًاً بِبابِكُم وَمِن دونِكُم ضيقٌ وَمَنْعُ حِجابِ
أَتَيتُكُمُو حَتّى لقد صِرتُ شُهْرَةً بِطولِ مجيئي نَحْوَكُم وَذَهابي
* * *
ظَلُومُ يا مَن حُبُّها قاتِلي وَتارِكي أُحْدوثَةً في الأَنامِ
وهناك فعلا بيت لعباس يصرح فيه بأنه اختار لها اسم "فوز" تضليلا للرقباء والمتطفلين:
فَسَمّيْتُها: فَوْزًا. وَلَو بُحْتُ باسمِها لَسَمَّيْتُ باسمٍ هائِلِ الذِّكْرِ أَشْنَعِ
وأحيانا ما يستعمل اسما آخر هو "ظَلُوم". وقد يتبادر إلى الذهن، كما حدث مع د. زكى مبارك وكاتب مادة "العباس بن الأحنف" فى "Encyclopedia of Arabic Literature"، أن فوز وظلوم امرأة واحدة. كما أن قول كاتب ترجمة العباس بن الأحنف فى "الموسوعة العربية العالمية" إنه قد وقف شعره جميعه على التغنى بحبه لفوز معناه أن فوزا هى نفسها ظلوم. غير أنى وجدت العباس يتحدث عن ظلوم بوصفها امرأة أخرى، إذ يطلب منها أن تشفع له عند فوز وترقق قلبها عليه:
اِشْفَعي يا ظَلُومُ لي عِنْدَ فَوْزٍ طالَما قَد نَفَعْتِني يا ظَلُومُ
* * *
جَمَعتُم بِفَوزٍ شَمْلَ مَنْ كانَ ذا هَوًى وَلَم تَجْمَعوا بَيْني وَبَينَ ظَلومِ
فَإِن أَحْيَ لا أَحْمَدْ حياتي، وَإِن أَمُتْ فَإِنَّ قَتيلَ الشوقِ غيرُ مَلُومِ
ثم إنه، فيما أذكر، لم يحدث أنْ جَمَع بين الاسمين فى قصيدة واحدة على نحو يفهم منه أنهما لِذَات الشخص. لكن إذا كانت ظلوم غير فوز، وكان لعباس نسيب فى ظلوم، فهل لنا أن نفهم أنه أحب امرأتين: فوز وظلوم، ودعنا الآن من عنان جارية الناطفى، التى تقول إحدى الروايات إنه كان يحبها؟ أم تراه كان يجرد منها شخصين: شخصا يهجره، وشخصا يتشفع له لديها، بمعنى أنه يحاول إيقاظ حبها له كى تكف عن هجرانها له؟ لكنه فى البيتين التاليين يذكر الاثنتين على نحو يفصل بينهما بحيث لا يتصور أحد أنهما ذات الشخص. بل إن الخصام هذه المرة كان من ظلوم بينما كان شمله مجموعا بفوز:
جَمَعْتُم بِفَوزٍ شَمْلَ مَن كانَ ذا هَوًى وَلَم تَجْمَعوا بيني وبينَ ظَلُومِ
فَإِنْ أَحْيَ لا أَحْمَد حياتي وَإِن أَمُتْ فَإِنَّ قَتيلَ الشوقِ غيرُ مَلُومِ
ألا إنه لأمر مربك! كذلك قد يناديها بـ"الذلفاء". فهل هو اسم أو مجرد صفة ينعتها بها؟ لكنه يستعمله فى بعض الأحيان استعمال الأسماء لا الصفات:
مَنْ عَذِيرِي مِنْ مُذْنِبٍ غَضْبانِ جِئْتُ أبغي عِتابَهُ فَبَدَاني؟
حُبُّ ذَلْفاءَ داخِلٌ في فؤادي مُرْتَعٍ فيه رَوْضَةَ الأحزانِ
* * *
أَذَلْفاءُ، إِن كانَ يُرْضِيكُمو عذابي فَدُونَكُمُو عَذِّبوا
وهناك أيضا أسماء "سِحْر وضياء وخُنُث". وكذلك نرى شاعرنا يتحبب إلى حبيبته بمناداتها بـ"مليكتى" أو "أميرتى" أو"سيدتى" أو "مالكتى" أو "حياتى"، أو يطلق على نفسه: "المولى" و"العبد". بل إن الوله عند العباس ليبلغ أن يقول كالكلام التالى على ما فيه من غلو شديد:
لَو عُبِدَ المَخْلوقُ مِن حُسْنِهِ لَأَصْبَحَتْ مالِكَتي رَبّا
على عكس عمر بن أبى ربيعة، الذى يصور نفسه معشوقا، والحبيبة عاشقة تسعى وراءه وتحاول لفت انتباهها إليه وتفديه بحياتها، وإن ورد فى بعض أشعار العباس أنها طالما نادته: "يا سيدى"! كما أنه فى بعض الأحيان قد تشتد عليه لواعج العشق فيدعو على حبيبته بالبلاء، أو يهددها بأنه متى ما انصرف عمن لايبادله حبا بحب فلا مرد له حينئذ إليه، أو ينبئها بأن كثيرات من النساء يتمنين أن يستجيب لحبهن، لكنه لا يريد إلا إياها.
ويقارن بعضهم بين العباس وابن أبى ربيعة كما فعل مثلا كاتب مادته فى "الموسوعة العربية العالمية" من حيث إن كلا منهما قد قصر شعره على الحب، وكان يعيش عيشة منعمة، ومن أسرة كريمة. لكن المشابه تقف هنا، إذ كان عمر من الفراشات المتنقلة التى لا تلزم زهرة واحدة لا تغادرها، فقد كان مولعا بالجمال يتتبعه أنى وجده. وله أشعار فى عدة نساء له مع كل منهن حكايات. وكان يترصد النساء فى الحج ذاته. أما العباس فكان موحدا فى الحب ظل يتغنى بفوز فى كل أشعاره، وإن كانت هناك رواية تقول إنه أحب عنان جارية النطافى. ومع هذا فإنها لا تظهر فى تلك الأشعار ظهور فوز. كما كان العباس مصاحبا للرشيد فى بعض أدوار حياته فى الحل والترحال، أما عمر فلم يقترب من السلطان قط. وأشعاره مفعمة بالأقاصيص الغرامية حيث يقوم بدور البطل الذى تعشقه النساء، أما العباس فهو المتيم الولهان الذى يبذل كل ما فى استطاعته لترضى عنه حبيبته. وهو يناديها بـ"أميرتى وسيدتى ومليكتى ومليكى"، أو ينعت نفسه بأنه "مولاها وعبدها". وإذا كان فى أشعار عمر فرحة وابتهاج ومعجبانية ومفاخرة بالذات ففى أشعار العباس عتاب وقلق ومحاولة دائبة لترضِّى الحبيبة واستجلاب مودتها والاعتذار إليها حتى من ذنبها هى تجاهه، وإن خلت تلك الأشعار من الحرقات اللاعجة واليأس المتلظى الذى نُلْفِيه عند جميل والمجنون وكُثَيِّر، وبخاصة أن الحبيبين غير محرومَىِ التلاقى تماما، فضلا عن أن العباس لا يفوته أن يكون أحيانا خفيف الظل فى حزنه، أو يضيف لمسة معجبانية خفيفة هنا أو هناك. على أنه فى بعض شعره يصرح بأنه، وإن كان عفيف الضمير، فإنه لا يتورع عن الاستجابة اشهوات السمع والبصر، واصفا نفسه بأنه فاسق النظر:
أَتَأذَنونَ لِصَبٍّ في زِيارَتِكُم فَعِندَكُم شَهَواتُ السَمعِ وَالبَصَرِ
لا يُضمِرُ السوءَ إِن طالَ الجُلوسُ بِهِ عَفُّ الضَميرِ وَلَكِن فاسِقُ النَظَرِ؟
بل هناك ما هو أبعد من ذلك:
وَأَنَا امْرُؤٌ حُلْوُ الشَّمائِلِ هِمَّتي في قَطْفِ رُمّانِ الثُّدِيِّ النُّهَّدِ
وليس فى الأمر عجب، فالله قد خلق المرأة مثيرة بطبيعتها للشهوات أيضا لا للعواطف الروحية فحسب، بل هذه وتلك. وحين نقول هذا لا نقصد أن اقتطاف الشهوات خارج إطار الزواج حلال، بل المراد أن تلك المشاعر طبيعية، ثم يأتى السلوك فيحققها أو يداورها إلى أن يكون زواج يحل فيه ذلك.
