الدكتور جيلالي بوبكر
مالك بن نبي والحضارة
إنّ التقدم الذي يحققه الإنسان من خلال العمل في حياته الفردية والاجتماعية يشكّل ظاهرة إنسانية متميّزة وفريدة في نوعها، منها تتشكّل الحضارة، وبها يقوم البناء الاجتماعي ويتحرك التاريخ، فتنهض الأمة وترقى في سُلّم التجديد الحضاري، وكل تغيير وتحوّل وتجديد في الفكر والسلوك، وفي نمط العيش وفي وسائل العمل وأساليبه وفي غير ذلك من جوانب حياة الإنسان يُعدُّ من روح التحضر ومن صميم الحضارة، ويُعرفُ بالتجديد الحضاري الذي هو وراء أيّ حضارة وأساس كل تقدم.
وظاهرة التجديد الحضاري ترتبط سببيا وحتما بكل فاعلية إنسانية تستهدف بناء الإنسان ذاتيا واجتماعيا وتاريخيا، وترتكز على أيّة انطلاقة نحو بناء التاريخ والتقدم وصنع الحضارة، فهي وراء كل نهضة أو صحوة بعد غفلة وضياع.
إنّ ظاهرة التجديد الحضاري ليست هبة من الطبيعة، وليست وحيا يُوحى من السماء، بل تنتج من الكدّ والجدّ والاجتهاد والمبادرة، ينهض بها مناضلون يحدوهم إيمان راسخ بعظمة الرسالة وتشدّهم عزيمة قويّة، وتقوى فيهم روح المسؤولية، فيكرسون حياتهم للرسالة الحضارية بعيدا عن اليأس والتردد ومن دون تراجع، على الرغم ما تنطوي عليه هذه المسؤولية وهذه الأمانة من مصاعب وما تسببه من مخاطر وما ينتج عنها من معاناة، فكان هؤلاء رواد نهضة وقادة فكر، وصناع تاريخ وأصحاب كلمة وعمل، فالكلمة الطيبة الخيّرة مستقلة وحرّة هي مسؤولية وأمانة، والفكرة الصحيحة درّة وجوهرة تنال التضحية والفداء في سبيلها، وتحمل كل الصعاب والتحديات لأجلها.
إنّ شهادة التاريخ تؤكد أنّ الانفجار الحضاري في أي عصر وفي أي مصر موصول سببيا وحتما بأناس مناضلين، كلّ في موقعه، داعين إلى التجديد الحضاري ومدافعين عنه ومحددين شروطه ولوازمه، هو التجديد الذي ينبغي أن يقع في الإنسان ذاته، يحدث قي داخل أعماق نفسه، يجري بعد ذلك في المحيط الخارجي الاجتماعي والطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان ، ذلك ما عرفته كافة الحضارات التي شهدها التاريخ، منها الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة.
لمّا كان التجديد الحضاري شرط البناء الحضاري وأساس إستراتيجيته ومحرك التاريخ، هذا البناء وهذه الحركة كلاهما ينطلق بعناصر وشروط ولوازم، ويمر بأطوار وتواجهه مشكلات ويحصد منتجات في بيئة لا تخلو من النقص والضعف في جميع مجالات الحياة، والحضارة قد تقوم في حياة قوم ضارب في البدو والبساطة، كما قد تقوم في حياة قوم صحوا بعد غفلة ونهضوا بعد سبات وتطوروا بعد تخلف وانحطاط، في كل الحالات يتطلب الأمر بذل الوسع والتفاني في العمل والمزيد من ذلك في المجال الروحي والفكري والثقافي والعلمي من جهة وفي المجال العملي التطبيقي والتكنولوجي من جهة أخرى، يتعلق الأمر في المجال الثاني بالفنون والصناعات والتقنية والعمل ووسائل العمل وعلاقات العمل وغيرها، ما دامت الحضارة في جوهرها عبارة عن تقدم وتجديد في الجانب العلمي والفكري وانعكاس ذلك على الحياة المادية والعملية.
