عَرُوضِيٌّ بَيْنَ مُوسِيقِيَّاتٍ
(قصة تدريس عروض الشعر لطالبات الموسيقى)
(1)
​يختص قسم الموسيقى بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية من جامعة السلطان قابوس، بناحية نائية من الطابق الأعلى، لم آتِها من قبل هذا الأحد 28/9/2014، تفتح فيها الفصول أبوابها، ويتردد بينها الطلاب وأغلبهم طالبات، ليعزفوا على الآلات الموزعة عليها نَفخيّةً ووتَريّةً وإيقاعيّةً، أو يستمعوا إلى من يعزف؛ عسى أن يُطلِقوا نغمة، أو يُمسِكوا أخرى!
- ليس أثقل من رجل غريب!
تقول عيونُ طالبات مجتمعات في الممر، مستوليات على المنظر!
- ما أسعدَ حظوظَنا جميعا!
تقول عيني الباحثة عن رقم 2401، في لوائح الأبواب المفتوحة!
- نعم نعم، أنا أستاذ العروض.
- يا حظكن؛ أستاذ جديد!
قالت إحدى طالبات منفردات بالفصل، وذهبت.ليتني تأخرت قليلا؛ فهذه أستاذة روسية أعرفها، قد انتحتْ يسار الفصل تجادل طالبا غريبا بين الطالبات، ثم تذهب به، ولا دليل هنا على حدود المحاضرات، بفتح الباب أو إغلاقه!
- لا بأس، لا بأس!
فتحت حاسوبي، ووصلته بالعارض، وأذعت على الطالبات بعض موادي الخاصة الممتزجة فيها الفنون اللغوية وغير اللغوية؛ فلم يملكن أنفسهن بعدما انتهت أن صفَّقن تصفيقا!سلمتُ، وعرّفتُ، وتَعرَّفتُ.
- الآن الآن -يا بُنيّاتي- الآن الآن!لقد رغبت من قديم في العمل بكلية الفنون الجميلة، أو كلية التربية الموسيقية، أو معهد الموسيقى العربية، أو معهد الكونسيرفتوار- أُعلِّم موسيقى الشعر، وأَتعلَّم موسيقى الآلات والموسيقى النظرية، حتى تعود الموسيقى اللغوية وغير اللغوية سيرتهما الأولى، مِزاجينِ في شَرابي، ووَتَرين في عُودي.ولم أحظ بما رغبت إلا الآن!
(2)
- ما العَروض عندكن؟
- وزن الشعر.
- وقافيته؛ نعم فعروض الشعر وزنه وقافيته، وعلم العروض علم وزن الشعر وقافيته جميعا معا؛ ولهذا لم يُعرَف للخليل بن أحمد واضع العلم كتابٌ في علم القافية؛ فظُنَّ في مفقوداته التي لا تحصى، والحق أن القافية عنده مع الوزن في العروض، وعلمها مع علمه في علم العروض؛ وهو القائل في كتاب العين: "الْعَرُوضُ عَرُوضُ الشِّعْرِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ". وهو لا يقوم بوزنه دون قافيته التي يستقر عليها وزنه.ثم في الاشتغال بمفقوداته نظر، من حيث ينبغي أن نذكر أن الخليل بن أحمد أحد طائفة من العلماء -منهم أبو عمرو بن العلاء- ساء بالتأليف ظنهم، وأعجبهم تأليف طلاب العلم دون تأليف كتبه، فلما مات تداعى تلامذته: هَلُمَّ نُحْيِ عِلْمَ الْخَلِيلِ؛فأحيا سيبويه علمه بالعربية (النحو)،وأحيا الليث علمه بالغريب (المفردات)،وأحيا الموصلي علمه بالإيقاع (الموسيقى)،وأحيا الأخفش علمه بالعروض (وزن الشعر وقافيته)، ...،وأحيا غيرهم علمه بغيرها.
- العروض والموسيقى!
- نعم، يا بنياني!
- وما للعروض والموسيقى؟
- ما لهما؟ أيتُكن تعرف مَجمع بينهما؟
- الأنغام.
- هه!
- الألحان.
- ممَّ يتكون التعبير الموسيقى؟
- من أنغام وألحان.
- من أربعة عناصر: إيقاع، ولحن، وتوافق، وصورة؛ فاعلمن إذن أن العروض إيقاع خاص، وأن الإيقاع هو مجمع ما بين التعبيرين العروضي والموسيقى؛ وفي هذا ينبغي أن يكون مقال "الإيقاع بين العروض والموسيقى"، للدكتور يوسف شوقي. أتعرفنه؟
- وأنى لنا أن نعرفه!
