سأهبك غزالة لمالك حداد: شخصيات من أماكن مختلفة تدمج في لحمة سردية واحدة
أصيل الشّابي
(تونس)
I- تمهيد:
تبدو قراءة الأعمال السّردية المغربية في جانب كبير منها وضمن ما تشتغل عليه بما هي عوالم متخيّلة، إحالية صالحة للتأويل وإعادة التأويل، قابلة بشكل كبير للتداول على أنها ما يفهم في السياق الاتصالي، (1) بل إنه يمكننا الزعم بالاعتماد ـ طبعا على تلك الأعمال السّردية التي لم تكن قطّ انعزالية، بل أخذت على عاتقها جعل الآخر محورا للسّرد من خلال تخّيل الذات ومقاربتها - بأن المدوّنة المغربية مؤسّسة اتّصاليا بشكل لافت وحاد.
وهذه الظاهرة الاتّصالية في الأدب المغربي تنبئ بأن العمل الكتابي المغربي منضو إلى تمثيلية كبرى تتجاوز بكثير ما يفترض أن يكون أفقا مستقلا ومنعزلا للمغاربة إلى مجال للاتصالية الحثيثة يمثل ضمنها اختلاف الذوات المغربية والأوروبية وهو أمر في غاية التعقيد بالنظر إلى تلك التمثيلية القائمة على الاتصال، فقد أتاح الكتّاب المغاربة تقديم الفضاء على أنّه مجال ثريّ للتجاور والتنازع والتفاوض، وبالتالي تقديمه باعتباره ما يسمح بظهور فكرة: المتعدّد اللغوي والثقافي والفكري وهو ما يعاين لدى محمد ديب وإدريس الشرايـبي وكاتب ياسين وألبير ميمي، غير أن ذلك التعدّد يحوّل الأعمال السردية إلى فضاء إشكالي منتزع من إشكالية الفضاء الحقيقي. ويلاحظ - من ثم - ضمنه تكوّن هذا الذي يعرض بوصفه مجالا مثيرا للمختلفين وهو ذاته مجال المتجاورين، المتنازعين، المتفاوضين تعبيرا عن الاختلافات، ولكن أيضا تعبيرا عن التمثيل بما هو تقديم للذوات المختلفة.
من هنا تنشأ إشكالية التمثيل، وهي إشكالية كبرى ومحورية في علاقتها بالذات والآخر حيث يمكن تفكيك ذلك إلى تمثيلية للذات وتمثيلية للآخر في العمل السّردي المغربي الشاعر بأزمة الاختلاط.
ولا شكّ في أن هذا ينبّه إلى قيمة: تعزيز* هذا الطرف أو ذاك في الوسط السّردي، ممّا يجعل الكتابة في نهاية المطاف محطّ تنازع على التمثيليّة.
II ـ مجال التمثيل:
إنّ النظر في أعمال محمّد ديب وإدريس الشرايبي وكاتب ياسين والسّالمي وغير هؤلاء يمكّن من الوعي بأهميّة المجال الذي يشغله السّرد ويبسطه بواسطة أزمنته وأمكنته وشخوصه وأحداثه، مفضيا إلى التعرّف على ظهور ذلك المجال من حيث انفلاته إلى خارج الحدود الاجتماعية الخالقة، الحدود الاجتماعية التي تحدّد فيها الأشياء على أنّها ذاتيّة وانطوائّية، وبالتالي تشكّله على هيئة فضاء رحب مفارق للواحديّة ومشفوع إلى اختلافيته الكبيرة بالتّداخل، وهو تداخل بين التّكوين المحلّي وغير المحلّي، الدّاخلي والخارجي،الذاتي والدّخيل، الجنوبي والشمالي، الشّرقي والغربي، الفطري والموجّه.
ولا شكّ في أنّ هذا يعطي فكرة عن قضايا الفضاء، ولكن من الضروري الانتباه أيضا إلى أنّه يضمّ السّرد إلى سياق ساخن لتعاملات الفضاء فيما بينها، مؤديّا إلى قراءة تلك الأعمال بالصّيغة التي تدعو إلى تفكيكها للوقوف على تنوّعها. وهو تنوّع يبين عنه اختلاف المنتمين السّرديين كلاميّا وفعليّا وسلوكيّا، كما أنّ نفس ذلك التّنوّع يجبر عند القراءة على توسيع مجال المقروء ليصبح موازيا لمجال الفضاء السّردي، ومن ثمّ يحدث في مجال ذلك المقروء الوقوف على أهميّة المعنى المتمحور حول قيم الاختلاط والتّداخل والتّعدّد المعبّرة عن الصبغة التجاوزيّة للفضاء.
