طابور عاد

جلس مع صاحبه فوق ربوته المنزوية عن المدينة، يرتشف الشاي بغير شغف، ويماطل في تحضير ما سيقوله بعد صمت صاحبه، فكلاهما لا يشتهيان الحديث، ولعلهما أنجزا حديثهما لبعض منذ وقت.


كان بيته يبعد عن المدينة قبل عشرين عاماً أكثر من خمس كيلومترات، ولكنه لا يعرف الآن هل هو في المدينة أم لا يزال في ضواحيها، فأصوات الآلات الثقيلة التي تتدخل في تغيير تضاريس سطح الأرض، تمهيداً للبناء فوقها، تعلن عن إدخال المنطقة في حرم المدينة، ورشات كثيرة، وأصوات العمال والآلات حلت محل أصوات الرعاة وأجراس أغنامهم.

تحدث لصاحبه: أخشى أن تكون اللحظة التي نحن فيها أفضل لحظات حياتنا التي تبدأ من هذه اللحظة!

ـ لماذا تقول ذلك؟
ـ منذ زمن طويل ونحن نسمع بيانات حكوماتنا ومقدمات مفكرينا ومعارضينا بأن اللحظة التي يكتبوا فيها هي أسوأ لحظة تمر بها الأمة أو الشعب الذي يتكلمون باسمه. ولو وضعنا تلك البيانات ورتبنا السوء الذي فيها، لكان وقت أول بيان هو أقل الأوقات سوءاً، والذي تلاه كان أقل سوءاً من الذي جاء بعده، لذلك فلحظتنا هذه قد تكون أفضل من اللحظات التي تليها!

ضحك صاحبه، وتناول إبريق الشاي وسكب لنفسه كوباً، ولم تعد حرارته المتداعية تشكل سبباً لتذمره.. وقال: سنلحق بركب من سبقنا.
ـ هذا إذا كنا في اتجاه من سبقنا، فما قلته لك يدلل على أننا نختار طريقاً معاكساً لمن سبقنا، فلذلك ثباتنا في مكاننا يُعتبر هندسياً أقرب نقطة من أن نتحرك في اتجاه معاكس.

ثم سأله: هل ترى تلك البيوت الناشئة؟
ـ نعم أراها.. ما بها؟
ـ إن ساكنيها في الغالب، هم من الأزواج الجدد، سيأتون بشكل ثنائي، وبعد مدة سيملئون الفضاء أولاداً وشكاوى... نريد ماءً نظيفاً.. الكهرباء ضعيفة.. نريد مدرسة.. وأولادهم يريدون خطاً للحافلات لنقلهم، وسيشتكون طول المدة التي انتظروا فيها لتعيينهم كموظفين، وستتحايل الإدارات على حل مشاكلهم، فترفع الضرائب وتأخذ جزءاً من حصتي أنا وأنت وأولادنا من الماء والكهرباء، وتعود فترفع الضرائب، لتمد طريقاً يسرق الوكلاء نصف كلفته فيكون رديئاً.

ـ على رسلك يا أخي، لماذا تلك النظرة التشاؤمية؟

ـ إنها ليست نظرة تشاؤمية، بل هي الواقع بعينه، هل كانت حصتنا من الماء قبل عشرين عاما هي نفس الحصة التي نأخذها اليوم؟
ـ كلا، ولكن ستستمر الحياة..
ـ نعم ستستمر، ولكن بعناء ونكدٍ أكبر، فلقمة الواحد قد تم تقسيمها على اثنين ثم أربعة ثم ثمانية، حسب المتواليات الهندسية، وفرص العمل ستقل بنفس درجة التي تقل فيها حصص الفرد من الماء.

استمر في طرح تساؤلاته: هل تعلم لماذا أتى هؤلاء ليبنوا هنا؟
ـ طبعاً أعلم، فالمساحات داخل حوض المدينة لم تعد تكفي..
ـ لا إن هؤلاء أفراد طابور، لم يعد الطابور يتسع لهم لانتظار أدوارهم في موت من قبلهم حتى يحلون محله، وبداية هذا الطابور كانت من أيام عاد.
ـ عادي.
ـ ومن هنا قالوا للأشياء أنها عادية، أي أنها تنتمي لقوم عاد.