إنّ فعل التغيير الذي ينهض به رواد الفعل الإصلاحي وزعماء حركة التجديد لا ينطلق من العدم والفراغ بل له أسبابه وانعكاساته، ينمو ويتبلور تدريجيا حتى ينضج فيبلغ ويكتمل، فيصبح صالحا للاستعمال والاستثمار، هو الأمر الذي عرفته الحضارات السابقة والحضارة الإسلامية منذ أن تأسست على يد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقت أفولها وانهيار معالمها، ولم يبق منها سوى الذكريات والعبر محفوظة في الأذهان وفي الكتب وفي غيرها من مصادر التاريخ المباشرة وغير المباشرة.
لما جاء عصر الانحطاط شهد فيه المسلمون أزمة عميقة عمّت حياتهم ككل دينيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا، وانتهى الأمر في العصر الحديث بتعرض كافة الشعوب العربية والإسلامية للغزو الاستعماري الفكري والثقافي والعسكري الأوربي، الغزو الاستعماري الذي جدّ واجتهد وبذل كل ما في وسعه لطمس الشخصية العربية الإسلامية، وسخّر لذلك كل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية، فازداد العالم العربي والإسلامي ضعفا وانحطاطا على الرغم من المحاولات الإصلاحية والمبادرات التحررية والفكرية والسياسية المنبعثة ممن تسلّحوا بالروح الثورية الإسلامية سواء في مجال الفكر أو في مجال العقيدة أو في مجال السياسة، من هؤلاء المفكرين ورواد الإصلاح ودعاة التجديد وأصحاب الفكر الحرّ الداعي إلى النهضة "مالك بن نبي".
يكاد يتفق الدارسون والنقاد من داخل الأمة العربية والإسلامية ومن خارجها في عصرنا على غياب رؤية فلسفية نقدية جريئة وجادّة ووجيهة للواقع والتاريخ والحياة عامة في العالم العربي والإسلامي المعاصر لدى زعماء الإصلاح ودعاة التجديد، وانعدام نسق فكري متكامل يتناول قضية الحضارة ومسألة التاريخ، والرؤية القائمة عاجزة تماما عن إدراك سنن وقواعد التغيير وعن الإلمام بشروط ولوازم النهضة الحضارية والبناء التاريخي، ويتعلق الأمر بدواعي التجديد وصنع الإبداع وإيجاد التطور والتقدم على مستوى الفكر والعمل، فليس بحوزة الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر "فلسفة حضارة" أو "فلسفة تاريخ"، فلسفة تسمح بالتخلص من الانحطاط والتخلف وتهدي إلى سبيل التحضر والتطور والازدهار، فكل حضارة من الحضارات التي عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل لها أسس وأصول فلسفية وفكرية وتاريخية تأسست عليها، تعكس تلك الأسس والأصول فلسفة الحضارة وفلسفة التاريخ باعتبارها الإطار الفكري التاريخي النظري المرجعي الذي تحتاجه أيّة نهضة ويحتاجه كل تغيير وتقدم.
في الواقع لا يخلو العالم العربي والإسلامي من محاولات فكرية إصلاحية ونهضوية تجديدية جادّة وجريئة تتسم بالنسقية والعلمية والوجاهة، لأنّ أزمات ومحن المجتمع العربي الإسلامي الموروثة والمتراكمة والعميقة أنتجت رواد فكر تميّز بالأصالة والإبداع والتجديد، تجاهلته الرؤية التي تنفي كليا عن الفكر وعن الثقافة في العالم العربي والإسلامي القوّة والمتانة، وتضعه دون مستوى الفكر الغربي، ومن هؤلاء الرواد "مالك بن نبي" وهنا نتساءل لماذا "مالك بن نبي"؟.
كان "مالك بن نبي" مفكرا متميزا، اهتم بقضية النهضة ودرس موضوع الحضارة، ركّز بالدرجة الأولى على البحث في شروط النهضة ودواعي التحضر، وعمل على كشف وحصر أسباب التخلف والانحطاط، وعلى تحديد عوامل التراجع وسقوط الحضارات وأفولها، وقدّم نظرية في الحضارة وإستراتيجية في البناء الحضاري وفي تفسير التاريخ تختلف عن تلك التي جاء بها مفكرون غربيون محدثون ومعاصرون أمثال "أرنولد توينبي" و"أوزولد سبنجلر" و"فيكو" وغيرهم.