ولذلك فإنّ تجربة السّرد في " سأهبك غزالة "غير محدودة بالمعنى الاجتماعي، وإنّما هي مدرجة في سياق نحو فضائي أشمل تقرأ في ضوئه، وذلك النّحو يفترض- بوصفه دالاّ محوريّا - تركيبه وتتّبعه والانتهاء إلى مدلولاتها الهامّة، المدلولات التي تجعل السيّدة " دوروك" تقرأ مخطوط المؤلّف و" تكرّر في نفسها: كأنها لوحة! يا لها من فكرة غريبة!" (2).
يبيّن هذا المثال المستقى من "سأهبك غزالة" أنّ القيمة الجوهريّة للمعنى السّردي إنّما تعاين بما هي مشتركة بين السّارد الذي يطلع عنه المؤلّف ودوروك، بل إنّ تلك القيمة التي تؤسّس الكتابة من جهة وجودها الافتراضي كما من جهة السّيرة المخصوصة المسندة لها بالأوصاف والأبنية والسّياقات تظهر من حيث هي منجز لنحو الفضاء بصفة خاصّة، ذلك أنّه لو حذفنا أحد طرفي تلك العلاقة، العلاقة التي شقـّت سمتها بين السّارد والسيّدة دوروك لانخرم ذلك النحو منهيا السرد ذاته بفعل انتزاعه من خطّه الذي كتب بالفعل لتخيّله.
ويجب أن نتساءل ـ بالفعل - إذا كنّا نقدّر الفعل القرائي حقّ قدره: كيف استطاع السّرد في " سأهبك غزالة" أن يوازي بين السّارد ودوروك وأن يتحّدث عن الأمير " موريس" و" غردا" و" فرانسوا دي ليزيو" و" السيّد موزار" بالتوازي مع حديثه عن " مولاي" و" يمينة"؟ وكيف استطاع ان يطوّر تلك الموازاة بمرجعيات لا تنسى تاريخيّة وجغرافيّة مثل واقعة " فالمي" ( Valmy) ونشيد المقاومين الفرنسيين لقوّات الاحتلال الألمانية و" اللوكسانبورغ" (Le Luxembourg) ومثّل سلسة " تاسيلي اليزجر" الجبليّة في جنوب شرق الصحراء الجزائريّة... ثمّ كيف استطاع أن يوفّر ذلك الحشد الهائل للإعلام عن نفسه على شاكلة إشاراته الموحية إلى " كامو" Cmus و" سارتر Sartre و" بوردي" Bourdet و" فكتور هوغو" Victor hugo و" إيمي سيزار" Aom" c"sair؟
كما أنّه من الضروري التساؤل: ما الذي خوّل " جيزال دوروك" أن تدخل بعالمها الحافل والغنيّ بالمعاني والأشياء والأعلام عبر قراءة مخطوط المؤلّف، عالم الصّحراء، وأن تتوغّل فيه إلى حدّ قول السّرد: " واكتشفت ( جيزال) هذه القصّة كما يغسل المرء زجاج النّافذة، كان " مولاي" عاشقا، وكانت " يمينة" عاشقة. وكانت عاشقة " مولاي" (3).
إنّ ما نجده في " سأهبك غزالة" بوصفها سردا مغربيا بارزا ليس فقط ما تحقّق وكفى، بل - وبصفة عميقة - ما يجب البحث حثيثا في كيفيّة تحقّقه، ومن هذا المنطلق ربّما تنشأ للتّجاور في المكتوب المغربي أهمية خاصة وهي ذلك التجاور الحادث بين الشخصيات / المنتمين السرديين المعبرّين عن الكينونة السّرديّة الفضائيّة.
