اللغز...بقلم آرا سوفاليان
ثلاثة نقرات على باب الصف وهو صف لمرحلة التعليم ما قبل الجامعي، والمدينة هي بون في ألمانيا الغربية السابقة، ويدخل المدير ومعه لجنة خبراء من التربية، نزلت المعلمة عن المنصة، وصافحت الضيوف ودار حديث هادئ لم يسمعه إلا الطلاب الذين يجلسون في المقدمة، استأذن المفتش المعلمة فكان يريد سبر المعلومات لدى الطلاب في مهمة دورية...وطرح سؤال واختار طالب كان يجلس في ابعد نقطة الى جهة اليسار ليجيب عليه، وعند النظر الى وجه المعلمة ظهرت علامات القلق ثم الارتياح ثم ابتسامة وصفقت اللجنة وتولت سيدة أخذ اسم الطالب لإقتراح المكافأة، واقترب مفتش آخر من النافذة ونظر الى فتاة بملامح شرقية وسألها سؤال أصعب وبالعودة الى وجه المعلمة فلقد ظهرت علامات الأرتياح فوراً ثم ابتسامة رائعة فلقد كان الجواب صحيحاً، قالت المعلمة للمفتش هذه الفتاة هي الأولى على الصف، فاقترب المفتش من الطالبة وسألها عن اسمها فأجابت: لوسين...قال المفتش: هذا ليس اسماً ألمانياً إنه إسم غريب قالت: نعم هو ليس اسماً ألمانياً...قال: ما هو إذاً؟ قالت: هذا اسم أرمني...قال: أنت أرمنية إذاً ولست ألمانية؟ قالت: احمل الجنسية الألمانية وانا ألمانية المولد...أما أبي فهو من سوريا وأمي ألمانية...قال: ارجو ان تحلّي لي هذا اللغز، للتوّ قلتِ أنك أرمنية، وتقولين أن والدك من سوريا وسوريا ليست أرمينيا، سوريا دولة عربية، هل بإمكانك مساعدتي لفهم ما تقولين؟
قالت: حسناً أيها السيد ولكن هذا سيأخذ القليل من وقت الجميع...قال: تفضلي، قالت: في العام 1915 كنتم حلفاء للسلطنة العثمانية في الحرب العالمية الاولى، وتم تنفيذ ابشع جينوسيد بحق شعبي الارمني ويقول والدي ان النتائج كانت قاسية فلقد تم قتل مليون ونصف أرمني وضاعت ارمينيا الغربية كلها ووقعت تحت الاحتلال، يقول والدي أن جده واسمه هاكوب كتبت له الحياة وكان يبلغ االسابعة من العمر، انقذه العرب البدو من موت محقق واعتنوا به لمدة سنة، واسترده رجل دين أرمني ألحقه بميتم أرمني كاثوليكي في بيروت وهناك تعلم حرفة النجارة وتزوج من فتاة ارمنية أهلها في دمشق وعمل في دمشق وانجب ثلاثة صبيان أصغرهم جدي هوفانيس وابنة واحدة، وحصل على الجنسية السورية، وابي يدعى فاهان وهو الابن البكر لهوفانيس أصغر أولاد هاكوب، وكان يدرس الطب في الجامعة الاميركية في بيروت، ويعمل لدى خاله في محل صياغة وشرقيات في دمشق اثناء العطلة الصيفية، حيث تعرف على والدتي التي زارت دمشق مع أهلها في غروب سياحي، وبدأت المراسلات بينهما، وتخرج والدي وسافر الى بون وتزوج من أمي وهو طبيب يعمل هنا في بون ووالدتي تعمل في دار رعاية مسنين...وهذا هو حل المسألة التي بدت لحضرتك لغز...هاكوب جدنا الأكبر جاء من ارمينيا الغربية في العام 1915 وكان طفلاً ولا يحمل اية اوراق لا أرمنية ولا تركية، حصل على الجنسية السورية في سوريا حيث تزوج ورزق بثلاثة صبية وإبنتان، أصغر هؤلاء الصبية هو هوفانيس جدي وابنه البكر هو فاهان والدي وهو يحمل الجنسية السورية وحصل فيما بعد على الجنسية الألمانية وبالتالي فأنا إبنته من أصل أرمني ثم سوري لأن زواج والدي مسجل في سوريا، واحمل الجنسية الألمانية، وأمي ألمانية واسمي لوسين وهو أسم أرمني.