ومن الفروق التى تميز بين العباس وعمر أيضا أن الشعر الذى وصلنا لعباس أغلبه مقطوعات ونتف بينما قد بلغنا عن عمر قصائد كثيرة جدا. وبالإضافة إلى هذا نجد فى عدد من قصائد ابن أبى ربيعة وقوفا بالأطلال، أما العباس فلا يفعل شيئا من هذا. وربما كان السبب فى هذا أن عمر كان يعيش فى بلاد العرب حيث البادية وارتحال القبيلة من مكان إلى مكان على عكس العباس، الذى كان يعيش فى العراق. كما كان ابن ابى ربيعة أقرب عهدا بالجاهلية من ابن الأحنف. علاوة على أن العباس قد أشار على الأقل مرة إلى أن صاحبته تعيش فى قصر وأنه كان يقف قبالة القصر يلوح لها خفية كيما يحصل منها على موعد. فربما لم يجد لهذا السبب وجها فى الحديث عن الأطلال، التى لا تكون إلا فى البادية، بينما كان هو حريصا على أن يبرز حبيبته فى إطار حضرى. لا أقول إن هذه أسباب حاسمة، بل كل ما أقول إنها قد تكون ساهمت فى وجود هذه السمة فى شعر عمر وغيابها عن شعر رصيفه البغدادى.
ويقول د. زكى مبارك، فى الفصل الخاص بالعباس بن الأحنف من كتابه: "العشاق الثلاثة": "معشوقة العباس واحدة، وهي فوز. ولم يحدثنا الرواة عن هُوِيَّتِهَا كما حدَّثونا عن هُوِيَّةِ عزة معشوقة كُثَيِّر، أو هوية بثينة معشوقة جميل". كما أكد د. مبارك أنها من الحرائر لا من الجوارى. وليس الأمر محسوما كما يوحى كلام الأستاذ الدكتور، بل هناك الشىء ونقيضه، إذ نقرأ مثلا فى "الأغانى" أن "فوز كانت جارية لمحمد بن منصور، وكان يلقب: فتى العسكر، ثم اشتراها بعض شباب البرامكة، فدبَّرها وحج بها. فلما قدمت قال العباس:
ألا قد قَدِمَتْ فوزٌ فقَرَّتْ عين عباسِ
لمن بشرني البشرى على العينين والرَّاسِ
أيا ديباجة الحسن ويا رامُشْنَة الآسِ
يلوموني على الحب وما بالحب من باسِ!
... كانت فوز لرجل جليل من أسباب السلطان، وكان العباس يتشبه في أشعاره وذكر فوز بما قاله أبو العتاهية في عتبة، فحج بها مولاها، فقال العباس:
يا رب رد علينا من كان أنسًا وزينا
من لا تسر بعيش حتى يكون لدينا
يا من أتاح لقلبي هواه شؤمًا وحَيْنا
مازلت مُذْ غبتَ عني من أسخن الناس عينا
ما كان حجك عندي إلا بلاء علينا
فلما قدمت قالت:
ألا قد قَدِمَتْ فوزٌ فقَرَّتْ عينُ عباسِ
وذكر الأبيات المتقدمة".
وفى "الأغانى" أيضا: "كانت لفوز جارية يقال لها: يُمْن، وكانت تجيء إلى العباس برسالتها، فمضت إلى فوز، وقد طلبت من العباس شيئًا فمنعها إياه، وزعمت أنه أرادها ودعاها إلى نفسه، فغضبت فوز من ذلك، فكتب إليها:
لقد زعمت يُمْنٌ بأني أردتُها على نفسها، تبا لذلك من فِعْلِ
سَلُوا عن قميصي مثل شاهد يوسف فإن قميصي لم يكن قُدَّ من قُبْلِ"
فيف تكون فوز جارية ثم تكون لها هى نفسها جارية؟ وفيه كذلك: "كانت فوز قد مالت إلى بعض أولاد الجند، وبلغ ذلك العباس، فتركها ولم ترض هي البديل بعد ذلك، فعادت إلى العباس، وكتبت إليه تعاتبه في جفائه، فكتب إليها:
كتبت تلوم وتستريب زيارتي وتقول: لستَ لنا كعهد العاهدِ
فأجبتها ودموع عَيْنِيَ جَمَّةٌ تجري على الخدين غير جوامدِ:
يا فوز، لم أهجركمو لملالةٍ مني ولا لمقالِ واشٍ حاسدِ
لكنني جرَّبْتُكم فوجدتُكم لا تصبرون على طعامٍ واحدِ"
وفيه أيضا أنها قاست الصداع ذات مرة، فقال العباس فى ذلك شعرا. وفيه كذلك أنها أرسلت إليه تقر بأنها ظلمته وأن الله عاقبها جراء هذا. وفى شعره أيضا حديث عن لعبها التى تناغيها. كما أنه أشار مرةإلى غرارتها وقولها كلما رِيعَتْ: "يا بابا!". أفيدل هذا على أنها كانت ف فى ذلك الحين بنتا صغيرة السن، وليست امرأة أو فتاة ناضجة؟
وفى "مطالع البدور فى منازل السرور" للبهائى: "حدَّث أبو العباس بن يزيد النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركتُه شيخًا كبير القامة مملّقا، وكان إذا فاض إملاقه شيئًا جاد به، وقد كان وَلِيَ قديمًا شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي نذكره ووقع لي من غيرنا ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك: ذكر أن فتيانا كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم أبناء نعمة، وكلهم شرد عن أهله وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال: إنا قد اكترينا دارا مشرفة على الطريق ببغداد المعمورة بالناس، فكنا نفلس أحيانًا ونوسر أحيانًا على مقدار ما يملق الواحد من أهله. وكنا لا نستنكر أن تقع مؤننا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا ودعونا الملهين والملهيات. وكنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس. وكنا لا نخلو من نبيذ في عسر ولا يسر. فإنا كذلك يوما إذا بفتى يستأذن علينا فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه سَرِيُّ الهمة يظهر عليه أنه من أبناء النعم، فأقبل علينا وقال: إني سمعت باجتماعكم وألفتكم وحسن منادمتكم حتى كأنكم أدخلتم جميعًا في قالب واحد، فأحببت أن أكون واحدًا منكم، فلا تحتشموني. قال: فصادف ذلك منا إقتارا من القوت وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلامه: أول ما يأذنوا لي أن أكون كأحدهم هات ما عندك. فغاب عنا غير كثير، ثم إذا هو أتى بسلة خيزران، وفيها طعام مطبوخ من جدي وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب داخله. فأصبنا من ذلك ثم أفضينا في شربنا، وانبسط الرجل، وإذا هو أحيى خلق الله إذا حَدَّث، وأحسنهم استماعا إذا حُدِّث، وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف. ثم أفضنا في شربنا، وانبسط الرجل، فإذا هو أحسن الناس خُلُقًا وخَلْقًا. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا ألا يريد غيره، ونرى ذاك في إشراق وجهه، فكنا نَغْنَى به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه، فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه، فلم يكن منا غير معرفة الكنية، فإنا سألناه عنها، فقال: أبو الفضل. فقال لنا يوما بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم؟ قلنا: إنا لنحب ذاك. قال: أحببت في جواركم جارية، وكان سيدها ذا عزائم، وكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها، حتى أخلفني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخُبِّرْتُ عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضًا، فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها، فخَبَّرنا. قلنا: ما نحيد عنها لك حتى نُظْفِرك بها. فقال: يا إخوتي، إني والله على ما ترون مني من شدة المحبة والكلف بها ما قَدَّرْتُ فيها حراما قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصايرتها إلى أن يمن الله بثروة، فأشتريها. وأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه والسرور بصحبته، ثم اختلس منا فنالنا لفراقه كل ممض ولوعة مؤلمة. ولم نعرف منزلا نلتمسه منه، فكَدُرَ علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقَبُحَ عندنا ما كان حَسُنَ بقربه، وجعلْنا لا نرى سرورًا ولا غمًّا إلا إذا ذكرنا اتصال الأنس والسرور بحضوره، والغم بمفارقته، فكنا كما قال القائل:
