لا يمكن أن يحسنَ عشقَ الوطن من لم يحسنْ عشقَ المرأة (!!) بقلم أسامة عكنان
ArabNyheter | 2013/08/13لا يوجد تعليقات
الطفل "محسن" بطل رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، وقع في حب الحسناء "سنية" التي تكبره بسنتين عندما كان هو في الخامسة عشرة من عمره وهي في السابعة عشرة. وكما هو شأن الحب والمحبين العذريين في بدايات القرن العشرين في المجتمعات المحافِظَة، عاش "محسن" القصة مع نفسه. لكنه كان مبدعا في اللغة العربية ومحبا للشعر، وكان مدرس اللغة العربية الذي أطلق عليه الطلاب لقب "الشيخ" بسبب تدينه، يختار إحدى حصص "اللغة العربية" الأسبوعية ليطلبَ من أحد طلابه مواجهة باقي الطلبة وهو واقف أمام السبورة ليشرحَ لهم باللغة العربية وفي مقال إنشائي رصين وبقواعد نحو وتصريف محكمة موضوعا يختاره بعد أن يكتب عنوانه على السبورة.في اليوم التالي لتلك المقابلة غير المتوقعة بين "محسن" و"سنية" في بيت أهلها وهو برفقة عمته "زنوبة"، وهو اليوم الذي كان يترقبه منذ وقت، بُذرَت في قلبه البذور الأولى لتلك القصة العذرية، فسيطرت عليه مشاعر مفهومة حتى والأستاذ "الشيخ" يختاره من بين الجميع ليواجه الطلاب ويختار موضوعا ويبدأ في شرحه.بعد تردد وحيرة وارتباك تشجع "محسن" وأمسك بالطبشور وكتب على اللوح عنوان الموضوع الذي سيتحدث فيه وكان هو "الحب". وما أن قرأ الطلاب هذه الكلمة حتى ضجوا بالضحك المشوب بالاستغراب والاستهجان والتندر. إلا أن الأستاذ لم يفهم سبب هذا الأمر الذي اعتراهم فجأة إلا بعد أن قرأ ما كتبه محسن. فتجهم وجهه وانقلب على عقبيه، ووَجَّهَ نقدا لاذعا إلى "محسن" موبخا إياه على هذه "المسخرة" و"قلة الأدب" و"الوقاحة".. إلى آخر قائمة الأوصاف المبتذلة والمشينة لكلمة "الحب". إلا أن الأستاذ فوجئ عندما طلب من "محسن" أن يعود إلى مقعده ليختارَ طالبا آخر بأن جميع الطلبة صاحوا مرددين معا وكأنهم اتفقوا دون سابق اتفاق: "عايزين الموضوع ده".. "عايزين الموضوع ده".. "عايزين الموضوع ده"..استغل "محسن" الفرصة وسارع إلى كتابة عباراتٍ ترضي الأستاذ "الشيخ" وترضي الطلاب في الوقت نفسه، فكتب بسرعة مستغلا انشغال الأستاذ بتهدئة الطلبة..ينقسم الحب إلى ثلاثة أنواع..أولا.. حب الله..ثانيا.. حب الوالدين..ثالثا.. حب القلب..وهو ما بدا منه حرصا على استدراج موافقة "الشيخ" على الحديث في الموضوع من خلال "حب الله" و"حب الوالدين"، واستدراج إصرار الطلبة على أن يتحدث من خلال "حب القلب"..هدأ الصف وقرأ الأستاذ ما كتبه "محسن"، فاستحسن النوعين الأول والثاني، إلا أنه طلب منه شطب النوع الثالث وعدم الحديث عنه لأنه "قباحة" و"قلة أدب".. إلخ.وافق "محسن" على طلب الأستاذ "الشيخ" وهو يضمر في نفسه إدراج الحديث عن "حب القلب" في سياق الحديث عن "حب الله" و"حب الوالدين"، فهو قد بدا مقتنعا بأن كل أنواع الحب لا ينفصل أحدها عن الأخرى.عندما قرأت هذه الواقعة في رواية "توفيق الحكيم"، استحضرت على الفور حادثة اعتبرها مهمة مررت بها عام 2010 عندما كنت في الجزائر أعد وأكتب سيناريو الفيلم السينمائي "الروح البيضاء" الذي يؤرِّخ لسيرة واحد من أعظم أبطال الثورة الجزائرية، وأحد ستة خططوا لها وفجروها في نوفمبر 1954، وكان يلقب بحكيم الثورة. وهو من أكثر الشخصيات الثورية التي شهدها القرن العشرين تأثيرا فيَّ إلى أبعد الحدود بسبب ما تحتويه سيرته من مظاهر العظمة والعطاء والتضحية والتفرُّد. وقد استشهد بعد أقل من ثلاثة أعوام من انطلاق الثورة الجزائرية في مطلع عام 1957 بعد أن قتله الفرنسيون في زنزانته رميا بالرصاص بعد أقل من أسبوعين مرا على اعتقاله الذي اعتبروه أكبر صيد لهم قد يمكنهم من الإجهاز على الثورة الجزائرية. إنه المجاهد الكبير الشهيد "العربي بن مهيدي" الذي رحل وهو في سن الثالثة والثلاثين.