ولا بدّ من أنّ ذلك يفتح الباب واسعا للالتفات إلى البعد المجالي للشّخصيات التي يتمّ لمّ شتاتها من أماكن مختلفة لتدمج في لحمة واحدة للسّرد، تعبيرا عن خطّها الوجودي المحيل بما هي متعاونة على اختلافها ومتفاوضة على تصارعها ومتخاطبة على تنازعها، مفضية إلى الاطلاع على احتشادها في السّرد انطلاقا من السّرد وباعتبار تجاذب الفضاء فيه لتتكلّم في نهاية المطاف وعلى الأساس التي هي محكمة فيه ومحكمة به، محدثة في خصوصه اختلافية حقيقية وصحيحة بالمعنى التشخيصي للحضور الفاعل ضمن السّرد وهي اختلافية بين المحلّـي والأوروبي، بين الغربي والشرقي، الشيء الذي يدعو حقا إلى إعادة النظر نوعيا في بناء وصف للأعمال السردية المغربية بهدف الوقوف على حقيقة انشدادها إلى اختلافية فضائية كوكبية، وهذه الاختلافات الفضائية المتجاوزة لفكرة المجتمع المعزول، النائي، والتي تحيط بأهمية مفاهيم التجاور والتنازع والاقتحام... هي ما يسمح بتشكل قيمة قياسية لـ ( فكرة التمثيل).
III- جواهر المعنى:
يمكّن إنعام النظر في " سأهبك غزالة" من تطوير تعدد مجالات السّرديين / الشخصيات بشكل كبير ومثير، وهو تطوير ينجزه في الحقيقة السّرد ذاته بواسطة مقدّراته المعلنة والمكنوزة، ومن الطريف جدا أن السّرد يقوم منذ البداية على مثل هذا الكلام: " وضع المؤلف مخطوطه على طاولة عليها ممحاة فحاذى المخطوط الممحاة وكان بجانب الطاولة سلّة للمهملات. إن الموجود باق فالمماحي وسلال المهملات تترقب في خبث إتلاف المؤلف عمله بنفسه" (4) ليوقع في الفهم ) خطورة: الكتابة( من حيث هي قابلة للاندثار والكفّ عن الوجود وليوقع أيضا أهمية العلاقة بين المؤلّف وهي شخصية مغربية وجيزال دوروك تلك المرأة الفرنسية ومعالجة المخطوط، وهي علاقة في منتهى الدقة إذ عنها يطلع المخطوط / المولود أو لا يطلع، ويصحّ عنه أو العكس انتسابه ووجوده وتاريخه، ويدّل هذا على قيمة ( منتظرات السرد) من أحداث وتفاعلات وتعارف،... بالرجوع إلى تطّور علاقة المنتمين السّرديين وتقاطع مجالاتها، فكل ما تعلّقه الكتابة في أفقها مرتهن بـ: هل يتمّ الاتّصال بين هذا وذاك أم لا؟ و: هل يتمّ اتّصال بين مجال هذه الشخصية ومجال تلك؟ و: هل يتمّ اتّصال بين المختلق/ المتخيل هذا والمختلق / المتخيل ذاك؟
إنّ الاتصال بين الأطراف السّردية ينطوي على أنماط تكوينية هامة جدّا وموحية، وبالنظر إلى الفضاء تصبح هذه الأنماط مستعصية وغير متساهلة، وهذا يجعل الأحداث المكتوبة في غاية الحساسية، وهي حساسية يمكن التعرّف إليها في ضوء: ( المجاورة ) حينما تفترض حكاية ما جرى على انه قد جرى فعلا بين دفتي كتاب " وشعر المؤلف وهو يستمع إلى تلك الأصوات بما قد يشعر به الإنسان إزاء جاره، إذا كان جاره ذا كرم وكان كرمه مشوبا بشيء من حبّ الاطلاع. فقال المؤلف في نفسه لقد ( كوّن) الناس " الفرق الدولية بإسبانيا "( 5 ). حصل ذلك والمؤلف جالس يستمع إلى خطب المتكلمين حول الجزائر، ويستمع إلى اختلافهم عنه وتنازعهم معه تحت سقف واحد وضمن هواء واحد، الشيء الذي يحفّز الشخصية على تنمية نمطها التكويني الذي يشكّل لها نوعا من الحماية تصان لها ضمنها تصوراتها وتخيلاتها. من هذه الزاوية تتقدّم كل شخصية سردية على أساس امتلاكها لحقيقة معينة تنسل منها شيئا فشيئا على شكل انتزاع، فالسّرد هو الذي ينتزع من هذا وهو الذي ينتزع من ذاك ليعمل نفسه ويكون حقيقته هو.