يذكّرينهم كل خير رأيته وشر، فما أنفكَّ منهم على ذكرَى
فغاب عنا زهاء عشرين يومًا، ثم بينما نحن مجتازون من الرصافة إذا به قد طلع في موكب نبيل وزي جليل، فحيث بَصُرْنا به انحط عن دابته وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخوتي، إني والله ما هنا لي عيش بعدكم. ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل، ولكنْ مِيلُوا بنا إلى المسجد. فمِلْنا معه فقال: أعرّفكم أوّلًا بنفسي. أنا العباس بن الأحنف. وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم، فإذا المسوِّدة محيطة بي، فمُضِيَ بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: ويحك يا عباس. إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتِّيك، وأن الذي ندبتُك له من شأنك. وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن ماردة هي الغالية على أمير المؤمنين اليوم وأنه جرى بينهما عتاب: فهي بدلالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك. وقد رمت الأمر من قبلهما، فأعياني. وهو أحرى أن تستعبده الصبابة، فقل شعرًا يسهِّل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه، ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه، وأعطيت دواة وقرطاسا، فاعتراني الزمع، وأذهب عني كل قافية. ثم انفتح لي شيء والرسل بين يدي، فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعتْ صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طُلِب مني فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات. فإن كان فيها مقنع وجهتُ بها. فرجع إليَّ الرسول بأَنْ: هاتِها، ففي أقل منها مَقْنَع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الرَّوِيِّ وكتبت الأربعة الأبيات في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فكتبت:
العاشقان كلاهما متعتِّبُ وكلاهما متوجِّدٌ متغضِّبُ
صدَّتْ مغاضِبةً، وصد مغاضبًا فكلاهما مما يعالِجُ مُتْعَبُ
راجع أحبتك الذين هجرتَهم إن المتيَّم قلَّما يتجنبُ
إن التجنب إن تطاول منكما دَبَّ السُّلُوُّ له، فعَزَّ المطلبُ
وكتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفةٍ تكون بين الصد والصّرْمِ
حتى إذا ما الهجر تمادى به راجَعَ من يهوى على رَغْمِ
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد، فرفعه يحيى إلى الرشيد، فقال: والله ما رأيت شعرًا أشبه بما نحن فيه من هذا. والله لكأني قُصِدْتُ به. فقال له يحيى: فأنت والله المقصود به. هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله: "راجع من يهوى على رغم" استغرب ضاحكًا حتى سمعتُ ضحكه، ثم قال: إي والله أراجع على رغم. يا غلام، هات النعل. فنهض، وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء، فدعاني يحيى فقال لي: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أميرَ المؤمنين السرورُ عن أن يأمر لي بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما وقع مني بموافقة. ثم جاء فسارَّه، فنهض، وثبتُّ مكاني ثم نهضت بنهوضه، فقال لي: يا عباس، أمسيتَ أنبل الناس. أتدري ما سارَّني به هذا الرسول؟ قلت: لا. قال قد ذكر لي أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فأعطاها الشعر وقال: هذا أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله؟ قال: العباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ؟ قال: ما فعلت شيئًا بعد. قالت: إذن والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها، وأنا قائم بقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك. فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا كله إلا الصلة. قال: هذا أحسن من شعرك. فأمر أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت ماردة بمال دونه، وأمر الوزير بمال دون ما أمرتْ به، وحُمِلْتُ على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد قِبَلك ألا ترجع من الدار حتى يؤتى لك بهذا المال ضياع. فاشْتُرِيَتْ لي ضِيَاع بعشرين ألف دينار، ودُفِع إلى بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال. فقلنا له: هناك الله بمالك، وكلنا راجع إلى نعمة من الله. فأقسم، وأقسمنا. قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها، فمشينا إلى صاحبها، وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئًا، أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل. وكانت تساوي على وجهها مائة وخمسين دينارا. فلما رآني مولاها أسامني فيها خمسمائة دينار، فأجبناه بالعجب، فحط مائة ثم حط مائة. وقال العباس: يا فتيان، إني والله أحتشم أن أقول بعد ما قلتم. ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري. فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا عاينتها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها ليتم سروري. فإن ساعدتم فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها، فأعطيه فيها خمسمائة دينار كما سأل. قلنا: فإنه قد حط مائتين. قال وإن فعل. فصادفنا من مولاها رجلًا حرًّا، فأخذ ثلاثمائة دينار، وجَهَّزَنا بالمائتين. فما زال لنا محبًّا إلى أن فرَّق الموت بيننا".
فمن تلك الجارية؟ هل هى فوز؟ لكن أشعار العباس فى فوز ليس فيها أبدا أنه اشتراها وأنها كانت تعيش عنده. كما لم يذكر شاعرنا اسم سيدها. أم ترى تلك الجارية هى ذاتها ظلوما؟ ذلك أن البيت التالى قد يكون معناه أنها كانت جارية تقوَّم وتباع:
إِنّي أُجِلُّ ظَلومًا أَن يَكونَ لَها بَينَ الجَواري إِذا قَوَّمْتَها ثَمَنُ
ليس ذلك فحسب، بل إنه فى النص التالى يصرح بوضوح تام أنه ليس من شيمته عشق الإماء بل الحرائر:
كُلَّ يَومٍ لي مِنكِ هَمٌّ جَديدُ لَيسَ يَبلى هَمّي وَلَيسَ يَبيدُ
زَعَمَ الجاهِلونَ بي أَنَّ قَلبي بِالجَنابِ الشَرقِيِّ صَبٌ عَميدُ
لَيسَ عِشقُ الإِماءِ مِن شُغلِ مِثلي إِنَّما يَعشَقُ الإِماءَ العَبيدُ
لا وَفاءٌ وَلا حِفاظٌ وَلَكِن كُذَّبُ الوُدِّ ما لَهُنَّ عُهودُ
صِل إِذا ما وَصَلتَ حُرَّةَ قَومٍ شَرَّفَتها آباؤُها وَالجُدودُ
لَيسَ لي يا ظَلومُ غَيرَكِ هَمٌّ أَنتِ هَمّي طَريفُهُ وَالتَليدُ
كما نراه يلح فى بعض أشعاره على أن حبيبته تنتسب إلى قوم كرام ذوى حسب. ومن الذين قالوا بأنها جارية كاتب مادة الشاعر فى "الموسوعة العربية العالمية".