شغلت "مالك بن نبي" قضية الحضارة، فأدرك تماما أنّ مشكلة أيّ شعب في أصلها وفي جوهرها مشكلة حضارته، ولما كان العالم العربي والإسلامي يعيش حالة التخلف والانحطاط والانحلال والانعزال والاستعمار بمختلف أشكاله، عاش هو لأمته العربية الإسلامية، ولفكره ولنظريته التي تؤمن بأنّ العالم العربي والإسلامي المعاصر يمتلك من الطاقات والإمكانيات الروحية والمادية ما يدفع به فعلا إلى الإسهام الحقيقي في حلّ مشكلاته وهي مشكلات حضارة لا غير، وما يؤهله لبلوغ التحضر والرقي، وما يسمح بالمساهمة الفعّالة والحقيقية في مسايرة الركب الحضاري المعاصر وفي تطوير العالم.
إنّ التخلف الفكري والديني والثقافي والانحطاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والاستعمار والقابلية للاستعمار كل ذلك أوضاع وظروف تسقط من الوجود إذا تمسكت الأمة الإسلامية بالقاعدة القرآنية التي تدعو إلى التغيير والتجديد والتحوّل على مستوى الذات الإنسانية أولا وفي داخل أعماقها، أما التغيير على مستوى العالم الخارجي الطبيعي والاجتماعي فيكون بعد التغيير الذاتي الباطني للذات الإنسانية ، ويكون الله في عون العبد المسلم ما دام يغيّر ذاته أولا ثم يغير محيطه الخارجي، عملا بقوله تعالى:"لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"."سورة الرعد، الآية11».
إنّ خطة "مالك بن نبي" وإستراتيجيته في البناء الحضاري وأسلوبه في الإصلاح والتجديد كل ذلك يعكس فكره وفلسفته في الحضارة وفي التاريخ، ويجد فيها من دون شك المسلم وغير المسلم في عالم التخلف والانحطاط تعبيرا عن أوضاعه وعن تطلعاته وآماله، كما يجد فيها الوسائل والسبل الكفيلة بالانتقال من عالم التخلف إلى عالم التحضر، فهي إستراتيجية تستحق العناية والاهتمام، وجديرة بالدراسة والبحث والاستثمار.
إنّ الإشكالية التي يعالجها البحث قي هذا الكتاب "إستراتيجية البناء الحضاري عند مالك بن نبي" تدور حول البحث عما تتميز به هذه الإستراتيجية عن غيرها من المحاولات الفكرية والمبادرات الفلسفية التي سبقتها أو تلك التي عاصرتها، ومحاولة "مالك بن نبي" أفرزتها ظروف تاريخية، فكرية وسياسية واجتماعية، عرفها العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وشهدتها المحاولات الإصلاحية الأخرى لكنها لم تكن في مستوى محاولة "مالك بن نبي". لذا تناول البحث الإشكالية في إطار أحوال العالم العربي والإسلامي في أيام "مالك بن نبي"، وفي سياق الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة داخل المجتمع العربي والإسلامي، وركّز البحث على نظرية الحضارة وعلى أسس ومعالم وملامح هذه النظرية، كما وقف على ظاهرة التجديد الحضاري من حيث أسسها وملامحها، خاصة ملمح إستراتيجية التجديد الحضاري واستمرار الأمة باعتبارها أساس إستراتيجية البناء الحضاري في فلسفة "مالك بن نبي"، ثم ركّز البحث على نقد الفكر الإصلاحي لدى "مالك بن نبي"، وعلى مكانة هذا الفكر الإصلاحي ومكانة النظرية المنبثقة عنه في سياق الحركة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة في العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وفي العالم المتخلف بصفة عامة.
إنّ الهدف من تناول نظرية الحضارة وإستراتيجية التجديد الحضاري في هذا البحث هو الكشف عن جوانب التفرد والخصوصية في هذا الفكر، وتبيان ما فيه من قوّة ومناعة تدفع بالمجتمع العربي والإسلامي إلى مراجعة ما آل إليه من تدهور وانحطاط في كافة مجالات الحياة، وارتبط ذلك بوجود حضارة غربية راقية ومزدهرة في كافة ميادين الحياة، خاصة ميدان وسائل العمل وأساليب السيطرة على الطبيعة، من خلال التقدم العلمي والتكنولوجي، باعتبار التقنية هي التطبيق العملي والمادي للنظريات والحقائق العلمية.