وهكذا يحال إلى القراءة هذا التركيز على النمط التكويني فـ: جيزال دوروك " كانت تحب باريس لأنها كانت لا تخشاها وما حبّ باريس إلا الرضاء بها، لقد تعودت على باريس فكوّنتها باريس ( تكوينا ) " (6)، أمّا المؤلف فيكشف كلامه عن تكوينه إذ يقول: " كان للفظة ( أخلاق) على لسان المؤلف وزن وخطر، وكانت رائحتها رائحة خبز النخالة الأسمر، ذلك الخبز الصلب المغذي، ذلك الخبز المجيد ... " (7)، وهذا ممّا يجب تقديره لأن الشخصيات لا تتواجد معزولة عن نمط تكوينها وعن تصوراتها وتخيلاتها النابعة من ذلك النمط، بل إنه يجب القول: إنّ المعنى بما هو تعبير عن الذات لا ينشأ إلاّ بوصفه ما يشترك حوله هذا وذاك، ما يشترك حوله " المؤلف" و" دوروك" خصوصا. ولأن بين " المؤلف" و" دوروك" كما بين الشخصيات الأخرى اختلافات جوهرية، فإن الاتصال يصبح بمثابة المغامرة الفعلية لأنه لا يحدث في سياق اجتماعي فحسب، وإنما في سياق فضائي يدمج الأوروبي في المغربي والمغربي في الأوروبي، بل إن المسألة الأساسية هنا هي: كيف يصلح تمثيل كل طرف في هذا المناخ الاتصالي ( شديد الحساسية)، ( شديد التجاور)؟
وبمثل هذه الطريقة يصبح السّرد بحدّ ذاته ( مجالا للنضال)* في سبيل الدفاع عن طبيعة التكوين الذاتي للشخصيات إلى درجة أنّ كلّ شخصية تتحوّل في لحظة من اللحظات وعبر الكتابة إجمالا إلى ما يشبه الكائن الأسطوري الذي يهدد بابتلاع العمل الأدبي وإخفائه في مكنونه على أن مدخراته ملك شخصي خاص رغم أنه ـ في الحقيقة - متضمن لعالم كامل تعمّره شخصيات أخرى لها حدودها وخواصها. يقول السرد: " وصاح صائح: أطردوا من باعوا مستعمراتنا بثمن بخس" (8).
أفلا يمثل هذا وعي السّرد بأهمية فعل التنازع على الفضاء، إنه ـ تقريبا ـ ما يحاول أن يجسّده السّرد عن طريق قوله الهام: " وكانت جيزال دوروك بصدد انتظاره ( المؤلف) هناك لكي تخبره بأن دار النشر المسماة ( سيال دي باريز) قد قبلت أن تنشر كتابه ( سأهبك غزالة)(9). فمثل هذا القول يجعل ممكنا الاتصال بين " المؤلف" و" دوروك"، وهو في ما وراء ذلك يغطي على: ( نار التنازع) و: ( صعوبة التجاور).
إنّ أعظم قيمة يمكن اكتناهها في صورة علاقة " المؤلف" بـ " دوروك" هي ما يسمّى بـ : ( التداول والقدرة على إتيانه) إذ بفضل تلك العلاقة يطلع عالم " المؤلف" الصحراوي الجزائري المغربي على أنه قابل للتداول، وبالتالي قابل للفهم والاكتناه، إنّه عالم جدير بالمطالعة من قبل النفوس الباريسية الماكثة وراء البحر.
وهذا يمكّننا في " سأهبك غزالة" من التنصيص على قيمة التداول فهو الذي يحدث التمثيل والتمثيل المقابل، لأنه ما به يتحقق الاتصال والتناظر في المستوى الأساسي للسّرد، ولأنه يحقق تجميع التجاورات المتعددة في إطار واحد.