ومع هذا فقد ذكر أبو الفرج أن العباس كان يحب عنان جارية الناطفى، وهوما يزيد المسألة تعقيدا وارتباكا: "أخبرني عمي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني أحمد بن القاسم العجلي قال: حدثني أبو القاسم النخعي قال: كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي. فجاءني يوما، فقال: امض بنا إلى عنان جارية الناطفي. فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له، فجلسنا قليلا، ثم ابتدأ العباس فقال:
قال عباس وقد أُجْـِــــــــــــــــــــــــــــــــــــهد من وجد شديدِ:
ليس لي صبر على الهجـــــــــــــــــــــــــــر ولا لَذْع الصدودِ
لا ولا يصبر للهجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر فؤاد من حديدِ
فقالت عنان:
من تراه كان أغنى منك عن هذا الصدودِ
بعد وصل لك مني فيه إرغام الحسودِ؟
فاتخذ للهجر إن شئـــــــــــــــــــــــــــــــــت فؤادا من حديدِ
ما رأيناك، على ما كنتَ تجني، بجليدِ
فقال العباس:
لو تجودين لصبٍّ راح ذا وَجْدٍ شديدِ
وأخي جهل بما قد كان يجني بالصدودِ
ليس من أحدث هجرا لصديقٍ بسديدِ
ليس منه الموت، إن لم تَصِلِيه، ببعيدِ
قال: فقلت للعباس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسي بتَتَايُهِي عليها. فلم أبرح حتى تَرَضَّيْتُها له".
كما ينعدم تقريبا فى شعره القصص على عكس شعر عمر، الذى تكثر فيه القصص والحوارات. ومن الشواهد القصصية النادرة فى شعر العباس المقطوعة القصيرة التالية:
أَلا أَشرَقَتْ فَوْزٌ مِنَ القَصْرِ فَانْظُرِ إلى مَنْ حَبَاكَ الوُدَّ غَيْرَ مُكَدَّرِ
وَلَمّا رَأَتْ ألا وصولَ إِلى الهَوَى تَراءَت مِنَ السطحِ الرفيعِ المُحَجَّرِ
فَقُلْتُ لَها: يا فَوزُ، هَل لي إِليكُمُو سبيلٌ، فَقَالَت بِالإِشارَةِ: أَبْشِرِ
وَقَفْتُ لَها في ساحةِ الحَيِّ ساعَةً أُشيِرُ إِلَيْها بِالرِّداءِ المُعَصْفَرِ
نَظَرْتُ إلى ما لَم تَرَ العَيْنُ مِثْلَهُ إِلى قَمَرٍ في رازِقِيٍّ وَمِئْزَرِ
إِذا ماتَ عَبّاسٌ وَفَوزٌ فَإِنَّهُ يَموتُ الهَوَى وَاللَّهْوُ مِن كُلِّ مَعْشَرِ
أما الحوار فلا أحسبنى واجدا شاهدا جميلا جمال الشاهد التالى:
إِذا لُمْتُ عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أَضَرَّتا بِجِسمِيَ فيكُم قالَتا لي: لُمِ القَلْبا
فَإِنْ لُمْتُ قَلْبي قال: عيناكَ هاجَتا عَلَيْكَ الَّذي تلقى، ولي تَجعَلُ الذنبا
وَقالَت لَهُ العَينانِ: أَنتَ عَشِقْتَها فَقالَ: نَعَمْ أَوْرَثتُماني بِها عُجْبا
فَقالَت لَهُ العَيْنانِ: فَاَكْفُفْ عَنِ التي مِنَ البُخْلِ ما تَسْقِيكَ مِن ريقِها عَذْبا
فَقالَ فؤادي عَنْكِ: لَو تُرِكَ القَطَا لَنامَ، وَما باتَ القَطَا يَخْرُقُ السُّهْبا
ورغم ما فى أشعار العباس من اتهامات متبادلة بعدم الوفاء والوقوع تحت تأثير الملل نجد فيها إشارات متكررة إلى لقاء الحبيبين مع الإشارة أيضا إلى اجتهاده فى تجنب الرقباء والعذال وعمله بكل سبيل على تشتيت انتباههم لئلا يعرفوا شخصية محبوبته أو ليتوهموها شخصا آخر غير حبيبته الحقيقية، وإن تكرر قوله أيضا إن أمره فى هواها مشهَّر يعرفه الناس جميعا، ولا يخفى على أحد.
ويتميز شعره بالسلاسة والسهولة اللفظية والمعنوية حتى لتكثر فيه الأبيات التى تقترب من لغة الحديث مع احتفاظها بالعذوبة والرقة وقوة التأثير أوالتى تصلح أن تكون أمثالا سائرة:
مِنّي السَّلامُ عَلَيكُمُو يا مُنْيَتي عَدَدَ النجومِ وَكُلِّ طَيْرٍ في السَّما
* * *
عَرَفْتُ بما جَرَّبتُ أشياءَ جَمَّةً وَلا يَعْرِفُ الأشياءَ إِلا المُجَرِّبُ
* * *
رَأَتْ رَغْبَةً مِنّي فَأَبْدَت زَهادَةً أَلا رُبَّ محرومٍ مِنَ الناسِ راغِبِ
* * *
تَرَى الرِّجْلَ تَسْعَى بي إلى مَنْ أُحِبُّهُ وَما الرِّجلُ إِلا حَيْثُ يَسْعَى بها القَلْبُ
* * *
فَعِشتُ أَقُوتُ نفسي بِالأماني أَقولُ: لِكُلِّ جامِحَةٍ إِيَابُ
* * *
وَإِنَّ الوُدَّ لَيْسَ يَكادُ يَبْقَى إِذا كَثُرَ التَّجَنّي وَالعِتَابُ
* * *
أَلا كُلُّ شَيْءٍ كانَ أوهُوَكائِنٌ يَكونُ بِعِلْمٍ سابقٍ وَكِتابِ
* * *
راجِعْ أَحِبَّتُكَ الَّذِينَ هَجَرتَهُم إِنَّ المُتَيَّمَ قَلَّما يَتَجَنَّبُ
* * *
كمن فَرَّ من القَطْرِ فصار القَطْرُ مِيزابا
* * *
فَإِنْ تَكُنِ القُلُوبُ مثالَ قلبي فلا كانت إِذن تلك القُلُوبُ
* * *
لَها قَلْبي الغَدَاةَ، وَقَلْبُها لي فَنَحْنُ كَذاكَ في جَسَدَيْنِ رُوحُ
* * *
حَتَّى بَرَى جِسْمي هواكِ، فَما تُرَى إِلاّ عِظامٌ يُبَّسٌ وَجُلُودُ
* * *
واللهِ لو أَنَّ القُلوبَ كَقلْبِها ما رَقَّ لِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ الوالِدُ
* * *
فَلَوْ أَنَّ الرُّقادَ يُبَاعُ بَيْعًا لَأَغْلَيْتُ الرُّقَادَ على العِبَادِ
* * *
كَأَنَّها حينَ تَمْشي في وَصَائِفِها تَخْطو عَلى البَيْضِ أَو خُضْرِ القَواريرِ
* * *
لا عارَ في الحُبِّ. إِنَّ الحُبَّ مَكْرُمَةٌ لَكِنَّهُ ربما أَزْرَى بِذِي الخَطَرِ
* * *
فيا كُلَّ هَمِّي، أَقْطِعيني قَطِيعَةً مِنَ الوَصْلِ تَبْقَى لي وَلَوْ قَدْرَ إِصْبَعِ
* * *
طافَ الهَوَى بِعِبادِ اللهِ كُلِّهِمُو حَتّى إِذا مَرَّ بي مِنْ بَيْنِهِم وَقَفَا
* * *
أَصْبَحْتُ في لُحَجِ الهَوَى ذا صَبْوَةٍ أَطْفُو وَأَغْرَقْ
* * *
حَمَلْتُ الهَوَى حَتّى إِذا قُمْتُ بِالهَوَى خَرَرْتُ عَلى وَجْهي، وَأَثْقَلَني حِمْلي
* * *
كَتَبَ الحُبُّ في فُؤَادي كِتابًا هُوَ بِالشوقِ وَالضَّنَى مَخْتومُ
* * *
فَلَعَمْرِي إِنّي لَأَدْفِنُ أَسْرا رَكِ عندي في حُفْرَةِ الكِتْمانِ
* * *
وَلَقَدْ دَفَنْتُ هَواكُمُو مِنّي بِمَقْبَرَةِ القُلوبِ
وتتكرر فيه الرسائل، فتكون القصيدة أو المقطوعة هى نفسها رسالة أو فيها إشارة إلى رسالة بعث بها إلى حبيبته. كما تتكرر فيه الإشارة إلى علمه بأنها مريضة ومسارعته إلى تفديتها بنفسه معربا عن استعداده لأن يموت أو يمرض بدلا منها. وفيه صور معجبة لا أذكر أنى لقيتها فى أى شعر من قبل كقوله:
فصور ها هنا فوزا * وصور ثم عباسا
