فاروق شوشةرحمه الله وطيب ثراهالمثقف الكبير والوجيه الباهر والشاعر الوسط
=================لمحمد جمال صقرما زلت أذكر أنني كنت أنتبه أواخر سبعينيات القرن الميلادي العشرين، إلى براعة فاروق شوشة في محاورة ضيوف أمسيته الثقافية حتى ليكاد يستولي دونهم أحيانا على البيان، وإلى قول أمي -رحمها الله، وطيب ثراها!-: "الراجل دا ما بيسيبش حد يتكلم"! فأما برنامجه الإذاعي "لغتنا الجميلة" الذي صار اسمه على كل لسان وفي كل مكان، فقد كان باب مغارة "علي بابا" المسحور الذي ينفتح بصوته الضخم الرخيم الفخم؛ فتنثال انثيالا جواهر الأدب العربي المبين!لم أكن أظن أنني سأتحول عن طريق العلوم الطبيعية إلى طريق العلوم الإنسانية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، التي تخرج فيها فاروق شوشة قبلي بثلاثين عاما تقريبا، لأحضر في الطلاب المحتشدين بمدرج علي مبارك، محاضرة توجيهية عارضة، حفزنا فيها محاضرها إلى محبة الكلية والاجتهاد فيها والصبر عليها، بتعليقنا بصورة فاروق شوشة أشهر خريجيها وأبهرهم -وكان هو عرفة عبد المقصود المعيد بقسم النحو والصرف والعروض، رحمه الله، وطيب ثراه!- لأجد قصيدته "يقول الدم العربي" ب"قراءة الشعر" كتاب أستاذنا الدكتور محمود الربيعي، الذي درسناه عليه في السنة الثالثة!ثم رأيته مرارا في الأمسيات الشعرية، ولاسيما بمعرض القاهرة الدولي للكتاب مع رفيقي أمسيته الدائمين فاروق جويدة الصحفي المصري وسعاد الصباح الأميرة الكويتية. وما زلت أذكره في إحداها يقدم قصيدته "مهرجان العبير"، بقوله: دُعيت إلى مهرجان شعري كويتي؛ فاهتممت له، ثم لما حضرت وجدتني الرجل الوحيد في جمع من الحسان المشاركات؛ فقلت من وقتي هذه القصيدة!ثم لقيته بمكتب الدكتور عبد الفتاح عثمان وكيل كلية دار العلوم مدعوا إلى أمسية شعرية، والطلاب بمدرج علي مبارك محتشدون صاخبون، والدكتور عبد الفتاح يسأله أن يذهب إليهم ليهدئهم؛ فيقول له: لا، بل لو ذهبت لازداد هياجهم؛ فيبتسم الدكتور عبد الفتاح معترفا للنجم بوهج سطوعه!ثم لقيته بمكتب عميد كلية دار العلوم أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن -رحمه الله، وطيب ثراه!- أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين، مدعوا بعقب أحد اجتماعات مجلس الكلية الذي كان أحد أعضائه الدائمين، إلى حلويات منمنمات، أبى أن يصيب منها قائلا على بديهته الحاضرة: لا صغيرة مع إصرار! ويسأله الدكتور محمد بلتاجي: أصحيح أن نزار قباني يكتب لسعاد الصباح شعرها؛ فلا ينكر، ولكنه يذكر بعمل ذلك صالح جودت -رحمه الله!- ثم يستطرد إلى أمثلة عجيبة من سرقة القصائد والتقدم بها إلى الجوائز! ثم جرى ذكر أحمد عبد المعطي حجازي الذي استضافه بأمسيته كثيرا بعد رجوعه من فرنسا؛ فقال: إنه يشعرك بأنه هو المثقف، وأنك يجب أن تسمع له وتتعلم منه!ثم لما احتفلنا عام 1993، بعلي مبارك باشا مؤسس كلية دار العلوم احتفالنا الكبير، وقدمتُ أمسيتنا التاريخية (http://mogasaqr.com/?p=3243)- رتبتُ الشعراء ألفبيًّا، واصطنعت لكل منهم بيتين من مشطَّر الرجز، أدعوه بأحدهما، وأحييه بالآخر، فقلت في فاروق شوشة:سابقت بين صوته وشعرهْفسبقا فنحن طوع أمرهْهاءتْ لك استمع حنين الدارِفإنها في العشق لا تداريأشيرُ إلى ديوانه الصادر عندئذ "هِئْتُ لكِ"!ثم لقيته أواخر التسعينيات بأحد مواسم جامعة السلطان قابوس الثقافية محاضرا بقاعة مؤتمراتها، يذكر أن حياة العربية من حياة العرب، ويمثل بكلمة "انتفاضة" التي بدماء الفلسطينيين دخلت لغات العالم كما هي!رأيته في تلك المواقف وغيرها، فلم أر إعلاميا يَفري فريَّه! نعم؛ لقد احترف فاروق شوشة العمل الإعلامي، ولكنه احتمى من سخافاته ومهازله بالتثقف المنهوم، ولاسيما أنه كان مضطرا إلى تحصيل ما يبثه ببرنامجه الإذاعي وما يحاور به ضيوف برنامجه المتلفز، حتى لقد تطلع إلى استضافة محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- فأبى عليه بأن فاروقا لا يعرفه، ودعاه على كرمه إلى بيته، فكأنما كان في هذا اللقاء ما أغنى كلا منهما عن اللقاء المتلفز!لقد سطع نجم فاروق شوشة مبكرا بما أوتي من وسامة وأناقة وأبهة وثقافة وطلاقة ولباقة وفخامة، حتى كان لقاؤه أمنية المتمنين أيا كانوا! وانفتحت له المنابر العلمية والتعليمية والفنية والتثقيفية طوال عمره، حتى سخط عليه بعض المتطلعين ممن لا ذكر لهم معه! وحظي شعره بذلك كله عند متلقيه متثقفين ومثقفين وعلماء؛ فلم يستطع أحد أن يرد شفاعة مواهبه المختلفة في شعره!نعم؛ فشعره على وجه العموم وسط لا رديء ولا جيد، لم ينبع عنده من فذاذة أهواء ولا تجارب ولا تعبيرات، ولاسيما إذا وُوزِن بشعر أمل دنقل مجايله الذي فضَّله فاروق على نفسه وهو أسبق منه إلى مجموعته الشعرية الأولى. ومن تأمل اللقاء المتلفز الفريد الذي اجتمعا فيه هما وعبد الرحمن الأبنودي، وقف على فرق ما بين الشاعر الكبير الآسر والشاعر الوسط الأسير!لقد أصاب الدكتور عرفة عبد المقصود -رحمه الله، وطيب ثراه!- حين علقنا بمثال فاروق شوشة في أوليتنا بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة؛ فقد ظل طوال حياته كبيرا نزيها كريما رفيعا، يتشرف به الدراعمة وسائر المشتغلين باللغة العربية في كل مكان. وفي عزائه اجتمع المفترقون على حسن ذكره؛ فكأنما انتظم بهم في مماته من الشعر الجيد ما لم ينتظم له في حياته!