أما الحادثة التي استدعتها قراءتي لحادثة "محسن" مع "الحب" في "عودة الروح"، هي أيضا لها علاقة مباشرة مع "الحب".فقد وجدت وأنا أبحث في حياة هذا الرجل المجاهد العظيم أنه كان يحب السينما والمسرح، وأنه وقع في أول وآخر قصة حب في حياته وهو فوق خشبة المسرح يؤدي دور البطولة في مسرحيةٍ عالمية.ففي آخر لحظة من آخر مشهد في المسرحية كان عليه بوصفه مناضلا "يوغوسلافيا بلقانِياًّ" ضد "الاحتلال العثماني" أن يقتل أباه الخائن العميل الذي سهَّلَ للعثمانيين طريقَ اختراق الحصون ليدخلوا البلاد ويحتلوها مقابل تنصيبه زعيما على قومه، كما هو حال المحتلين مع الخونة والعملاء. وكان عليه أيضا أن يستدير بعد أن يُجهِزَ على أبيه بالسيف نحو الجمهور مركزا نظره فيهم وهو يبكي بسبب اضطراره إلى هذا الفعل كي لا يفعله أحد غيره."العربي بن مهيدي" الممثل في المسرحية يستدير في آخر لحظة قبل إسدال الستارة على مشهد النهاية، ويتجه بنظره إلى قاعة الجمهور، ليقع نظره على الفتاة التي أحبها من تلك النظرة وقرر ألا يتزوج فتاة غيرها. ولقد بدا أنها ارتبكت من نظراته التي أحست بها موجهة إليها، فأشاحت بوجهها عنه على نحوٍ كشف عن أنها قبلت الرسالة، فيما بقي هو محدقا فيها حتى أُسدلت الستارة.هذه هي قصة حب ذلك المجاهد العظيم، بدأت عندما كان عمره 22 عاما، وعندما كانت الفتاة في السادسة عشرة من عمرها.لم ير تلك الفتاة إلا مرة وحيدة ويتيمة هي تلك المرة.ولم يتزوجها إطلاقا.. لأنه عندما قرر الزواج منها وهو في سن الثالثة والثلاثين طلب من شقيقته أن تخطبها له عقب صدور قرار من قيادة الثورة الجزائرية بأن يتزوج كلُّ قادة الثورة العزاب الذين مثلوا بعزوبيتهم ظاهرة فريدة في الثورة الجزائرية. إلا أن "العربي بن مهيدي" يستشهد في اللحظة نفسها التي تطلق فيها شقيقته "زغرودة" مواقفة أهل العروس على تزويج ابنتهم لأخيها.وتنتهي هذه القصة التي بدأت بنظرة فوق خشبة المسرح، بدمِ بطولة أريق في زنزانة عدو مجرم.هزتني هذه الحادثة من الأعماق، وقررت أن أجد تخريجة فنية ملائمة تتعلق بها وتكون هي بداية سيناريو الفيلم. أي أنني رأيت أن أعظم ما يمكننا أن نكافئ به شهيدا عظيما مثل ذلك الرجل، هو أن نُظْهَر للعالم قلبه العاشق الذي عرف كيف يجمع بين رقة ورهافة مشاعر العاشق، وبطولة وإقدام وتضحيات المجاهد، ووعي وعبقرية السياسي الثائر.وهذا الذي كان، فكانت المشاهد الأولى في سيناريو فيلم "الروح البيضاء" بمثابة عرض درامي مثير لهذه الواقعة.
لكن مع الأسف "ما كل ما يتمنى المرء يدركه..".لشد ما كان اعتراض الرقابة الجزائرية على ذكر أيِّ أمر له علاقة بالحب والمشاعر والعشق في حياة كبار المجاهدين الذين أرادوهم رموزا ملائكية منزَّهة عن كل مشاعر الإنسان الطبيعية في حقل الحب والعشق، علما بأن موتهم في سبيل وطنهم هو أكبر دليل على عمق تلك المشاعر في قلوبهم.ما أثار دهشتي بعد كل هذه التفاصيل المتعلقة بالأمر، أنني اجتمعت مع أحد قياديي وزارة المجاهدين صاحبة السلطة الرقابية على هكذا مواضيع، لأسمع منه عبارة تكشف لي عن عمق المأزق الذي تعاني منه تلك الوزارة في تعاملها مع قيادات الثورة ومجاهديها الذين تمثل هي بقاياهم. فقد قال لي ذلك الرجل بحسرةٍ كشفت عن وعي خاص لديه بهذا المأزق، عندما صرح لي بما اعتبره سرا خطيرا قائلا..
"سنبقى فاشلين في تسويق ثورتنا للعالم، وسنبقى عاجزين عن نقلها بطابعها الإنساني إلى الأجيال الجديدة من الجزائريين، وسوف لن يغفر لنا الله تقصيرنا في حق عظمائنا الذي صنعوا لنا استقلالنا، مادمنا مصرين على هذا الفصل الفاجع في حياة كلِّ واحد منهم بين جزءين من قلبه، أحدهما أحبَّ الوطن والآخر عشقَ المرأة. إن خلطة الحب والعشق واحدة. فلا يمكن أن يحسن عشق الوطن رجل لم يحسن عشق المرأة"..