ـ هل تعرفين تركيا؟
ـ لا لم تسبق لي زيارتها...لقد تم طرد وإبادة كل الارمن منها بمساعدة ألمانيا، والأرمن يطلقون عليها إسم أرمينيا الغربية، أنا أعرف المدينة التي جاء منها جدنا هاكوب، اسمها ملاطية.
ـ هل زرتي أرمينيا؟
ـ تقصد أرمينيا السوفياتية الحالية؟
ـ نعم
ـ لا لأنه ليس لنا أحد فيها...هذا ما يقوله والدي...ولكنا نزور جدتي لأبي في سوريا في الصيف مرة كل عامين أو مرة كل ثلاثة أعوام...وأنا أجيد اللغات الثلاثة، وخاصة لغة جدتي وهي من سوريا هي عربية وليست أرمنية، وقد امضيت معظم طفولتي في دارها.
ـ ماذا تتمنين لألمانيا؟
ـ أتمنى لها ثلاثة أمنيات
ـ ما هي؟
ـ أن تصبح أغنى دولة في اوروبا...أغنى علمياً ومالياً واقتصادياً وليس أقوى لأن القوة على الطريقة النازية لا تعجبني...وأن تصبح مركز اوروبا الصناعي والزراعي والتجاري والسياحي والخدمي أيضاً بالعلم والمال وليس بالقوة...وأن يصبح مناخها جميلاً معتدلاً مثل مناخ بلد جدتي سوريا حيث تشرق الشمس من الشرق وتغرب في البحر ونراها في كامل بهائها وإشراقها، منذ الشروق وحتى الغروب ونحن على شاطئ المتوسط نحاول اكتساب السمرة في ساعات الصباح الأولى وفي الفترة ما قبل الغروب.
ـ وهنا هل لا ترين الشمس؟
ـ صدفة وتكون مختبئة خلف الغيوم السوداء والجوّ ضبابي وبارد وكأننا في استديو منخفض الإضاءة.
ـ هل ستذهبين في الصيف القادم لزيارة جدتك؟
ـ نعم سأذهب ولكن لوحدي، فأبي مرتبط ولا يستطيع السفر وكذلك أمي...هل يمكنني تأدية أية خدمة لحضرتك؟
ـ ربما اريد الحصول على بعض الصور لقلعة الكافاليه (قلعة الحصن)
ـ حسناً ولكن كيف سأسلمك الصور؟
ـ سنكون على اتصال في العام القادم، وسنتابعك حتى الجامعة، وستتولى السيدة تسجيل اسمك وعنوانك وسأوصي لك بهدية مميزة، وفي حالة تفوقك فهناك اجراء ستعرفينه في وقته.