IV- الكلمة عن الشيء:
يحقّق النظر في " سأهبك غزالة" الوقوف على : التأليف بما هو الفعل الأساسي للتداول، إذ عن طريقه تثار المواقف الحاسمة والمرموقة بين المؤلّف ودوروك بشكل مباشر، وبين عالم المؤلّف والعالم الذي يؤلّفه " موزار"، " غرادا"، " فرانسوا دي ليزيو"، " السيد مورسي".... بشكل غير مباشر، كما أنّ ذلك يثبت قيمة ما يعبّر عنه في التأليف أي المخطوط أولا وقيمة ما يعبّر عنه حول ما كتب أو خطّ، دافعا مسألة ( التفكير حول) إلى الأمام، فدوروك إنّما تواجه في الحقيقة، نتيجة لعلاقتها بالمؤلف واتّصالها به واتّصاله بها، تعبيرا ما عن تقديم مخصوص للصحراء، عالم مولاي العاشق ويمينة العاشقة.
وهي، بوصفها كذلك، عرضة للتفكير حول ما يعرض عليها ومهيّأة، بالفعل، لـ ( تكوين نظرة) في مواجهة وجود الآخر. وهذه النظرة هي ما تؤسّسه الشخصّية، لأنّها تصدر عن تكوينها وتراعي مجالها، مجالها الذي تنعدم بانعدامه. لهذا فإنّ دوروك " قد جاءت إلى هناك ( في سبيله هو)" طلبا لتأسيس نظرة في خصوص المؤلّف ذاته.
إنّ انبهارها هو الذي يدفع بها إلى مثل ذلك الفعل، فهي حينما دنت من الكنتوار في خمّارة السيّد موريس تعجّبت لمنظر الغزالة، الغزالة التي يطاردها في المؤلّف مولاي ناذرا إيّاها ليمينة. وقد عبّر السيّد موريس من خلال شرحه للأمر عن مكنونها تقريبا فقد قال " إن اسم هذا الحيوان هو غزالة وليس معروفا بديارنا هذه بل أنا أتساءل هل أن هذا الحيوان موجود حتى بحديقة النبات والحيوان بباريس ..."(10). وما يستفاد من ذلك أن مدام دوروك والسيد موريس والأحياء الباريسية في حاجة حقا إلى الاطّلاع على أشياء جديدة تمثل دون ريب كشوفا ذات معنى، وهكذا فالتداول، في هذا الشأن أي كما في المخطوط وفي هيئة المؤلف، يتضمّن صلاحيات للمعرفة، وبالتالي يورده السّرد على أنّه ما يستحق، طبقا لغرابته وطرافته، أن يقدم وأن يصبح عرضة لجدوى السؤال. وتبعا لهذا فالغزالة ليست فقط ما يطارد من قبل مولايا، وإنما هي أيضا مجاز عن عالم الصحراء والمعرفة المطلوبة.
ويحاول السّرد في مقابل ذلك أن ينمّي قدرة دوروك ، ويبرز ذلك واضحا من خلال ما يسمّيه بـ ( نصيب الشخصية ) إذ نجد التالي: " لقد كان نصيبها في حياتها نصيبا يكفي بالضبط أو لا يكاد لكي تقول للناس صباح الخير، فيرّد عليها السلام، ولكي تستطيع مداعبة شعر ملائكي على رأس طفل كأنه أحد الأمراء جميل كجمال الصور على الرسوم المائية"(11) . يحاول السّرد من خلال فكرة التأليف أن ينمّي نصيب شخصية دوروك حتى تغدو منفتحة أكثر ومتقبلة أكثر، واعية بما لم تعِه ِ من الموجودات / الأشياء من قبيل الغزالة وهي ظاهرة أساسية انتظمت السّرد بجوهرية وطموح فيّاض.
إنّ عدم تنمية ذلك النّصيب الذي يسهل أن نكنّي عنه بـ ( أفق التفكير) معناه انغلاق الحدود الذاتية للمنتمين السّرديين وتحوّل الكتابة إلى اتصالات شائكة غير مهذّبة، قريبة من السّذاجة. فدوروك بفضل وقوعها في ( موقع للمداولة ) تدحر السذاجة دحرا، وهي بفعل ذلك مهيّأة لمعرفة أكبر ولوجود أرحب، إنها بلغة أخرى ( تتكون تكوينا إضافيا جديدا وجوهريا) وهي بذلك تبني ذاتها بالآخر عن طريق إخراجه من اللاوجود إلى الوجود.
