وأولها قوله جل وعلا : ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم أن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولهم ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)). قال ابن كثير(رحمه الله): أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، كالنساء والضعفة منهم أن تحسنوا اليهم وتعدلوا معهم إن الله يحب المقسطين.
قلت: لم يتوقف الأمر عند حد العدل مع الكفار المسالمين إنما تجاوز الاذن بالإحسان إليهم ومعلوم إن الإحسان أعلى مرتبة من العدل كما قال الله جل وعلا
(ان الله يأمر بالعدل والإحسان)) فالعدل أن تقابل السيئة بالسيئة والحسنة بالحسنة وأما الإحسان فهو مقابلة السيئة بالحسنة فالكافر المسالم حتى لو كان مسيئاً إليك في أقواله أو بعض فعاله فيجوز لك شرعاً أن تقابل السيئة بالحسنة من باب الفضل لا من باب العدل وهذا ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مع اليهود والنصارى ومشركي العرب في المدينة المنورة وكم من يهودي ونصراني ومشرك اسلم بسبب فضله وإحسانه -صلى الله عليه وسلم - وهي صفة له مذكورة في التوراة كما شهد بها يهودي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال : والله أنها لصفتك في التوراة لا تقابل السيئة بالسيئة واسلم بعد ذلك. وفي أثر رواهُ البخاري عن عبد الله بن عمروُ بن العاص - رضي الله عنه - انه كان يقرأ العبرية وقرأ فيما قرأ من وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة : (انه لا يقابل السيئة بالسيئة ولكنه يعفو ويصفح) الشاهد : أننا كمسلمين مأمورون شرعاً وديناً بالقسط مع الكفار المسالمين والإحسان اليهم كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام احمد في مسنده والشيخان في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذا عاهدوا ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلمن - فقلت: يارسول الله ، أن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال
نعم) صلي أمك. وروى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن الزبير، قال قدمت قُتيلة على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر الصديق بهدايا: صنباب وقرض وسمن، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فانزل الله قوله : ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين))الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها، وان تدخلها بيتها. وقال البغوي في تفسير هذه الآيات من سورة الممتحنة : (أي لا ينهاكم الله عن برِالذين لم يقاتلوكم وتعدلوا فيهم بالإحسان والبر قال ابن عباس - رضي الله عنه - : نزلت في خزاعة ، كانوا قد صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ان لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في برهم). قلت فالحربي نوعان:
1. نوع يباشر الحرب ضد المسلمين.
2. ونوع يعين الكفار والمشركين على المسلمين وكلاهما يقاتل ولا يُبرُ ولا يحسن إليه ، فلما صالحت خزاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحوا على هذين النوعين من إعلان الحرب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين فكان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ان يأذن ببرهم والإحسان أليهم والقسط معهم. وقال الشنقيطي في تفسيره (أضواء البيان) في هذه الايه: في هاتين الآيتين صنفان من الأعداء وصنفان من المعاملة الصنف الأول : عدولم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم فهؤلاء قال الله تعالى في حقهم
(لا ينهاكم الله))، ((أن تبروهم وتقسطوا إليهم)). الصنف الثاني : قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم
(أنما ينهاكم الله))، ((أن تولوهم)) اذاً فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران وان كان الحكمان لم يخرجا عن عموم (عدوي وعدوكم) المتقدم في أول السورة ، وقد اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة بعد النهي المتقدم ). وقال رحمهُ الله تعالى : ( أما التقسيم فقسمان):
1. قسم مسالم لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فلم ينه الله المسلمين عن برهم والقسط إليهم.
2. وقسم غير مسالم يقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على اخراجهم ، فنهى الله المسلمين عن موالاتهم وفرق بين الاذن والقسط ، وبين النهي عن الموالاة والمودة).
قلت: يجتمع الحربي والمسالم من الكفار في حكم ويفترقان في حكم ، فاما الحكم الذي يجتمع فيه المسالم والحربي من الكفار فهو في عدم جواز المودة والموالاة ويفترق الحربي عن المسالم في الإذن في البر والقسط مع المسالم دون الحربي. * واختلف المفسرون في هذه الآية أهي منسوخة ام محكمة والراجح من اقوال اهل العلم انها محكمة لأن النسخ يقع بشروط وهي:
1.التعارض.
2.عدم امكان الجمع.
3. معرفة التأريخ.