توجد اعتبارات كثيرة قديمة وحديثة تقول بأنّ مقومات الإبداع وشروط التحضر والتطور ليست من نصيب جميع الناس، فهي من اختصاص بعض الناس دون الآخر، بينما صيحة "مالك بن نبي" وغيره من أصحاب الفكرة الحرّة المسئولة أبطلوا كل هذه الاعتبارات الداعية إلى العنصرية المدمرة، والمكرسة لظاهرة التفاضل والتباهي بالأجناس القاتلة، فالحضارة لا وطن لها، والعلم ليس حكرا على أحد، والتقدم الحضاري من نصيب أيّة أمة طالما توفرت شروطه ولوازمه وظروفه.
إنّ إستراتيجية البناء الحضاري في فلسفة "مالك بن نبي" تُفند كليا ومطلقا ما تذهب فيه النزعة المركزية الأوربية من اعتبار الحضارة مرتبطة في أصلها ونشأتها بعنصر بشري معين وبجنس محدد له خصائصه البيولوجية لا توجد في غيره، وهي تقتصر على هذا الجنس، وإن وجدت ملامح التحضر خارج هذا الجنس فإنّها جاءت بفعل التأثر لا بفعل الإنتاج والإبداع.
تمثل نظرية الحضارة في فكر "مالك بن نبي" مرجعية التجديد الحضاري الذي هو أساس كل بناء حضاري، لذا تمّ التركيز في البحث على مفهوم الحضارة، وصلتها بالتاريخ، وبالثقافة وبالدين وبالفكرة الدينية، وتمّ تحديد عناصرها وأطوارها ومشكلاتها ورسالتها. أما بالنسبة للتجديد الحضاري فتمّ التركيز على مدلوله وأبعاده وشروطه وميادينه وموانعه. و"مالك بن نبي" مفكر وصاحب إستراتيجية يهدف من خلالها إلى إنقاذ أمته والأمم المتخلفة من الانحطاط والضياع، ويدفعها نحو التحضر الذي يتحقق متى تحققت شروطه في كل الظروف والأحوال.
يُعدّ "مالك بن نبي" ممن تأملوا ودرسوا وانتقدوا تاريخ الأمة العربية والإسلامية وأوضاعها الحديثة والمعاصرة، وجددوا أمر فكرها وفلسفتها، بما دعا إليه من تجديد للتصور الإسلامي دينيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، اقترن اسمه بالحضارة وبمشكلاتها وبنظرية الحضارة وبإستراتيجية البناء الحضاري، أسهم في فلسفة الحضارة وفي فلسفة التاريخ وفي العلوم الإنسانية المعاصرة برمتها، ومنطلقه في ذلك الدين والفكرة الدينية، لم تشغله منتجات الحضارة الأوربية المعاصرة المغرية الفكرية والمادية عن البحث والاجتهاد، فهو صاحب كتاب "الظاهرة القرآنية" عرض فيه تفسيره العلمي للقرآن الكريم، أكدّ فيه الولاء للإسلام والانتماء للعلم في وجه الأفكار والتيارات العلمانية الجارفة، الأمر الذي جعل الشباب المسلم يقف محتارا بين الهداية والضلال، بين الاستقامة والانحراف في الفكر والمعتقد والسلوك.
جعل "مالك بن نبي" العقل الطاقة البشرية الكامنة المتحركة والمتحررة والمنتجة في عالم الأفكار وفي عالم الأشياء، في عالم الثقافة وفي عالم الحضارة، وهي طاقة متفجرة باستمرار ودوما بالفهوم والإبداعات والعطاءات، وهو ما انتهى إليه أصحاب كل حضارة من الحضارات التي عرفها تاريخ الإنسانية، ومنهم مؤسسو الحضارة الإسلامية الذين تأثروا وأربوا وأبدعوا وأثروا فتحضروا لما أخذوا بأسباب التحضر وهي المهمة والرسالة والأمانة الملقاة على عاتق المسلم المعاصر.