وشعره من أكثر الشعر الذى غُنِّىَ به كما يتضح مما كتبه صاحب "الأغانى" فى كتابه. ومن ذلك قوله: "حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: سمعت علي بن يحيى يقول: من الشعر المرزوق من المغنين خاصة شعر العباس بن الأحنف، وخاصة قوله:
نائم من أهدى لي الأرقا مستريحًا سامني قلقا
فإنه غنى فيه جماعة من المغنين، منهم إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهما".
وكان البحترى، كما جاء فى "الإعجاز والإيجاز" للثعالبى، يصف العباس بأنه "أغزل الناس". وفى "الأغانى": "أُنْشِدَ بشارٌ قولَ العباس بن الأحنف:
نزف البكاءُ دموعَ عينك، فاستعِرْ عينًا لغيرك دمعُها مِدْرَارُ
فقال بشار: لحق والله هذا الفتى بالمحسنين، وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر".
ويقول أبو الفرج: "كان العباس شاعرا غزلا ظريفا مطبوعا من شعراء الدولة العباسية، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف. ولم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني. وقدمه أبو العباس المبرد في كتاب "الروضة" على نظرائه، وأطنب في وصفه وقال: رأيت جماعة من الرواة للشعر يقدِّمونه. قال: وكان العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزِلا ولم يكن فاسقا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد التترف، وذلك بين في شعره. وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلوا مقبولا غَزِلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده، ولم يكن هجاء ولا مداحًا...
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني صالح بن عبد الوهاب أن العباس بن الأحنف كان من عرب خراسان، ومنشؤه ببغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين. أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا يموت بن المزرع قال: سمعت خالي (يعني الجاحظ) يقول: لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرًا لزم فنًا واحدًا لزومه فأحسن فيه وكثر.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: أنشد الحرمازي أبو علي وأنا حاضر للعباس بن الأحنف:
لا جزى الله دمع عيني خيرا وجزى الله كل خيرٍ لساني
نَمَّ دمعي، فليس يكتم شيئا ورأيتُ اللسان ذا كتمانِ
كنتُ مثل الكتاب أخفاه طيٌّ فاستدلوا عليه بالعنوانِ
... ثم قال الحرمازي: هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه".
فهذا بعض ما قاله كبار النقاد والشعراء فى العصر العباسى عن شعر العباس. وهو يستحق هذا بجدارة. ولكن هناك خبرا فى "الأغانى" أيضا يقول: "أخبرني محمد قال حدثني حسين بن فهم قال سمعت العطوي يقول: كان العباس بن الأحنف شاعرًا مجيدًا غزلًا، وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردتِ سُلُوًّا كان ناصرَكم قلبي، وما أنا من قلبي بمنتصرِ
فأَكْثِروا أو أَقِلُّوا من إساءتكم فكلّ ذلك محمولٌ على القَدَرِ
قال: فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره. قال محمد بن يحيى: وأنشدني محمد بن العباس اليزيدي شعرًا للعباس أظنه يهجو به أبا الهذيل، وما سمعت للعباس هجاء غيره:
يا من يكذِّب أخبار الرسول، لقد أخطأتَ في كل ما تأتي وما تَذَرُ
كَذَّبْتَ بالقدر الجاري عليك، فقد أتاك مني بما لا تشتهي القَدَرُ"
والعجيب، إذا صحت الرواية، أن ينبرى الهذيل بن العلاف للعن العباس جراء إشارته العارضة فى بيتيه إلى القدر. ولا أدرى ما الخطأ فى ذلك؟ إن كل شىء فى الكون إنما هو بقضاء الله وقدره. ولا يعنى هذا أننا مجبورون فى كل أفعالنا، بل لنا قدر من الحرية والمشيئة به يتم إنجاز الحضارة البشرية على مدار التاريخ الماضى والحاضر والمستقبل. وهذا القدر من المشيئة هو أيضا مظهر من مظاهر القضاء والقدر، إذ القضاء والقدر هو إرادة الله سبحانه، وإرادة الله تتبدى فى قوانينه التى تحكم الكون، ومنها الحرية البشرية المحدودة والقادرة رغم هذه المحدودية على إنجاز العجائب الباهرة. فالحب القاهر هو مظهر من مظاهر قضاء الله وقدره. أليس سبحانه هو خالق البشر والقلوب والعواطف والشهوات؟ أليس هو الذى قدر الحب على العباد؟ نعم إن كثيرا من الناس يستطيعون فى بعض الأحيان على الأقل أن يستعلوا على الحب، لكن الأغلبية تخضع له أيما خضوع، وإن حاولت التفلت من طغيانه وعرامه لم تستطع. وهذا كله بقضاء من الله وقدر: الحب والرغبة فى الانفلات والعجز. فما المشكلة فى ذلك؟ هل يظن أبو الهذيل أن الإنسان قادر على كل شىء؟ ولو افترضنا أننا وافقناه على هذا أتراه يظن أن ذلك يناقض القول بالقضاء والقدر؟ كلا بالثلث. وأنا مع العباس فى كل ما قال. والله سبحانه يقول: "إنَّا كُلّ شىءٍ خلقناه بقَدَرٍ". ومن أحاديث الرسول عليه السلام: "العَجْزُ والكَيَسُ بقَدَرٍ"، "الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه والبعثِ بعد الموتِ، وتؤمنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه". وإذن فالعباس أفضل فهما للقضاء والقدر من العلاف، ولا معنى من ثم لأن يبغضه ويلعنه. وهل يصلح أن يلعن لاعنٌ العباسَ بنَ الأحنف ذلك المحب الأنيق الوسيم النبيل؟
وفى "الإمتاع والمؤانسة" لأبى حيان التوحيدى أن عبد الله المرزبانى كان "إذا سمع هذا (الشعر) جُنَّ واستغاث وشق الجيب وحوقل وقال: يا قوم أما ترون إلى العباس بن الأحنف؟ ما يكفيه أن يفجر حتى يكفر! متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولةً على القدر؟ ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها؟ ولو قدرها كان قد رضي بها، ولو رضي بها لما عاقب عليها. لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة. ورأيت أبا صالح الهاشمي يقول له: هون عليك يا شيخ، فليس هذا كله على ما تظن. القدر يأتي على كل شيء، ويتعلق بكل شيء، ويجري بكل شيء. وهو سر الله المكتوم، كالعلم الذي يحيط بكل شيء. وكل ما جاز أن يحيط به علمٌ جاز أن يجري به قدر، وإذا جاز هذا جاز أن ينشره خبر. وما هذا التضايق والتحارج في هذا المكان، والشاعر يهزل ويجد، ويقرب ويبعد، ويصيب ويخطئ، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرجل الديان، والعالم ذو البيان؟".
