أسعدت حزنا أيها القلب
هشام بن الشاوي
مساء خريفي يرتعش تحت برد ديسمبر، أغادر المكتبة حاملا صحيفة لندنية تستريح بين طياتها مجلة ثقافية لبنانية (هل تعمدت إخفاءها؟ ولماذا؟ !) نلتقي عند المدخل، يرى إلي ابن الجيران- شبه مصدوم.. لم يكن يتوقع أن يكون البناء مهتما بقراءة الصحف والمجلات.. أرنو إليه في ازدراء، وأتمنى في قرارة نفسي أن أبصق في وجهه، وهو.. يحدق في اسم الجريدة المهجرية..
أدس بركاني الخامد تحت ثيابي مثل مهرب، وجيش أنوثة فوارة تسيح على الإسفلت.. جيش يهوى استعراض مفاتنه الخلفية في كل الفصول. حتى غدت مؤخرات فتيات هذه المدينة –البغي... أجمل من وجوههن !!!
***
يرن جرس المنبه في إصرار عنيد يسلبني من لذة النوم. أقفز من فوق فراشي كالملذوغ، العقارب تشير إلى الساعة الأولى بتوقيت شقائي اليومي المغبر.. الساعة السابعة صباحا.. أقفز من فوق فراشي، وكل فقرات عمودي الفقري مفككة.. وككل صباح ألعن هاته المهنة التي لم أخترها.. وقد اعتاد رفاقي أن آتي إلى الورش بوجه متجهم، ولا ألقي عليهم تحية الصباح. يقولون أني "ابن أبي" ! لكني أكره "تكشيرة" هذا الوجه العابس دوما.. الذي حرم على تقاسيمه أن تعلن فرحها في عيني..
وأفضل أن يوقظني رنين جرس المنبه على نشيد أبي الصباحي القاسي.. بصوته الجهوري.
أسعدت حزنا أيها القلب. فلا أحد يولد "مشوها" نفسيا.. !!
***
ليتني مت قبل أن تصلني رسالتك، يا قاسم !
بكيت في حرقة، وبلا دموع.. غب قراءتي رسالتك التي أطفأت لهفتي وشوقي إلى بضعة دولارات مجلتكم النفطية لأرمم بعض أطلالي الجوانية... آه، لو تعرف أن الأستاذ المحترم بناء !!؟؟
لم يكن بكائي الجاف من أجل المال المفقود، وإنما من أجل هذه الصفة الكريهة التي التصقت بي كالجرب..
إهانة أن تكون بناء، وكل الأحلام المزهرة تنبت في حديقة قلبك !!
***
مساء مغربي.. لا طعم ولا لون له.
بعد ساعات عمل شاق طويلة كرحلة إلى الجحيم. تحت شمس غبية لاهبة.. مثل حمار الساقية، الذي لا يملك غير الرضوخ لسيده ، حمار يضيق بشهيقه وزفيره !!! على الأقل، هذا الحيوان المغبون يتخلص من إرهاقه غب تمرغه في التراب.. وأحسد أولئك الذين يتمرغون بين أحضان امرأة رخيصة.. يدفنون أحزانهم بين فخذيها .. بعد رحلة جحيمية.
أجرجر قدمي في خطوات متكاسلة. أفكر في كل شئ ولا شئ.. والحزن معسكر أمام بوابة الحديقة الغناء.. على مقربة من النادي أسمع ارتطام الأثقال اليدوية.. أفتح الباب، ويلفحني هواء رطب ساخن.