- بل ينبغي أن تعرفنه قبلي؛ فلئن كان مصريا لقد انقطع هنا للموسيقى العُمانية حتى جمع موادها، وأصل أصولها، وأسس مركزها!
- نعم نعم، أعرفه؛ لقد أحالنا على أعماله بعض أساتذتنا.
- الله أكبر! بارك الله فيكِ -يا بُنيّتي- هلا تفضلتِ علي بها؛ عسى أن يكون منها مقاله ذاك "الإيقاع بين العروض والموسيقى"!
- أفعل، إن شاء الله!
- رحم الله الدكتور يوسف شوقي؛ أيَّ رجل كان!نعم؛ لقد كان عالم الحفريات بقسم الجيولوجيا من كلية العلوم بجامعة القاهرة، وعالم الموسيقى العربية الفذ، والأديب الأريب الذي أوتي الفهم عن قدامى الكتاب العرب، حتى تولى تحقيق كتبهم، ولم تَتعاظَمْهُ ضخامتُها ولا قدامتُها -نعم- وأحد كبار الموسيقيين الذين أقاموا بالقاهرة مؤتمر الموسيقى العربية العالمي الوحيد الخالد سنة 1932! ويا ما كان أعظم بهجة عمي هو وزملائه بقسم الجيولوجيا، حين علموا أنه سيدرس لهم؛ فتطلعوا إلى اختبار ما قدَّروه فيه، ويا ما كان أعظم اكتئابهم حين علموا أنه قد اعتذر باشتغاله!
ولم يكن لمثله أَلَّا يكون في أصحاب محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا! نعم؛ حدثنا الدكتور محمود محمد الطناحي أنه دخل بيت الأستاذ شاكر، ثم توصل إلى مُنتَحاه؛ فإذا به قد اجتمع هو والدكتور يوسف شوقي والدكتور عبد الله الطيب المجذوب -رحمهم الله جميعا، وطيب ثراهم!- يتنازعون تمثيل رموز الأصفهاني الموسيقية في كتابه الأغاني -أظنها التي من مثل: "من الخفيف الأول والثاني...، بالوسطى في مجرى البنصر..."- فهاله جبروت تفكيرهم؛ فولى عنهم!ولقد رأيت لذلك -يا بنياتي- أن أبدأ بما كنت أنتهي إليه إذا درستُ علم العروض لطلاب قسم اللغة العربية وآدابها، كلمتي هذه "لولا الغناء لم يكن الشعر، ولولا المغني لم يكن الشاعر"؛ فلديكن من المعرفة الأولية ومن الأريحية الفنية، ما يغنيني عن طول التلطف في التأتي إليها.(3)
- في طفولتي -يا بنياتي- أدركتُ أثرياء قريتنا يدعون إلى إحياء أعراسهم الشاعر فتحي، الذي لم يكن غير مُغنٍّ يقص عليهم بغنائه من سير الصالحين والفرسان والعشاق. ولقد كانوا فيما سمَّوه به، على أصل أصيل؛ فلم ينبع الشعر والغناء في أول الزمان إلا من منبع واحد، ولم يصدرا إلا عن إنسان واحد (امرئ، أو امرأة)، كان هو الشاعر والمغني جميعا معا، أُوتِيَ من وَعْي الجنان وظَرْف اللسان ما اضطره كلما بَرَّحَ به شأن من شؤونه، إلى أن يصدح بالتعبير عنه؛ فمن سمَّاه المغني كمن سمَّاه الشاعر، إلا من يسميه الشاعر المغني؛ فهو أصوب رأيا، وأنفذ بصرا.
ومثلما تدرجت أحوال الإنسان من قديم إلى حديث، تدرج صُدَاح هذا الشاعر المغني:
- من صُدَاح بترديد أصوات لا معنى لها،
- إلى صُدَاح بترديد كلمة واحدة ذات معنى واحد،
- ثم صُدَاح بترديد جملة واحدة ذات فكرة واحدة،
- ثمت صُدَاح بترديد جمل مختلفة ذوات أفكار مؤتلفة.أتعرفن سر نشأة فن الأوبرا الموسيقي؟
- ما هو غير صراخ غريب!