وأخذ عليه أيضا قوله لحبيبته:
فإِنْ تقتلوني لا تَفُوتُوا بِمُهْجتي مَصالِيتَ قَوْمي مِن حنيفةَ أو عِجْلِ
بحجة أن "هذه المعاني تصلح لتهدُّد الأعداء وتبعد عن الرقة إلى الجفاء. فأما المحبوبون فيقال لهم كما قال القائل:
لَوْ جُزَّ بالسيف رأسي في مَودَّتِكمْ لمرَّ يهوي سريعًا نَحْوكم راسي
... فهذا ما أشبه عادة العشاق المتيمين مع الأحباب المعشوقين. فأما طلب الدماء والثارات فيصلح في الحروب والغارات" كما جاء فى "المنصف للسارق والمسروق منه" لابن وكيع التنيسى. ولست أوافق الناقد على قوله، إذ لا أظن العباس يقصد شيئا مما دار فى ذهن هذا العائب، بل كل ما أراده هو التظرف لحبيبته ومداعبتها، فاستعار لذلك ألفاظ الحرب والثأر وما إلى ذلك. ولعل البيت التالى يشهد على صحة ما أقول، إذ يؤكد أنها ليست ممن يثأر منهم، ومن ثم فلن يطالبها قومه بدمه:
وَلَو كُنتُمو مِمَّن يُقَادُ لَمَا وَنَتْ مَصَالِيتُ قَوْمي مِن حَنِيفَةَ أَو عِجْلِ
ثم من قال إن كل شاعر لا بد أن يقول الشىء ذاته فى كل مرة ينسب فيها بحبيبته؟ أين الفروق الفردية واستقلال الشخصية وتفرد الإبداع؟
وانتقده الأصمعى كذلك فى بعض ألفاظه كما قال. جاء فى "نور القبس" لليغمورى أن بعض الناس تذاكروا عند الأصمعى شعر العباس بن الأحنف، "فتسخَّطه وقال: والله ما يُؤْتَى من جودة المعنى، ولكنه سخيف اللفظ. ألا ترى قوله:
اليومُ مثلُ الحَوْل حتى أرى وجهَك، والساعاتُ كالشهرِ
إنَّ الذي أُضْمِر عند الذي أُظْهِر كالقطرة في البحرِ
لو شُقَّ عن قلبي قُرِي وَسْطَه ذكرُك والتوحيدُ في سطرِ
ثمّ قال:
يا من تمادى قلبه في الهوى سال بك السيلُ، وما تدري
أبعد أن قد صرتَ أحدوثة في الناس مِثْلَ الحسن البصري؟
لعمري إنّ الحسن البصري مشهورٌ، ولكن ليس هذا موضع ذكره!".
فأما الأبيات الثلاثةالأولى فلا ندرى موضع الشاهد فيها. وهى على كل حال من أحلى الشعر وأطرفه. وأما البيتان الأخيران فليسا بالسخف الذى يزعمه الأصمعى. ولا أظن من السهل العثور على مثال آخر من هذا الضربب فى شعر العباس. ومن ثم فإن حكم الأصمعى على الشاعر وشعره غير مقبول. ولا يعقل أن نطرح شعر الرجل، وكله تقريبا بديع ممتع، من أجل عيب صغير، إن عُدَّ عيبا أصلا.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد عن الرياشي قال: قيل للأصمعي (أو قلت له): ما أحسن ما تحفظ للمُحْدَثين؟ قال: قول العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لسَكَّنَ روعتي أملي رضاك وزرتُ غير مراقبِ
لكن مللت فلم تكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب
... أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا، واللفظ لهاشم، قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: دخل عمي على الرشيد والعباس بن الأحنف عنده، فقال العباسي للرشيد: دعني أعبث بالأصمعي. قال له الرشيد: إنه ليس ممن يحتمل العبث. فقال: لست أعبث به عبثًا يشق عليه. قال: أنت أعلم. فلما دخل عمي قال له: يا أبا سعيد، من الذي يقول:
إذا أحببت أن تصــــــــــــــــــ ـــــنع شيئا يعجب الناسا
فصَوِّرْ هاهنا فوزًا وصَوِّرْ ثَمَّ عباسا
فإن لم يَدْنُوَا حتى ترى رأسيهما راسا
فكَذِّبْها بما قاستْ وكَذِّبْه بما قاسى"
وفى "حلية المحاضرة" للحاتمى أن أحسن ما قيل في امتزاج القلوب وتصافيها فى رأى ابن أبى فنن هو قول العباس بن الأحنف:
ما أنس لا أنس يمناها معطفة على فؤادي ويسراها على راسي
وقولها: ليته ثوب على جسدي وليتني كنت سربالا لعباسِ
أو ليته كان لي خمرا، وكنت له من ماء مزن، فكنا الدهر في كاسِ
وهذه أبيات تلك القصيدة كاملة:
اليَومَ طابَ الهَوى يا مَعشَرَ الناسِ وَأُلبِسَت فَوزُ حُبّي كُلَّ إِلباسِ
ما أَنسَ لا أَنسَ يُمناها مُعَطَّفَةً عَلى فُؤادي وَيُسراها عَلى راسي
قالَت وَإِنسانُ ماءِ العَينِ في لُجَجٍ يَكادُ يَنطِقُ عَن كَربٍ وَوَسواسِ
يَطفو وَيَرسو غَريقاً ما تُكَفكِفُهُ كَفٌّ فَيا لَكَ مِن طافٍ وَمِن راسِ
عَبّاسُ لَيتَكَ سِربالي عَلى جَسَدي أَو لَيتَني كُنتُ سِربالاً لِعَبّاسِ
أَو لَيتَهُ كانَ لي راحاً وَكُنتُ لَهُ مِن ماءِ مُزنٍ فَكُنّا الدَهرَ في كاسِ
أَو لَيتَنا طائِرا إِلفٍ بِمَهمَهَةٍ نَخلو جَميعاً وَلا نَأوي إِلى الناسِ
مَن هابَ فيكَ عَدُوّاً أَو أَخا ثِقَةٍ فَاِمسَح يَدَيكَ وَكُن مِنهُ عَلى الياسِ
وَلائِمينَ عَلى حُبّيكِ قَد عَلِموا أَن لَيسَ بِالحُبِّ مِن عارٍ وَلا باسِ
يا رُبَّ جارِيَةٍ أَسبَلَتُ عَبرَتَها مِن رِقَّةٍ وَلِغَيري قَلبُها قاسِ
كَم مِن كَواعِبَ ما أَبصَرنَ خَطَّ يَدي إِلّا تَشَهَّينَ أَن يَأَكُلَنَ قرطاسي
لَو كُنتُ بَعضَ نَباتِ الأَرضِ مِن طَرَبي لِلَّهوِ ما كُنتُ إِلّا طاقَةَ الآسِ
ومن شعره البديع:
قالت: "مرضْتُ"، فعدتُها فتبرَّمَتْ وهي الصحيحةُ، والمريضُ العائدُ
والله لو أنَّ القلوبَ كقلبِها ما رقَّ للولدِ الضعيفِ الوالِدُ
* * *
وحدّثْتَنِي يا سعدُ عنها فزدتَنِي جنونا، فزدنِي منْ حديثكَ يا سعدُ
هواهَا هوًى لمْ يعرفِ القلبُ غيرهُ فليسَ لهُ قبلٌ، وليسَ لهُ بعدُ
* * *
أبكِي الذينَ أذاقونِي مودَّتهمْ حتّى إذَا أيقظُونِي للهوَى رقدُوا
واستنهضُونِي، فلمَّا قمتُ منتصبًا بثِقْلِ مَا حمّلونِي منهمُو قعدُوا
* * *
نَقْلُ الجبال الرواسي من أماكنها أخفُّ من رد قلب حين ينصرفُ
* * *
أتأذنون لِصَبٍّ في زيارتكم فعندكم شهواتُ السمعِ والبصرِ
لا يضمر السوءَ إن طال الجلوس به عف الضمير، ولكن فاسق النظرِ
* * *
أُحْرَمُ منكمْ بما أقولُ، وقد نال بهِ العاشقون مَنْ عَشِقُوا
صِرْتُ كأني ذُبَالةٌ نُصِبَتْ تُضِيء لِلناسِ، وَهْيَ تَحْتَرِقُ
* * *
هي الشمسُ مسْكَنُها في السماء فعَزِّ الفُؤَاد عَزَاءً جَمِيلا
فلَنْ تستطيع إليها الصعودَ ولنْ تستطيعَ إليكَ النزولا