وجاءت الفتاة الى سوريا وتربطني بأسرتها علاقة قرابة، وحدثتني بالقصة، وسألتني هل كنت موفقة في الاجابة؟ قلت الى حد ما... قالت ما العلامة التي استحقها؟ قلت 50% قالت لماذا؟ قلت: انتِ ارتكبت ثلاثة أخطاء قالت: ما هي؟ قلت: لقد أثرتِ مسألة لا يحبونها قالت دورهم في الابادة الأرمنية؟ قلت نعم قالت: وأين المشكلة؟ قلت قد يؤذونك في مسيرتك الدراسية قالت: هذا مستحيل فهؤلاء لا يفكرون كالشرقيين ابداً...والثانية: خبرتي المتواضعة تقول لي أنه لا زالت تراودهم الاحلام النازية وانتِ كشفتِ الغطاء عن هذه الأحلام اليس كذلك؟ نعم ولكن قلت انه ليس بالقوة بل بالعمل والمال والنجاح... قلت: ارجو ان يكون هذا المفتش قد فهم القصد...والثالث: كل الناس يحبون بلادهم فهي ارض الأجداد والاحفاد وهناك اراض ألمانية يعتبرونها حتى اليوم محتلة قالت: ماذا تقصد؟ قلت الألزاس واللورين قالت: هم من أكثر الدول حظاً فلو ان هزيمة العام 1945 لحقت بدولة اوروبية أخرى لتم محوها من الوجود...حسناً فهذه الامور بالنسبة لهم غير منتهية ولا تهمهم مسألة شروق الشمس بإستدارة كاملة ووضوح من الشرق وحتى تسقط في البحر ولا تهمهم البلد الذي تعيش فيه جدتك وهناك دليل على هذا الكلام....قالت: وما هو؟ قلت موضوع الصور المتعلقة بقلعة الفرسان (قلعة الحصن) قالت: أين العلاقة قلت: هذه القلعة هي مجدهم الضائع لقد جيشوا الجيوش وجمعوا المال وتكبدوا عناء الحروب الصليبية وبنوا القلاع ودفعوا الكثير من الدماء وتم طردهم بعد 100 عام من العناء بطريقة مذلة ومهينة وهذه المسألة لا يمكنهم نسيانها...ولهذا فلقد سألك عن قلعة الحصن كرد فعل عفوي عن ما أعتبره إهانة له.
قالت: هل تقصد بأننا لن نذهب الى قلعة الحصن؟ قلت بل سنذهب وستحصلين على الصور التي أرادها، الأرمني لا يخلف الوعد، وعادت قريبتي ومعها حزمة من الصور.
وتفوقت ودرست الطب وتفوقت في الجامعة فتم اعفائها من رسوم الجامعة وتفوقت أكثر فتم تخصيصها براتب وتخرجت بتفوق فتم تخصيصها براتب دائم وبمنحة التخصص العالي على نفقة اوروبا التي اتحدت أخيراً تحت الراية الألمانية التي حملت ألمانيا الشرقية بكل ما فيها وحملت اوروبا الغربية وعثراتها، وحملت الشمالية وخسائر اوروبا الشرقية ولا زالت واقفة.
اليوم تذكرت هذه القصة بعد أن رأيت الحرائق في الابنية الحكومية في مصر، والمصائب في الساحات العامة والتفجيرات، والدخان الاسود المنبعث من المباني العالية في صيدا وفي طرابلس، والنار والحريق والبلاء الذي نحن فيه هنا في سوريا، وتفجيرات المقاهي التي حدثت اليوم في بغداد، والتفجيرات والخطف والقتل في ليبيا، وفلسطين وما أصابها، والملابس الغريبة التي يرتديها المسلحين في سوريا كالسراويل الضيقة وفوقها التنانير والأقدام المكشوفة في الخفافات الأفغانية المفتوحة، وصور التمثيل والقتل وبرك الدماء، فتذكرت الفرسان وقلعة الفرسان والثأر الذي لا ينتهي، فنحن هنا في الشرق نملك الطبيعة الساحرة والمناخ المعتدل والشمس المشرقة والأنهار العذبة ونعوم على بحر من الغاز والبترول، وهم حيث هم، يدفعون المليارات لنا، لينعموا بالدفئ الذي ننعم به بالمجان ثمناً لما يستجرونه من الغاز والبترول، وبعد ذلك فكل الذي يحدث له مبرراته، وقد شاركوا هم فيه من قبل ومن بعد، منذ أن زرعوا ربيبتهم هنا خنجراً في خاصرتنا ولا بد أن أول الحلول وآخرها تبدأ بنزع ما زرعوه في خاصرتنا.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
السبت 29 06 2013
arasouvalian@gmail.com