- إن هذا الصراخ الغريب -يا بنياتي- مذهبُ بعض الموسيقيين في مراجعة ذلك الصداح الأول! ألم تسمعن كيف يفكك الجمل ثم الجملة ثمت الكلمة توصلا إلى الصوت! إنه يريد رد هذه الأَصْدِحَةِ بعضها على بعض رجوعا إلى ذلك الصداح الأول الذي يراه شعار الحياة الطريئة البريئة الشفيفة العفيفة!ومن طرائف ما تداوله علماء الشعر العربي القدماء في نشأة الشعر العربي أن رجلا سقط عن بعيره على ذراعه فجعل يصرخ: وَا ذِرَاعِي، وَا ذِرَاعِي، وَا ذِرَاعِي؛ فطرب له صحبه، وحنت إليه إبلهم، وكأنه كان هو شاعرهم المغني الأول! وأطرف من الخبر نفسه أن يستشهد به بعض العروضيين العرب المعاصرين على أصالة بحر الرمل وتفرع غيره عنه؛ من حيث تتزن عبارة "وَا ذِرَاعِي" السابقة على "فاعلاتن (تفعيلة بحر الرمل)"!
لاريب لدي في أن القصيدة الأغنية التي نعرفها، لم تنشأ إلا في الصداح الرابع، الذي استطاع به الشاعر المغني أن يردد جملا مختلفة التراكيب مؤتلفة الأفكار على همه الواحد، بعدما وقف في الصداح الثالث عند ترديد جملة واحدة، وفي الصداح الثاني عند ترديد كلمة واحدة، وفي الصداح الأول عند ترديد صوت واحد.ولكن ينبغي أن نذكر أن لاكتمال صيغة الكلمة من الصداح الثاني أثرا كبيرا في تطوير الوزن العروضي، ولاكتمال الجملة من الصداح الثالث أثرا كبيرا في تطوير التقفية العروضية؛ فكما ظهرت الأوزان المختلفة بترديد الكلمات المختلفة الصيغ، ظهرت القوافي المتَّحدة بترديد الجملة الواحدة.(4)
- ترى -يا بنياتي- ماذا كانت معازفُ الشاعر المغني الأول؟
- لم تكن له معازف!
- بل كانت أوتارُ حنجرته الصوتية هي معازفَه الأولى، يُقلِّدُ بها ألحان الكائنات من حوله.
- أهذه هي معازفه!
- ثم ربما ضعف عن ذلك؛ فاستعان من أدوات حياته بما يعوض ضعفه: قَصَبةٍ ينفخ فيها فتترنَّم مثل عصفورة، وقِرْبةٍ ينقرها فتهدِل مثل حمامة، وقَوسٍ يشد وترها فتحن مثل قُمْريّة.وقليلا قليلا في الزمان الطويل بعد الزمان الطويل زادت المعازف، وجادت، واستقلت بأهلها الذين صاروا يجدون من يستمعون إليهم وحدهم؛ فيجتهدون لهم فيما يطربهم، حتى ابتدعوا أجناسا وأنواعا كثيرة مختلفة متزايدة من التعبيرات الموسيقية. وبقي للشاعر ما انتهى إليه غناؤه شعرَه قبل أن تستقلَّ بموسيقاه آلاتُها، من خصائص عروضية (وزنية، وقافوية).
- كأنك اطلعتَ على الغيب!
- بل اطلعتُ من روايات الأصفهاني على خبر أبي النضير الذي دخل عليه الموصلي مجلسه فوجده يغني مثلما يقطع الخليل بن أحمد البيت تقطيعا عروضيا؛ فقال له فيه؛ فقال: هَذَا الْغِنَاءُ الْقَدِيمُ!
- كيف هذا؟
- مثل غناء ميحد حمد مغنيكم البدوي المعروف، ومثل غناء صوفية صعيد مصر بردة البوصيري!
- أين ذاك من هؤلاء!
- لقد مررت بموقف سيارات مدينة ملوي من محافظة المنيا بصعيد مصر؛ فسمعت مسجَّل غناء البردة:
أَمِنْ تَذَكْ/ كُرِ جِيـ/ رَانٍ بِذِي/ سَلَمِ/ مَزَجْتَ دَمْـ/ عًا جَرَى/ مِنْ مُقْلَةٍ/ بِدَمِ/أَمْ هَبَّتِ الرْ/ رِيحُ مِنْ/ تِلْقَاءِ كَا/ظِمَةٍ/ وَأَوْمَضَ الْـ/ بَرْقُ فِي الظْـ/ ظَلْمَاءِ مِنْ/ إِضَمِ/يقف المغني على أواخر الأجزاء وقفات منغومة، تزداد في أواخر الأبيات سَحْبةً هابطة حزينة. أما ميحد حمد فقد كان سائقي العمانيُّ مفتونا بشريطه "الحواس الخمس"، الذي جرى فيه بلهجته العامية، على وتيرة واحدة واضحة من الغناء العروضي!