***
لا أحد غيري يخرق قواعد البرنامج التدريبي.. لأني غير مستعد نفسيا بسبب الإرهاق المزمن، كما يوضح مدربي للرفاق. يقول لي: عضلات جسمك منحوتة، ولكنها ( وما أقسى هذه الـ(لكن) !!) تحتاج إلى زيادة الكتلة العضلية، وهذا لن يتأت بدون زيادة الوزن التدريبي.. تبا لهذه الجسد العاق. لحم بدون شحم. العمل اليومي يستنزف طاقتي، ويجهد حتى عضلات وجهي الثلاثة عشر، فأغدو غير قادر على الابتسام.. أقف قبالة إحدى المرايا المثبتة على الجدار المواجه للباب.. أفكر في تكثيف تمارين الذراعين.. البـايـسـبـس، التريـسـابـس وعضلات الساعد.. لابد أن أتمرن حتى ينشب ذلك الحريق في العضلة، فأستشعر هذا الألم البناء في الليلة التالية في العضلة التي ستستفيد من التمرين، فبدون هذا الألم لن تتكاثر الخلايا.. أما باقي عضلات الجزء "الطوباوي" من جسمي فأدعها لحصص أخرى.. والساقان والفخذان فنادرا ما أكترث لهما، وأعلل ذلك في سري أني لست من مرتادي الشواطئ .. !!
***
أختار مكانا قصيا عن الرفاق. وأنا صائم عن الكلام.. أجلس إلى جهاز شاغر. آخذ جرعة ماء، أضع القارورة البلاستيكية والحزام الجلدي العريض جانبا.. يشرد لبي. يتناهى إلى مسامعي صوت المدرب يحدث متدربين جددا عن القواعد الثلاث للنجاح في رياضة كمال الأجسام:
* التدريب الجيد.
* الراحة.. راحة البال والبدن.
* "العلف" !!
أمام المرآة يقف أحدهم، وقد تجرد من ثيابه المبللة عرقا.. يستعرض عضلات صدره وكتفـيه، ثم يستدير ويلقي نظرة جانبية على فخذه وظهره.. وتسري همسات حاقدة تتهمه بتعاطي المسحوق البروتيني (الغبرة) والحقن..
وحتى لا أتهم بالإسقاط – وبحكم معاشرتي لأمثاله !- أفكر، وبخفة ظل أن يستبدل شعار: "العقل السليم في الجسم السليم" المخطوط على أحد جدران (الدوش) بعبارة: "أجسام بغال وأحلام عصافير "وليكتب تحتها، وبلون آخر: ممنوع استعمال الصابون والشامبو..!!
وتناهى إلي صوت هذا البغل يحدث المدرب عن القيلولة التي أضحى لا يستغنى عنها، علق المدرب أن العضلات تنمو في أوقات النوم.. وقمت بعملية حسابية ذهنية سريعة : معدل ساعات النوم ثماني ساعات، ونومي المشاكس لا يتعدى الساعة التي يرن فيها جرس المنبه، وأقفز من فوق فراشي كالملذوغ.. فمن أين أسدد باقي الدين، وخبراء هذه الرياضة ينصحون بأن تفوق ساعات نوم المتدرب عدد أصابع اليدين..!؟
أحس الدمع يطفر من قلبي، وأقول في سري لهذا "الأنا" الذي كرهته كما لم أكرهه من قبل:
- وحده البغل يحمل الأثقال!!
***
أتثاءب، أفكر في المنوم الذي أستعمله للإيقاع بنومي الهارب في حبائل جفني، وتأثيره الملعون في الصباحات الموالية: طنين خلية نحل في الرأس، وجسد متلكئ يتداعى تحت أي جدار ظليل.. فكرت في آية الكرسي الكريمة ، في السنة والنوم..
نقضي ثلث حياتنا نصف أموات، أفلا يحتاج هذا الموت المتجدد أن نكتب عنه في زمن العولمة؟!
ما أضيق العيش لولا خدر تلك الإغفاءة اللذيذة التي تهدهدنا، وتسري في أوصالنا.. تلك الراحة الفردوسية المخضبة بالأحلام المزهرة !!
وألفيتني أغادر النادي مبتلعا مرارتي، غير قادر على مقاومة بكائي الباطني.. أحكم لفة الفوطة حول رأسي اتقاء شر برد ديسمبر المرتعش. أتثاءب وأعد الجسد المنهك بنوم طويل فور وصولي إلى البيت. وأعدكم بجمع شتات هذه الأفكار الوليدة في الليلة التالية، مضحيا ببعض نصيب جسدي من لذة النوم..
طابت ليلتكم..!!