ويجري بالاعتماد على ذلك عرض " المخطوط" لصورة ذات معنى ، لعالم ما يعمّره بالنسبة إلى دوروك وافدون جدد يردون سرديا تحت تسميات: مولاي / يمينة / الغزالة ، ولكن على أنّه، وهذا هام جدّا، معنى أساسي لدوروك ظلّت جاهلة به. يقول السّرد: " سأدخله مدينة ( تمقد) من باب تراجانوس وسيكون الوقت ليلا والبدر منيرا وسيكون الثلج ذا بريق فوق جبل شالية" هذا المقتطف السردي يوضّح أن الماضي نفسه، وليس الحاضر فقط، مؤلّف بوصفه مختلطا أي بوصفه مجمعا للاختلافات الفضائية فـ " تمقد" بلدة جزائرية مغربية إفريقية وفي أحشائها توجد مخلفات روما المعمارية وآثار أوامر الإمبراطور تراجانوس. ألا يعتبر هذا الاختلاط تزاحما ضمن الماضي البعيد على امتلاك الفضاء عبر التمثيل فيه؟ إنّ هذا تحديدا ما يجعل " دوروك" ليست غريبة تماما عن المخطوط، بل إنّها إذ تقرأ فيه تنشأ بينها وبين تاريخها مصالحة بعيدة الأثر، إنها تفهم أكثر، إنها تقترب بطريقة ما من ذاتها ومن تكوينها ذاك.
وفي مقابل ذلك يظهر المخطوط مثل لاحقة ضرورية لتسمية السّياق خصوصا في ما يخصّ الأفراد المتشوّفين اللذين يقعون تحت إضافاته المصيرية فالمخطوط هو ما يقرأ في ضوئه عالم " فرانسوا دي ليزيو " وعالمه وعالم فرانسوا هو ما يقرأ في ضوئه المخطوط. يورد السرد قولة فرانسوا التالية في حضرة المؤلف: " إن كتابك يا بني مكتوب له الرواج، أأنت سامع، نعم مكتوب له الرواج، وأنا احترم صحراءك فاحترم جوّي الآفاقي " (12).
هكذا.. المخطوط مثل كستيلة خروف أو إجاصة، مثل ذلك تماما عرضة في الفضاء المتزاحم للإعراض والإنقاذ وحتّى للفساد والتعفن، وإنّه لهذا تحديدا يجب أن يمثل نفسه على نحو من الأنحاء قبل أن يداس وقبل أن يقال عنه: ليس هذا ما يستحق التداول لسبب من الأسباب كما قالت السيدة ذات الرجلين البيضاوين: " إنّ ( سأهبك غزالة) كتاب من دون صور" ولكن السّرد لإنقاذ الحكاية يتعلق بأمثال فرانسوا ودوروك والسيد موريس لكي يظلّ ممكنا التداول.
V- النّفوذ:
رغم أنّ " سأهبك غزالة" تضع في المتناول إمكانية الفضاء الواسع حيث يفترض تبادل هائل بين أطراف هائلة، وحيث يفترض في النطاق الذي للاتّصالية الحثيثة نشوء تجاور حيّ لا مثيل له من جهة قابلية ( تلطيف التنازع) وإبداله في مواقع للمحاورة ضمن ما يتجاوز ( مجرد الاتصال) وعثراته اللانهائية إلى ( نحو: التواصل) رغم ذلك كلّه يتوضّح السّرد خاصة في نهايته على أنّه " مجال موضوع لممارسة النفوذ" باتجاه هذا وضدّ ذاك. يقول السّرد: " ولم تكن الصحراء عند صاحبنا قضية حياة أو موت ولا مسألة نخيل ورمال، وإنّما كانت عنده منطقة من مناطق النفوذ. وأمّا الغزالة فلم تكن عنده إلاّ حيوانا من ذوات الأربع قوائم. ولم يكن المهمّ سعر الكتاب بل محتواه" (13).