- ثم سلك الشاعرُ بلغته وعروضه مَسلكًا، وسلك الموسيقيُّ بآلاته ومقاماته مَسلكًا غيره، وتباعدت الشُّقَّةُ حتى استحال علينا تصديق ذلك الأصل الذي ذكرتُ؟
- نعم، ولكن بقيت الموسيقى على بال الشاعر، والشعرُ على بال الموسيقي، يتشوَّف كلٌّ منهما إلى مآلاتِ قَرينِه، ويتطلع إلى مُناصاته، حتى إذا ما قام قائمُ الغناء، واجتمعا هما والمغني جميعا معا- تَواضَعَ كُلٌّ منهما للمغني.
- يتواضعان للمغني!
- نعم؛ فللغناء شعره وموسيقاه المناسبان، اللذان يتحرى فيهما الشاعر والموسيقي كلاهما أن يَتخفَّفا من كنوزهما الثقيلة العويصة، ويكتفيا بما يتحمله المغني. ولو تَأمَّلَا لوجدا أنهما قد راجعا حال جَدِّهما الواحد الأول الشاعر المغني!
- آه شَوْقًا إليه!
- تَشْتَكِي مَا اشْتَكَيْتُ مِنْ أَلمِ الشَّوْقِ إِلَيْهَا وَالشَّوْقُ حَيْثُ النُّحُولُصدق أبو الطيب!
- وماذا يرضيك؟
- أن تُنصِتْنَ إليَّ أقرأ كلمتي هذه التي أجملتُ لكنَّ فيها ما سبق كلَّه إجمالَ حَريص طَروب، وأن تقرأنها أحسنَ قراءة وتكررنها أوفى تكرار حتى تحفظنها؛ فمن حفظتها فلها خمس درجات كاملة:
لقد نشأت الموسيقى وعَرُوض الشعر نشأةً واحدة؛ فكان المغني الأول إذا شغله أمرٌ من الحَزَن أو الفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى، يُلَحِّنُها من سِرِّ نفسه تلحينًا يُمَثِّل مَشاعرَه ويُهَدْهِدُها. ثم صار يُدَنْدِنُ الأصوات مُركبةً في كلمةٍ ذاتِ معنى، فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن كلماتٍ مختلفةً مؤتلفةً في جملة واحدة -وعندئذ كان البيت من الشعر- فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن جُمَلا مختلفةً مؤتلفةً -وعندئذ كانت القصيدة- فهو ينتقل من بيتِ الجملةِ منها إلى بيتِ الجملةِ باللحن نفسه؛ فإذا الأغنيةُ (القصيدةُ) دوراتٌ متشابهاتٌ لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، تَضْبِطُها قَرَارَاتُها (قَوَافِيها).ثم نشأت الآلات، فاسْتَقَلَّتْ بالموسيقى عن عروض الشعر، ومضى كُلٌّ في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن بَقِيَتْ صِلَةُ الغناء الواصلةُ، تَحْمِلُ الموسيقيين والشعراءَ جميعًا معًا، على أن يجتمعوا على لُغَةٍ سَواءٍ، وعندئذ يُراجعون ذلك الأصل البعيد؛ فتَلْتَبِسُ أنغامُ الموسيقيِّ بتفعيلاتِ الشاعر، والبَحرُ العروضيُّ بالمَقامِ الموسيقيّ، وتتفجر اللغةُ السَّوَاءُ، ويتجلَّى خِصْبُ تَوْظيف العَروض تَوْظيفا موسيقيًّا! (5)لَوْلَا الْغِنَاءُ لَمْ يَكُنِ الشِّعْرُ وَلَوْلَا الْمُغَنِّي لَمْ يَكُنِ الشَّاعِرُ
- تأمَّلْنَ -يا بُنياتي- هذا البيان العروضي، ألا تُشبِّهنه من عملكن بشيء؟
- بلى؛ إنه كالبيان الموسيقي!
- الذي يسميه موسيقيو المصريين "النُّوتة الموسيقية"؟
- نعم.
- أحسنتِ -يا ابنتي- أيَّما إحسان، أحسن الله إليك وإلى من علمك! وهذا مُنتهى ما أرجوه منكن لهذا المستوى، أن تُخرِّجْنَ في علم العروض وزنَ أية قصيدة وقافيتَها هذا التخريج؛ فأَنْصِتْن.
- كأنك أغربت!
- لَئِنْ أغربتُ لقد وقعت لكن على كنز نفيس؛ فجلوته مثلما تجلى المرآة، لترين في مرآته أعمالكن العروضية، مثلما ترين في مراياكن أعمالكن غير العروضية!
