الحكمة في كتاب
اللَّـهِ نوعان: «مفردة ومقترنة بالكتاب»
قالَ الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة (ت: 751هـ) -رَحِمَهُ اللَّـهُ تَعَالَىٰ- في كتابه "مدارج السَّالكين": "فَصْلٌ: ومِنْ منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، منزلة الحكمة: قالَ اللَّـهُ تَعَالَى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ﴿البقرة: 269﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾ ﴿النِّساء: 113﴾، وقالَ عن المسيح عليه السَّلام: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ﴾ ﴿آل عمران: 48﴾.
الحكمة في كتاب اللَّـهِ نوعان: مفردة ومقترنة بالكتاب:
• فالمفردة: فُسِّرت بالنَّبوَّة، وفُسِّرت بعلم القُرآن، قالَ ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمَا: "هي علم القرآن: ناسخة ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله"، وقالَ الضَّحَّاك: "هي القرآن والفهم فيه"، وقال مجاهد: "هي القُرآن والعلم والفقه"، وفي رواية أخرىٰ عنه: "هي الإصابة في القول والفعل"، وقالَ النَّخعيُّ: "هي معاني الأشياء وفهمها"، وقالَ الحسن: "الورع في دين الله"، كأنَّهُ فسَّرها بثمرتها ومُقتضاها.
• وأمَّا الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السُّنَّة، كذلك قالَ الشَّافعي، وغيره من الأئمَّة، وقيلَ: "هي القضاء بالوحي"، وتفسيرها بالسُّنَّة أعمّ وأشهر.
وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: "إنَّها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل". وهذا لا يكون إلَّا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان.
والحكمة حكمتان: علميَّة، وعمليَّة.
• فالعلميَّة: الاطِّلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا قدرًا وشرعًا.
• والعلميَّة: كما قالَ صاحب المنازل: وهي وضع الشَّيء في موضعه، قالَ: وهي علىٰ ثلاث درجات: الدَّرجة الأولىٰ: أنْ تُعطي كلّ شيء حقَّه، ولا تعديه حدّه، ولا تُعجله عن وقته، ولا تُؤخره عنه.
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعًا وقدرًا، ولها حدود ونهايات تصل إليها، ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر؛ كانت الحكمة مُراعاة هذه الجهات الثَّلاثة، بأنْ تُعطي كلّ مرتبة حقَّها الَّذي أحقّه الله لها بشرعه وقدره، ولا تتعدَّى بها حدَّها فتكون مُتعديًا مخالفًا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتُخالف الحكمة، ولا تُؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعًا وقدرًا.
فإضاعتها: تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض.
وتعدي الحق: كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزَّرع ويفسد.
وتعجيلها عن وقتها: كحصاده قبل إدراكه وكماله، وكذلك ترك الغذاء والشَّراب واللِّباس: إخلال بالحكمة، وتعدّي الحد المحتاج إليه: خروج عنها أيضًا، وتعجيل ذلك قبل وقته: إخلالٌ بها، وتأخيره عن وقته: إخلالٌ بها.
فالحكمة إذًا: فعل ما ينبغي علىٰ الوجه الَّذي ينبغي في الوقت الَّذي ينبغي، والله تَعَالَى أورث الحكمة آدم وبنيه، فالرَّجل الكامل: مَنْ له إرث كامل مِنْ أبيه، ونصف الرَّجل كالمرأة لهُ نصف ميراث، والتَّفاوت في ذلك لا يحصيه إلَّا الله تَعَالَى، وأكمل الخلق في هذا: الرُّسل صَلَوَاتُ اللَّـهِ وسَلَامهُ عَلَيْهِمْ، وأكملهم أولو العزم، وأكملهم مُحمَّدٌ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولهذا امتنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وعلىٰ أمَّته بما آتاهم من الحكمة، كما قال تَعَالَى: ﴿وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾ ﴿النِّساء: 113﴾.
وقالَ تَعَالَى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿البقرة: 151﴾، فكلّ نظام الوجود مرتبط بهذه الصِّفة، وكلّ خلل في الوجود وفي العبد فسببه: الإخلال بها، فأكمل النَّاس: أوفرهم منها نصيبًا، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال: أقلهم منها ميراثًا، ولها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطّيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول، وَاللَّـهُ أَعْلَمُ".اهـ.
(["مدارج السَّالكين" / (2/478،480)])