تعكس فلسفة "مالك بن نبي" في تعاطيها مع الدين والثقافة والعلم والسياسة والتاريخ والحضارة عامة تفتح عقل عربي إسلامي المعاصر على هموم ومشكلات عصره، وعلى قضايا الثقافة والحضارة والأصالة والمعاصرة والثبات والتغير، وهي مشكلات الأمة وقضايا الإنسانية جمعاء، عقل همّه الأكبر ومشكلته العويصة محاربة التخلف والانحطاط، والأخذ بأسباب التحضر والتقدم والبناء الحضاري، عقل مبدع صاحب دين وفكرة دينية، وصاحب علم ونظرية علمية، وصاحب تقنية وصاحب فكر وفلسفة، عقل يعتبره بعض المفكرين المعاصرين همزة وصل بين النهضة والصحوة في سياق تاريخي جمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، صاحب نسق فكري متكامل في التعاطي مع مشكلات الحضارة دينيا وفكريا وثقافيا وعلميا واجتماعيا وماديا واقتصاديا.
ما أحوج العالم العربي والإسلامي إلى مشروع فكري نُهُوضي حضاري يضع بين يدي الأمة إستراتيجية البناء الحضاري التي تمكنه من بلوغ السمو الروحي، ومن ميلاد حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، وتضمن التوازن بين المثال والواقع، بين المادة والروح، بين الدين والدولة، ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغى الإسلام ومقصده، فالحضارة الحقّة هي التمكين لقيّم ومبادئ الإسلام على أرض الله.
إنّ المتصفح لفلسفة "مالك بن نبي" في الإصلاح ولنظريته في الحضارة والتجديد، يكتشف عالما فكرياً فلسفياً مليئاً بالمفاهيم وغنياً بالتصورات وفريداً في نوعه وجديداً في العديد من جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالحضارة وعناصرها وشروطها وأطوارها، فهو يري أن ظاهرة التخلف ليست طبيعية في البشر، بل تعود إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، وتستفحل عندما تغيب الشروط والأدوات اللاّزمة للنّمو الفكري والأخلاقي والاجتماعي، هذا النًمو هو السبيل إلى التحضر، تقابله مجموعة من المشاكل والوضعيات والظروف الفاسدة المنهارة في حياة الفرد والجماعة في جميع جوانبها الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، هذه المشاكل والظروف والوضعيات ترتبط بظاهرة التخلف والانحطاط، وتقوم الحضارة باعتبارها إطاراً يضمن لكل فرد داخل المجتمع مطالبه وحاجاته في كل طور من أطوار وجوده، بإعطائه الأدوات واللوازم الضرورية للمجتمع النامي المالك لقدرات فكرية واجتماعية واقتصادية إرادة استعمال سائر القدرات في حل المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلف، والحضارة هي التي تكوّن هذه القدرة وهذه الإرادة معًا، وهما لا تقبلان الانفصال عن دور المجتمع النامي، فالحضارة هي شرط إيجاد القدرة والإرادة لتجاوز التخلف والتدهور في ذات الفرد وفي مجتمعه، وهي ترتبط بالإنسان والتراب والزمن والفكرة الدينية التي تجمع بين العناصر الثلاثة في مركب واحد هو الحضارة. ولها عمر وأطوار هي: طور الروح، طور الأوج، و طور الأفول، تسبقها مرحلة ما قبل الحضارة وتليها مرحلة ما بعد الحضارة، لكل واحدة من المرحلتين خصائص ومميزات، وتشترط الحضارة التغيير على أسس القاعدة الإلهية التي تعبر عنها الآية القرآنية:﴿إنّ الله لا يغيرّ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.[1]
ظاهرة التغيير مجالها النفس أولا ثم المحيط الخارجي ثانيا، تشرط القدرة على الإبداع والقدرة على الإنتاج، ولا تقوم على التكديس والاستيراد بل على البناء، وأن تلد الحضارة منتجاتها لا العكس، لأنّ العكس يستحيل منطقيا وماديا، ويغرق المجتمع في الشيئية من جهة وفي المديونية والتبعية الحضارية من جهة ثانية، وتشترط التوجيه الأخلاقي والعملي والفني الجمالي، وهي شروط تضمن الانسجام والتكامل بين المجهود الإنساني المبذول في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع مع سنن وقوانين الآفاق والهداية والتطلعات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تكفل تلك الشروط التكامل والانسجام بين المجهود الإنساني والسنن الكونية مع جملة الشروط النفسية والاجتماعية والروحية والمادية من أجل النمو والازدهار في جميع مجالات الحياة الإنسانية.