وبالتّالي فإن عالم مولاي ويمينة، عالم العشق ذاك لا قيمة له وفق هذا إذ هو في المنظور مجرّد عالم مملوك وواقع تحت اليد ومقدّر تقديرا من زاوية فضائية انفرادية، ولكنّ السّرد بواسطة وعيه ينقد تلك النظرة الغربية للغرب عموما بقوله: " ولقد رأى المؤلف ذلك الإنسان الذي اسمه أيّ اسم كان؟ ولعلّه رآه بمدينة ليل بفرنسا أو رآه بمدينة لوزان بسويسرا وكان سائما. فلم يكن اسمه بارزا البروز الكافي فكان قفرا ضيّقا كلّ الضيق محدودا غاية الحدّ". ويواصل: " كان قفرا مصنوعا في المصانع" (14). وبهذه الطيفية ترجع تلك النظرة المحدودة غير المنفتحة وغير المستوحاة إلى طبيعة تكوين الشخصية الناظرة وهو تكوين مقفر وحسير ممّا يجعل من قضية القفر غير متصلة فقط بالصحراء، وإنما هي على علاقة جوهرية بالصبغة البشرّية للأفراد النّاظرين، إذ أنّهم قد يصنعون في بيئتهم التي يزعمون اختصاصهم بها وبغيرها قفرا خاصا بهم يفتقر إلى وجود الآخر.
إن ما يعبّر عنه في خصوص المؤلف إنما هو طلوع الذات بوصفها مفاوضا عن ( الشعور العميق) لا مجرّد الاتصال وذلك عن طريق السّعي إلى التمكّن من المحاورة، وهو أمر واضح بصفة خاصة بين المؤلف ودوروك، وجعل الكلام فيها أساسيا حول عدم الاكتفاء بالظاهر. فالذات إذ تفاوض في صورة المؤلف لا تقدّم مخطوطا مكتوبا باليد وإنما هي تحاول أن تجعل ممكنا الإنصات إليها بالمعنى العميق، وهو ما يجعلها قابلة للفهم أي قادرة على إنتاج المعنى الدال.
إن هذه الفلسفة للفضاء تبين أنّ الكائن غير معدّ للملكية، وإنما هو بحاجة إلى الإيمان به أي جعله ( فكرة داخلية) تماما كما يحتاج المؤلف إلى تكوين فكرة داخلية عنه عبر المخطوط وعبر، وهذا جوهري، قراءته بطريقة تداولية تواصلية.
وهكذا فانّ الذات تفاوض لأجل بناء مفهوم للفضاء على أساس ( الحرية لا الاقتناص) فما يمكن الإيمان به لا يجب حدّه بالزجر، وإنما ينبغي، على شاكلة الغزالة استحضاره على أنّه معيش ( حيّ بحرّيته).
وبالتالي فإن مجال الذات لا يعارض فقط مجال الفضاء الاقتحامي، بل هو طريقة للمهادنة بين الذوات الكبرى الثقافية، بحيث لا ينظر إلى المرجعيات الهائلة على أنها أكداس إفحام، وإنما هي تراسل ضمن السياق ذلك أنّه ( لا سياق دون تراسل) في ما بين وحداته تماما كما في رقصة الفالس يتعذّر فصل الراقص عن الراقصة والراقصة عن الراقص.
الهوامش:
1. قسم من دراسة بعنوان (المعنى الاتصالي في الكتابيّة الفرنسيّة للمغاربة) ـ أصيل الشابــي ـ الصباح التونسيّة ـ 27 تموز ( يوليو) 1999.
2. " سأهبك غزالة" ـ مالك حدّاد ـ عرّبها المرحوم صالح القرمادي وصدرت في تونس سنة 1972ـ ص20
3. ن ـ م ـ ص 20
4. ن ـ م ـ ص 14
5. ن ـ م ـ ص 43
6. ن ـ م ـ ص 21
7. ن ـ م ـ ص 93
8. ن ـ م ـ ص 42
9. ن ـ م ـ ص 108
10. ن ـ م ـ ص 136
11. ن ـ م ـ ص 133
12. ن ـ م ـ ص 184
13. ن ـ م ـ ص 184
14. ن ـ م ـ ص 184
القدس العربي
8/14/2010
جهة الشعر