* * *
وَما الناسُ إِلّا العاشِقون ذَوُو الهَوَى وَلا خَيْرَ في من لا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ
* * *
أستغفر الله إلا من محبتكم فإنها حسناتي يوم ألقاهُ
فإن زعمت بأن الحب معصية فالحبُّ أحسنُ ما يُعْصَى به اللهُ
* * *
وأحسن أيام الهوى يومك الذي تُرَوَّع بالهجران فيه وبالعَتْبِ
إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضًى فأين حلاوات الرسائل والكُتْبِ؟
وفى "المثل السائر" يقول ابن الأثير لدن حديثه عن وجوب تجنب الحوشى من الكلام مما ينافر معيشة الحضر: "ما بال قوم سكنوا الحضر يتعاطَوْن وحشيَّ الألفاظ وشظف العبارات؟ ولا يخلد إلى ذلك إلا جاهل بأسرار الفصاحة أو عاجز عن سلوك طريقها، فإن كل أحد يمكنه أن يأتي بالوحشي من الكلام، وذلك بأن يلتقطه من كتب اللغة، أو يتلقفه من أربابها. هذا العباس بن الأحنف قد كان من أوائل الشعراء في الإسلام، وشعره كمر النسيم على عذبات أغصان أو كلؤلؤ آت طل على طرر ريحان، وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتب اللغة. فمن ذلك قوله:
وإني ليرضيني قليل نوالكم وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم من الود إلا عدتم بجميل
وهكذا ورد قوله في فوز التي كان يشبب بها في شعره:
يا فوز، يا منية عباس، قلبي يفدِّي قلبك القاسي
أسأتُ إذ أحسنتُ ظني بكم والحزم سوء الظن بالناسِ
يقلقني الشوق فآتيكم والقلب مملوء من الياسِ
وهل أعذب من هذه الألفاظ، وأرشق من هذه الأبيات، وأعلق في الخاطر، وأسرى في السمع؟ ولمثلها تخف رواجع الأوزان، وعلى مثلها يسهر راقد الأجفان، وعن مثلها يتأخر السوابق عند الرهان. ولم أُجْرِها بلساني يومًا من الأيام إلا تذكرت قول أبي الطيب:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق أراه غباري ثم قال له الحق
ومن ذا الذي يستطيع أن يسلك هذا الطريق التي هي سهلة وعروة قريبة بعيدة؟".
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن العباسي للعباس بن الأحنف:
قالت ظلوم سمية الظلم مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فاقصده أنت العليم بموضع السهم
فقلت له: إن أبا حاتم السجستاني حكى عن الأصمعي أنه أنشد للعباس بن الأحنف:
أتأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به عف الضمير ولكن فاسق النظر
فقال الأصمعي: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئًا، حتى أدخلها فأخرج هذا، ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه. فقال إبراهيم بن العباس: أنا لا أدري ما قال الأصمعي، ولكن أنشدك للعباس ما لا تدفع أنت ولا غيرك فضله، ثم أنشدني قوله:
والله لو أن القلوب كقلبها مارق للولد الضعيف الوالد
وقوله:
لكن مللت فلم تكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب
وفى "الموازنة بين أبى تمام والبحترى" أن أبا تمام أخذ بيت العباس بن الأحنف التالى:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
فقال:
أآلفة النحيب، كم افتراقٍ أظلَّ فكان داعية اجتماعِ؟
كما وضع المتنبى قول العباس:
والنجم في كبد السماء كأنه أعمى تحير ما لديه قائد
أمام عينيه فقال:
ما بال هذي النجوم حائرة كأنها العمي ما لها قائد؟
وعلق عليها الثعالبى فى كتابه: "أبوالطيب المتنبى وما له وما عليه" قائلا: "هذه مصالتة لا سرقة، وهي مذمومة جدا عند النقدة". ومما قاله الثعالبى أيضا فى الكتاب المذكور تحت عنوان "حسن التقسيم": "حكى أبو القاسم الآمدي في كتاب "الموازنة بين شعري الطائيين"، قال: سمع بعض الشيوخ من نقدة الشعر قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وحبكم قلى وعطفكم صد، وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة وكل ذلول من مراكبكم صعب
فقال: هذا أحسن من التقسيمات إقليدس، وقول أبي الطيب المتنبي في هذا الفن أولى بهذا الوصف:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل والبر في شغل، والبحر في خجل
وكقوله:
والدهر معتذر، والسيف منتظر وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا، والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له يد ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ولم يخل دينار ولم يخل درهم"
وفى "أخبار أبى الطيب المتنبى" للبكرى أن قول المتنبى:
لو فرق الكرم المفرق ماله في الناس لم يك في الزمان شحيح
مأخوذ من قول العباس بن الأحنف:
لو قسم الله جزأ من محاسنه في الناس طرا لتم الحسن في الناس
أو من قول أبي تمام
لو اقتسمت أخلاقه الغرّ لم تجد معيبا ولا خلقا من الناس عائبا
أو من قول سلم الخاسر
لو فرقت يوما سماحة كفه في العالمين لما رأيت بخيلا
أو من قول منصور الفقيه:
أقول إن سألوني عن سماحته ولست ممن يطيل القول ان مدحا
لو أن ما فيه من جود تقسمه أولاد آدم عادوا كلهم سمحا
... وبالمثل يرى أن العباس بن الأحنف أول من نظم المعنى الموجود فى بيت المتنبى التالى:
كأن رقيبا منك سد مسامعى عن العذْل حتى ليس يدخلها العذلُ
إذ قال:
أقامت على قلبى رقيبا وناظرى فليس يؤدى عن سواها إلى قلبى
وفى "النظام فى شرح شعر المتنبى وأبى تمام" أن قول أبى تمام:
لَوِ اقْتُسِمَتْ أَخْلاقُه الغُرُّ لم تَجِدْ مَعِيبًا ولا خَلْقًا من النّاسِ عائبا
هو من قول العباس بن الأحنف:
لو قَسَّمَ الله جزءا من محاسنها في الخَلْقِ طُرًّا لَتَمَّ الحُسْنُ في الناسِ
وفى المادة الخاصة بالعباس بن الأحنف فى "Encyclopédie Universalis" يشير ريجى بلاشير إلى تأثير أشعاره فى إبداعات الشعراء فى صقلية والأندلس وشعر البلاط فى الغرب. ويضيف كاتب مادته فى "Encyclopdia of Arabic Literature" أنه كان ذا أثر بارز على شعر الصوفيين كالحلاج مثلا، وكذلك على شعراء التروبادور فى الغرب.