الحضارة بالمعنى المذكور هي فعل بنائي تقتضي أُسُساً فكرية وروحية وجهوداً كبيرة في عالمي الأشخاص والأشياء، وذلك يشترط مخطط تربية يهدف إلى تغيير الإنسان في الداخل وفق شروط معينة ليتمكن من أداء دوره في المجتمع ويحقق البناء الحضاري.
إذا كانت الحضارة بناءا لا تكديسا واستيرادا فهي فاعلية إنسانية تقوم على تغيير الإنسان في عالمه النفسي أولا ثم تغيير محيطه ثانيا، وتحصل هذه الفاعلية بتوفر جملة من الشروط والعوامل النفسية والاجتماعية والروحية والمادية، وبتوفر الإرادة والقدرة على إبداع المعرفة وإنتاج الأشياء، واستغلال ذلك لخدمة الإنسان وضمان راحته، ولفصل الحضارة الحقيقية عن الحضارة المزيفة، فالأولى تلد منتجاتها أما الثانية فهي من صنيع منتجات حضارات الغير، والتجديد الحضاري ظاهرة إنسانية ترتبط بالحضارة وبشروطها وعناصرها وأطوارها وازدهارها وتكون سابقة على الحضارة فتصنع النمو والتحضر والازدهار، كما تكون ملازمة لها فتستمر في تنميتها وتطويرها، وقد تكون سببا في انهيارها وأفولها، والمقصود هنا عندما تبلغ الحضارة طور العقل يضعف سلطان الروح وتسترد الغريزة نفوذها فتهوي بالإنسان إلى حضيض الحيوانية حيث شريعة الغاب.
لقد تميزت نظرية الحضارة عند "مالك بن نبي" بجملة من المميزات التي لم يشهدها مصلح آخر في فكره الإصلاحي، فهي نظرية انبثقت من تحليل تميّز إلى حدّ بعيد بطابعه العلمي، وبالدقة والعمق والموضوعية، والواقعية في طرحه ومعالجته للمشكلات والظواهر في حياة الفرد والمجتمع، كما تميزت الحلول التي جاء بها لتلك المشكلات والتصورات التي خرج بها من دراساته وبحوثه المعمقة للتاريخ والواقع بالقوة لارتباطها بالعلم والواقع والتاريخ والدين، و تميّز منهجه في البحث بطابعه العلمي وبتنوعه، فهو يستخدم المنهج الرياضي وطريقة المؤرخ ومسلك عالم الاجتماع وسبيل الكيميائي وغيرها، هذا ما زاد في متانة وقوة أفكاره ودقتها، وزاد في انسجام هذه الأفكار والتصورات مع ما يجب فعله في العمل الإصلاحي التجديدي.
تمثل نظرية "مالك بن نبي" في الحضارة، إستراتيجية إصلاحية تجديدية تستهدف تغيير الواقع الإنساني عامة وواقع العالم المتخلف ـ العالم الإسلامي جزء منه ـ بصفة خاصة، بحيث تضع بين يديه آلية فكرية نظرية للخروج من التخلف وبلوغ مستوى الحضارة، فهي مشروع منهج وضعه صاحبه للقضاء على ظاهرة التخلف بعدما درسها وكشف عن عوامل وأسباب وجودها، ولغرض الوصول إلى الحضارة بعدما درسها وكشف عن قوانينها وآلياتها الروحية والمادية. تميّز هذا المنهج بالقوة والمتانة لارتباطه بالعلم والدين والتاريخ، وبقوانين هذه الأطر الفكرية والروحية باعتبارها مصادر توجيه وقيادة في حياة الإنسان، ولارتباطه بالفكر الإنساني القديم والحديث وبواقع الإنسان المعاصر في العالم المتقدم بما له وما عليه، وفي العالم المتخلف بما عليه، وخاصة في العالم الإسلامي الذي لا ينقصه سوى تطبيق المناهج الكفيلة بإخراجه من عالم الانحطاط وتمكينه من الحضارة، وهو أمر ليس بعسير على إنسان بين يديه كافة شروط التحضر. فهو منهج في الإصلاح يستند إلى رؤية فلسفية إلى الإنسان والحضارة والتاريخ، وإلى فكر اجتمعت فيه الأصالة مع التجديد، فكان مشروع خطة للنهضة وللصحوة وللحضارة، ونموذجا من نماذج الفكر الإصلاحي لا يستهان به، بل يقدر حق قدره لِمَا لصاحبه من نظرة ثاقبة وقدرة على الطرح والتحليل والنقد والاستنتاج، ولما لهذا المنهج من تكامل بين عناصره، ومن انسجام مع ما تقتضيه مستلزمات البناء التاريخي والنهضة الحضارية.