- وماذا في هذا الكلام الوحشي العُكلي؛ إنما يعرف الوحشيَّ من الكلام الوحشيُّ من الناس!
- لولا استبدالُنا به ما استوحشنا منه؛ فإذا أزلنا عنه حجاب استبداله ذقناه فعرفنا نَفاستَه، ولا والله لا تَجِدْنَ مثل حديث هذا العكلي عن معالجته نظم الشعر، ولا في شعر جرير والفرزدق والأخطل "لَات الشِّعْر وعُزَّاه وَمَنَاته"!ألا ترين كيف قال: "أَبِيتُ" ليدل على طول إسهار عينه والناس نائمون، و"بِأَبْوَاب" ليجعل نفسه كالمتجسّس المتحسّس، و"أُصُادِي (أخادع)" ليدل على طول المراقبة، و"سِرْبًا" ليدل على همته البعيدة، و"مِنَ الْوَحْشِ (غير المستأنس) نُزَّعَا (غريبة)" لينبه على أن السرب شموس عصي شديد الإباء أي أن مراده من الشعر أصعب من مراد غيره، و"أُكَالِئُهَا (أراعيها، وأتابعها)" ليدل على حسن سياسته لها، و"حَتَّى أُعَرِّسَ (أنزل عن ركوبي فأرتاح)" ليدل على أنه لا ييأس حتى يتمكن منها، و"بَعْدَمَا يَكُونُ سُحَيْرًا أَوْ بُعَيْدَ (يبلغ الوقت أن يكون قبيل الفجر أو الفجر)" ليدل على أنه يشتغل بمراده عن الدنيا وما فيها، و"فَأَهْجَعَا" ليدل على أنه لو لم يتمكن من صيده ما التقى له جفنان ولا رقد جسم، ولَبَقِيَ ساعيًا ما بَقِيَ واعيًا!
- الله الله الله!
- أجل؛ هكذا ينبغي أن تقلن؛ فللَّه لا لغيره دَرُّهُ، ما أَشْعَرَه!
- وهذه التقسيمات كيف صنعتَها؟
- ألا تسألن لماذا ثم ماذا، حتى تسألن كيف وما شئتن من أسئلة!
- فلماذا إذن، ثم ماذا، ثمت كيف، ثمت متى، ثمت لا ثمت!
- ستتعلمن قريبا -يابنياتي- تأسيس تخريج أية قصيدة في علم العروض، على تصحيح أدائها اللغوي وأدائها اللحني.
- اللحني!
- نعم؛ فمثلما ينبغي لكنَّ عند تخريج أية قصيدة ألا تخطئن في شيء من لغتها، ينبغي ألا تخطئن في شيء من تلحين أدائها بما أعلمكن، ولاسيما أن تُميِّزْنَ بوقفاتٍ صاعدة أو هابطة مناسبة، بين أبياتها وأشطار أبياتها وتفعيلات أشطارها، هذه التي مَيَّزَتْها أقسامُ البيان. ولو خُيرتُ لاخترتُ التسجيل الصوتي، فأمَّا وقد اضطررنا إلى التسجيل الكتابي فلا بأس بتسكين تلك الأقسام في عيون مجدولة، ثم إخفاء حدود الجدول، لتبدو أقرب إلى الوجود الطبيعي الحر.
- ولكن ما هذان الخطان تحت "نُزَّعَا" و"أَهْجَعَا"؟
- هذان تنبيهان على قافيتَيْ بيتَيْهما.
- أهذا المقداران فقط هما القافية، وقد حفظنا:
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ الْقَوَافِي فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي؟
- رحم الله مَعْنَ بْنَ أَوْسٍ الْمُزَنِيَّ (ت: 64 هجرية)، وهو مقطع قطعته في أخيه "لَعَمْرُ أَبِي رَبِيعَةَ مَا نَفَاهُ"، وقبله:
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اسْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِيعافاكن الله -يا بنياتي- من ظلم العقوق​​
-فإنه معجَّل العقاب- وألهمكن الصبر حتى تعرفن من مسائل القافية، كيف اختلف الناس في كنهها -وما زالوا- فلا تتعجلن!
- وهذه العبارة المنثورة من تحت؟
- هي أشبه شيء بكتابة بيانات صاحب البطاقة الشخصية عن يمين صورته؛ ذلك التخريج التطبيقي بمنزلة الصورة، وهذا التخريج النظري بمنزلة البيانات؛ فكما لا تكتمل البطاقة ولا تُعتمد إلا بالصورة والبيانات جميعا معا، لا يكتمل التخريج العروضي إلا بالتطبيق والتنظير جميعا معا.