لقد أخجلتم تواضعي حين رأيت منكم كل هذه الحفاوة ، فإذا كانت الصخب والعنف قد حازت من التقدير ما جعلكم تمنحوني جائزة نوبل فإن ذلك لا يحول دون كشف شخصيتي ، فما أنا غير فلاح فقير يهتز لحصاد الطبيعة ، فلاح قد علم نفسه بنفسه.
هذا بعض مما إرتجله”فوكنر” صاحب” الرواية الذائعة الصيت” الصخب والعنف” عندما علم بنيله جائزة نوبل ووجهت له الدعوة لحضور تسلمها.
لم ينل فوكنر من التعليم قسطا كافيا ، فقد ترك المدرسة قبل أن يتم تعليمه الثانوي ، لكنه عوض ما فاته بدراسة الشعر الرومانسي الذي ملأ صميم حياته وروى عطشه.
كان لصديقه”فيل ستون” الأثر الأكبر على تنمية مواهب “فوكنر” الأدبية حتى أن شخصية هذا الصديق ظهرت مجسدة في أعمال فوكنر في شخص”هافن ستيفنسن” ، لكن اهتمام “فوكنر” بالأدب لم يحل دون رغبته بمتابعة تعليمه فالتحق بجامعة ولاية الميسيسبي وغادرها بعد عام واحد بسبب ضعفه البائن في لغته الإنجليزية ،
اشتغل “فوكنر” في أكثر من عمل ، نجارا ودهانا وموزع بريد ، وكان خلال تلك الأعمال يعاني صراعا داخليا سبب له كثيرا من الآلام ، كان حائرا بين أن يتفرغ للقراءة والإبداع و إكمال دراسته وبين الحصول على قوت يومه ، إلا أن صديقه لم يبتعد عنه خلال أزمته وخفف عنه الكثير.
نشر “فوكنر” ديوانه الأول عام 1924حيث كانت بداية اهتمامه بالشعر وتميزت قصائده بالشطحات الرومانسية التي استوحاها من ريف الجنوب الأمريكي.
عاد الضيق يغزو قلب “فوكنر” من جديد عندما لم يجد ديوانه الأول أي رواج ، معتقدا أن مدينة “اكسفورد” لا تفتح أبوابها للنابهين فغادرها إلى” نيواورليانز”وتعرف فيها على صديقه”اندرسون” الذي اقترح عليه بعد أن رأى اهتمامه واستعداده الأدبي - أن يجرب الكتابة الروائية.
لم يترك “فوكنر” الفرصة تضيع من يده فتحمس للفكرة منكبا على روايته الأولى” راتب الجنود”التي كشفت ضياع الجيل في العصر الحديث وغربته.
إنهمر سيل الأبداع من قلم “فوكنر”وكتب روايته الثانية “البعوض”التي كرسها للسخرية من الطبقة التي تسمي نفسها مثقفة في مدينة”نيواورليانز” ، وبعد كتابته للروايتين ، شعر أن الرواية عمل سهل ومربح ويعود عليه ببعض المال ، لكن الشهرة لم ترحب بفوكنر نتيجة هذه الإبداعات التي كانت بداية عهد جديد من الكتابة التي عرف بها ، أعني روايته” الصخب والعنف”التي مثلت بعمقها ونضجها درجة نالت بها جائزة نوبل.
فما الذي أضافه فوكنر” حتى استحق الجائزة في حين لاقت كتاباته الأخرى عدم الانتشار؟
عندما كتب “فوكنر” رواياته الأولى لم يكن قد وصل للمفتاح السحري الذي مكنه من دخول عالم الرواية: التركيز على خصوصية “فوكنر”بغوصه في أعماق البيئة التي ألهمته الكثير ، سواء على مستوى ذكرياته في الجنوب الأمريكي ، أو الأسطورة التي تميز بها ، أو نتيجة للواقعية التي عالجها بموهبته الخاصة وأسلوبه المميز.
توقف النقد المعاصر أمام أدبيات”فوكنر” متعمقا فيها ومستخرجا آراء نقدية ، حيث كرس بعض النقاد عملهم لعقد مقارنة بين “فوكنر” و” بلزاك”محددين لكل منهما خصائصه وما يتميز به عن الآخر ، ونقاط الاتصال والالتقاء بينهما.
” الصخب والعنف” التي تسجل بأمانة صدق التجربة التي عاشها الجنوب الأمريكي خلال الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب موزعة على محورين: أولهما الاستياء من الحاضر ورفضه ، وثانيهما البحث عن الماضي الذي لم يعد له وجود. أما رواية “فوكنر”: “الضوء في أغسطس”والتي تتمحور حول فكرة أن الحياة في القرن العشرين لا تستحق أن تعاش ، فإنها تذكرنا بأدب الاغتراب عند “اليوت” و”سويفت”و”بريخت”و”كامو”. ولعل مما يميز “فوكنر” - غير أسلوبه - كما قال “اندريه مالرو” أن أصدق موضوع يمتاز به فوكنر هو الشخص الذي لا يمكن إصلاحه ، وهذا ما توضحه بشكل لا يحتمل التأويل شخصية”جو كريسماس” الذي صرخ قائلا: إنني متعب من الجري ومن اضطراري أن أحمل حياتي كسلة من البيض”
رواية “الصخب والعنف” ترجمت للعربية على يد اكثر من مترجم ، غير أن أنضجها وأوفاها ترجمة المبدع الموسوعي “جبرا إبراهيم جبرا” الذي مهر ترجمته بمقدمة جميلة وضعها أول الرواية شارحا أسلوب فوكنر ومحللا شخصياتها ، الأمر الذي يسهّل على المتلقي مطالعة النص بمتعة ، خاصة من لم يتمرس على أسلوب فوكنر ، أسلوب فوكنر الذي أثر إيجابا على الكثير من الروائيين عالميا وعربيا ومحليا ، وهذا ما يستحق وقفة خاصة أخر