لقد تبيّن لي وبوضوح من قراءتي لبعض الجوانب الهامة في فلسفة الحضارة والتاريخ عند "مالك بن نبي"، أن ما يجمع بين لمحاولته ومحاولات غيره من مفكري الإسلام في العصر الحديث والمعاصر الكثير، ويتعلق الأمر بالظروف التاريخية الزمنية والمكانية التي الواحدة والمتشابهة، والتي فيها نبتت فكرة الإصلاح عندهم، فهي واحدة تماما، حيث الإسلام والاستعمار والتخلف في العالم الإسلامي من جهة والحضارة والعلم والتكنولوجيا في أوربا الحديثة والمعاصرة من جهة أخرى، هذا الذي شكل روافد و مصادر الفكر الإصلاحي في عصرنا، وأوجد وحدة في المبادئ والأهداف والتطلعات، والاختلاف بين المحاولات ليس في الجوهر أو في الأساس أو في الهدف، بل في بعض الجوانب التي تخص طبيعة البحث والدراسة وطبيعة الإصلاح ومنهجه، ونوع المحاولة وخصوصياتها.
فالبحث عند "مالك بن نبي" جاء ذا طابع علمي واقعي، وجاء الإصلاح بطابع اجتماعي علمي واقعي تاريخي، وجاء منهج البحث يقوم على التغيير في الفرد والمجتمع، وعلى القضاء على أسباب التخلف والأخذ بأسباب الحضارة كما هي في نظرية الحضارة، كما يقوم على التوجيه الديني والأخلاقي والعملي مع الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين العلمية والحضارية، ولم تكن المحاولة خاصة أو موجهة لفئة بعينها بل جاءت عامة تشمل العالم المتخلف والعالم العربي والإسلامي جزء منه لكونها مشروع تحرر واستقلال وإصلاح ونهضة وتحضر، وهو مشروع يعني أي عالم متخلف يحتاج إلى الخروج من التخلف وأي أمة تسعى نحو الريادة.
جاءت فكرة التجديد الإصلاح في المشروع نتيجة واقع المسلمين المتردي، وتُشكّل محاولة فكرية لتغيير النفس والفكر والواقع في العالم الإسلامي، تميزت بالقوة لارتباطها بالإسلام وبالعلوم المزدهرة وبالفكر الإسلامي، وتشكل رؤية فلسفية إلى الإنسان والحياة والتاريخ والحضارة، وتمثل مشروع خطة ذات طابع فكري نظري، للنهضة وللتجديد ولبناء الحضارة، وللدخول إلى التاريخ، وإلى حلبة المعترك الحضاري، واحتلال أمة الإسلام لمكانتها اللائقة بها في إطار الحوار والتواصل الندّي الحضاريين.
إذا كان الفكر الإصلاحي عند مالك تميز بالقوة والمتانة نظرا لصلته المباشرة بواقع وحياة المسلمين في العالم الإسلامي المعاصر، ولتعبيره عن مشاكلهم وهمومهم، وعن آمالهم وتطلعاتهم، وبلوغه مستوى رفيع من الحقيقة في مناهجه وأساليبه لأنه أخذ بالدين والعلم وبالتاريخ، واستطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح والمادة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة، فما أحوج العالم الإسلامي المعاصر إلى المشروع للتجديد ولبلوغ السمو الروحي والأخلاقي، ولبناء حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، ولضمان التوازن بين المثال والواقع، بين الروح والمادة، وبين الدين والدولة، ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغي الإسلام ومقصده، فالحضارة هي التمكين لقيّم ومبـادئ الإسلام على أرض الله
[1] - قرآن كريم: سورة الرعد، الآية11.