فالأول لا تعارض بين الآية في سورة الممتحنة وآية السيف لأن آية السيف انما نزلت في قتال المقاتلين والحربيين من الكفار والمشركين وآية الممتحنة انما تتحدث عن المسالمين لا عن الحربيين بل ان الآية الاخرى دليل على ذلك وهي قوله تعالى
(انما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين)) وبهذا تحقق امكان الجمع.
وممن ذهب الى ان هذه الآية محكمة امام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى حيث قال : واولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بذلك قوله تعالى ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)) من جميع اصناف الملل والاديان ان تبروهم وتصلوهم وتقسطوا اليهم عممَ بقوله: ((الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم)) جميع من كان ذلك صفته فلم تخصص بعضاً دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ لأن برَ المؤمنين ممن بينه وبينه قرابة او نسب او ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه اذا لم يكن في ذلك دلالة له ولاهل الحرب على عورة لأهل الإسلام او تقوية لهم بكراع او سلاح. ويقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في تفسيره لآيات الاحكام ما نصه : قال الله تعالى : ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين))الآية يقال : والله اعلم ان بعض المسلمين تأثر من صلة المشركين احسب ذلك لما نزل فرض جهادهم وقطع الولاية بينه وبينهم ونزل((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله)) الآية فلما خافوا ان تكون المودة الصلة بالمال انزل الله قوله : ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)) وكانت الصلة بالمال والبر والاقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته من المظاهرة على المسلمين ، وذلك لانه اباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والاقساط اليهم ولم يحرم ذلك الى من لم يظاهر عليهم ، بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فنهاهم عن ولايتهم اذ كان الولاية غير البر والاقساط، قول الشافعي قلت: والسنة العملية للرسول - صلى الله عليه وسلم - انه كان يفرق بين المسالم والحربي من الكفار والمشركين فلقد ثبت في صحيح البخاري قصة الضعينة صاحبة المزادتين وكيف ان الصحابة لم يقتلوها او يأسروها او يستبيحوا ماءها بل استاقوها بمائها الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ من مزادتها قليلاً ودعا فيه ورده ، ثم استقوا وقال لها : اعلمي ان الله هو الذي سقانا ، ولم تنقص من مزادتك شيئاً واكرموها واحسنوا اليها وجمعوا لها طعاماً وارسلوها في سبيلها فكانت تذكر ذلك وتدعو الى الاسلام وفي هذا الاثر جملة من المسائل. الاولى : انه ليس كل كافر ومشرك يقُتل ولذلك لم يقتل الصحابة هذه المشركة ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلها لانها كانت مسالمة.
الثانية: انه ليس كل كافرٍ أو مشركٍ يؤسر ولذلك ساق الصحابة المشركة الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوقاً ولم تعامل معاملة الأسير.
الثالثة: انه ليس كل مال لكافر او مشرك يكون غنيمة الا اذا كان حربياً وهذه المرأة كانت مسالمة فلم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذ مالها وجعله غنيمة للمسلمين.
الرابعة : جُمع لها من طعام المسلمين ما تتقوى به على سفرها.
الخامسة : امر النبي - صلى الله عليه وسلم - باكرامها والاحسان اليها وعدم معاملتها معاملة السبية.
السادسة: اطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -سراحها.
السابعة: كان الاحسان اليها سبباً في اسلامها ودعوتها الناس لدخول الاسلام الحنيف.
ومما يدل على جواز الاحسان الى الكفار والمشركين المسالمين قوله تعالى في سورة الممتحنة : ((فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا)) فالله تعالى أمر المسلمين ان لا يردوا المؤمنات الى عصمة الكفار والمشركين ثم أمرهم ان يردوا اليهم مهورهم التي دفعوها للمؤمنات قبل الاسلام وهو معنى قوله تعالى : ((وآتوهم ما أنفقوا)) وهذا قطعاً مع الكفار المسالمين ورد مهور المؤمنات الى ازواجهم من المشركين هو من جنس الاحسان اليهم والعدل معهم. ومن الآيات الدالة على الأذن بالاحسان للمشركين المسالمين قوله تعالى: ((وان جاهداك على ان تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً)) وهي آية متعلقة بالوالدين المشركين اللذين يحرصان على ان يعود الابن مشركاً بالله تعالى بعد اسلامه فصار عندنا نوع آخر من المشركين وهو النوع الذي يدعو الى الشرك ويحث الناس عليه ، وهي دعوة باللسان لا يكون معها محاربة لله وللرسول واعلان العداوة لهما وهو المقصود بقوله تعالى
(وان جاهداك على ان تشرك بي)).الآية فالمجاهدة هي بذل الجهد في اقناع المقابل بما معهما من الشرك والكفر والعياذ بالله ، فالمدعوعليه ان يقوم بأمرين اثنين.