ونختم هذا الفصل بهذه المختارات المنتقاة للعباس:
قد كنتُ أرجو وَصْلَكُم فظللتُ مُنْقَطِعَ الرجاءِ
أَنتِ التي وَكَّلْتِ عَيـْــــــــــــــــــــــــــــــنِيَ بالسهادِ وبالبكاءِ
إِنَّ الهَوَى لَو كانَ يَنْـــــــــــــــــــــــــــــــــــفُذُ فيهِ حُكْمي أَو قَضائِي
لَطَلَبْتُهُ وَجَمَعْتُهُ مِن كُلِّ أرضٍ أو سَماءِ
فَقَسَمْتُهُ بَيْني وَبَيـْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنَ حَبِيبِ نفسي بِالسواءِ
فنعيشَ ما عِشْنا على مَحْضِ المَوَدَّةِ وَالصفاءِ
حَتّى إِذا مُتْنا جَميـــــــــــــــــــــــــــــــــعًا، وَالأُمورُ إلى فَناءِ
ماتَ الهَوَى مِن بَعدِنا أَو عاشَ في أَهلِ الوَفاءِ
* * *
قُلتُ غَداةَ السبتِ إذ قيلَ لي: إِنَّ الَّتي أَحبَبْتَها شاكِيَهْ:
يا أَيُّها القائِلُ، ما تَشتَكي؟ قالَ: بِها عَينٌ تُرى بادِيَهْ
فَقُلتُ: عِندي، إِن تَشَأْ، رُقْيَةٌ لا تَقْصِدُ العَيْنُ لَها ثانِيَهْ
قَرَأتُ حاميمَ وَعوَّذْتُها بِالطُّورِ طَوْرًا ثُمَّ بِالغاشِيَهْ
يا رَبُّ، فَاسمَعْ وَاستَجِب دَعْوَتي عَجِّل إِلى سَيِّدَتي العافِيَهْ
* * *
بَخِلَتْ عَلَيَّ أَميرَتي بِكِتابِها وَتَبَدَّلَتْ بِصُدودِها وَحِجابِها
فَالنَفسُ في كُرَبِ الهَوى مَغمورَةٌ وَالعَيْنُ ما تَنفَكُّ مِن تَسْكابِها
حَتّى متى في كُلِّ يَومٍ سَخْطَةٌ؟ قد ذُبتُ مِن سَخَطاتِها وَعِتابِها
أَخَذَتْ مَجامِعَ قَلْبِهِ وَتَحَوَّلَت عَنهُ، فَيا لَكَ هائِمًا بِشِعابِها
ماذا لَقيتُ مِنَ الهَوَى؟ وَيْحَ الهَوى! لو أَنَّ نَفْسي في يَدَيهِ رَمَى بِها
خَرَجَت سُعادُ تَقولُ لي بِشَماتَةٍ: زَجَرَتْكَ فَوْزٌ أَن تَمُرَّ بِبابِها
ماذا يَرُدُّ عَلى سُعادَ مُتَيَّمٌ قَد ضاقَ عِيًّا نُطْقُهُ بِجَوابِها؟
الوَيْلُ لي إِن قُمْتُ أَطْلُبُ وَصْلَها وَالوَيْلُ لي إن لَم أَقُمْ بِطِلابِها
يا سُعْدُ، هاتي لي بِعَيْشِكِ قَبضَةً مِنْ بَيْتِها لِأَشُمَّ ريحَ تُرابِها
فَأَكُونَ قَد أُسْقِيتُ مِنها رِيقَها وَأُنِلْتُ حُسْنَ بَنانِها وَخِضابِها
يا لَيتَني مِسواكُها في كَفِّها أَبَدًا أَشُمُّ العُبْرَ مِن أَنيابِها
أَو لَيْتَني مِرْطٌ عَلَيْها باطِنٌ أَلتَذُّ نَعْمَةَ جِلْدِها وَثيابِها
فَأَكُونَ لا أَنحَلُّ عنها ساعَةً دونَ الثيابِ مُجاوِرًا لِحِقابِها
* * *
أَيا هَمَّ نَفْسي مِنَ العالمينَ وَمَن لَيْسَ يَرْعَى لِوَصْلي ذِماما
لماذا تَكَرَّهْتِ رَدَّ السلامِ؟ أَيُفسِدُ ذاكَ عَلَيْكِ الصياما؟
وَوَاللهِ ما يَسَعُ المُسْلِميــــــــــــــــــــــــــــــنَ في الدينِ أَن لا يَرُدّوا السلاما
فَمَن كانَ أَفْتَاكِ حَتّى رَأَيـْـــــــــــــــــــــــــــــــتِ قَتلي حَلالًا، وَوَصْلي حَراما؟
تَحَرَّجْتِ أَن تَصِلي في الصِيا مِ تَقْوَى، وَرُمتِ لَقَتْلي مَراما
فَما تَبْتَغينَ بِطولِ الصِيا مِ إِذا أَنْتِ أَوْرَدْتِ نَفْسي الحِماما؟
* * *
أَضْحَكَني طَوْرًا وَأَبْكاني كِتابُ مَوْلاتي وَخُلْصاني
طِرْتُ سرورًا حينَ أَبْصَرْتُهُ فَاعْتَرَضَ الشوقُ فَأَبْكاني
بِتُّ بِشَمٍّ وَاِعتِناقٍ لَهُ مُسْتَغنِيًا عَن كُلِّ رَيْحانِ
واهاً لَهُ مِنْ زائِرٍ مُؤْنِسٍ فَرَّجَ عَنّي بَعْضَ أحزاني