1. ان لا يطيع من يجاهدةُ على ان يشرك بالله شيئاً ولو كانا ابويه لانه ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) كما اشار الى ذلك الحديث النبوي الصحيح وكذلك قوله- صلى الله عليه وسلم -
انما الطاعة بالمعروف) والمعروف هو ما عرفه الشارع من خير وبروفضيلة.
2. ان يصاحبهما في الدنيا معروفاً دونما اساءة وضرراو اهانة تتعرض لهما بضرب او اذى قولي ادناه ما نهى الله تعالى عنه في قوله
(فلا تقل لهما أُفٍ))وهذا كله فيمن لم يكن حربياً محادداً لله ورسوله والمؤمنين ولما كانت غزوة بدر وقتل ابوعبيدة اباه ابن الجراح لأنه كان يقاتل مع المشركين ، حَزُن لذلك ابو عبيدة أشد الحزن وظن ان قتله اياه يتعارض مع قوله تعالى
(وقضى ربك ان لا تعبدوا الا اياه وبالولدين احساناً)) حتى انه اعتزل الناس في بيته فانزل الله تعالى قوله في سورة المجادله : ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او ابناءهم او اخوانهم ا عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه))، فتبين الجمع بين الآيتين ان الشرع الحنيف قد فرق بين المحارب والمسالم من الآباء والامهات والاخوة والعشيرة فمن كان منهم محادداً أي معادياً لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين فهؤلاء لا يحسن اليهم ولا يبرون ومن كان مسالماً فانه يحسن اليه ويبر حتى ولو كان داعياً الى شركه او كفره.
ان سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - عامرة بمواقفه العادلة من الكفار والمشركين واهل الكتاب المسالمين ومما يؤيد ذلك عملياً معاملته وخلفاؤه من بعده لليهود في خيبر مع انهم داخلون في قوله تعالى: ((ياايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم اولياء)) ومنصوص على عدم موالتهم في قوله تعالى
(ياايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء)) ومع ذلك كما اخرجهم من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر وفتحها الله عليه واصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين ولا مظاهرين على اخراج المسلمين من ديارهم ، عاملهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقسط فعاملهم على ارض خيبر ونخيلها وابقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين ، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها ، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لما ذهب يخرص عليهم وعرضوا عليه باعراض من الرشوة ليخفف عنهم ، فقال لهم قولته الشهيرة
والله لانتم ابغض الخلق الي وجئتكم من احب الخلق الي ، ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له ان احيف عليكم ، فاما ان تأخذوا بنصف ما قدرت ، واما ان تكفوا ايديكم ولكم نصف ما قدرت ، فقالوا : بهذا قامت السموات والارض - أي بالعدل والقسط - وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه - صلى الله عليه وسلم - وخلافة الصديق وصدراً من خلافة عمر حتى اجلاهم عنها وفي سنة تسع وهي سنة الوفود , فكان يقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون وغير المسلمين فيلقون الجميع بالبر والاحسان كوفد نجران وغيرهم وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر ويفاوض في اسارى له فيأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستمع مفاخرتهم ويأمر من يرد عليهم من المسلمين ،وهذا اقوى دليل على عدم النسخ ، لأن وفداً يأتي متحدياً ومفاخراً لكنه لم يقاتل ولم يظاهر على اخراجهم من ديارهم ، وجاء في امر جارٍ في عرف العرب فجاراهم فيه - صلى الله عليه وسلم - بعد ان اعلن لهم انه ليس بالمفاخرة بعُث ، ولكن ترفقاً بهم واحساناً اليهم وتأليفاً لقلوبهم ، وقد كان فأسلموا.
وأخيراً أقول : هذا حكم الله تعالى ورسوله واهل العلم في وجوب التفريق بين المسالمين والمحاربين لما في ذلك من العدل والاحسان والقسط والتقوى كما قال الله تعالى : ((ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى)) وهذا أمر من الله تعالى للمؤمنين الصادقين المتقين ان يتحلوا بالعدل مع الخصوم والاعداء (والامر يقتضي الوجوب) فنسأل الله تعالى ان يجنبنا الظلم كله ظاهره وباطنه وان يجعل العدل جلبابنا والقسط سبيلنا والانصاف رايتنا والتقوى شعارنا والصلاح والاصلاح غايتنا والبر والاحسان لمن لم يحاربنا منهجنا والعداوة والبغضاء لمن حاد الله ورسوله والمؤمنين وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
منقول للفائدة