نَمْ يَا أَبِي
(1)
لمَّا المغِيبُ قَد غَشَى سَفحَ الرُّبا
والشَّمسُ مِنْهُ أَجْفَلَتْ
فَلَمْلَمَتْ خُيُوطَهَا
ثُمَّ تَوَارتْ وَاخْتَفَتْ
نَاحَتْ علَى دَربٍ زَهَا لموعدٍ ، حَمَامَةٌ
بِدَمعَةٍ
صَاحَتْ هَوَى زَهرُ الأَمَانِي وَالوَفَا
قَالَ الفُؤَادُ : رُبَّمَا الغُصنُ غَفَا
قَالَتْ بِوَجدٍ وَأَسَى : يَالَيتَهُ
يَاليتَهُ حقًا غَفَا
لَكنِّمَا
خَانَ الزَّمَانُ وَعْدَهُ
هَانَ عَليَهِ وَصْلَهُ
فَأَغمَدَ
حَدَّ الفِرَاقِ وَالنَّوَى ، ثُمَّ مَضَى
يَبكِي عَلَيهِ مِنْ وَفَا !؟
(2)
كَأنَّمَا الكَونُ هَوَى
كَادَتَ مِنَ الوَجدِ الدُّمُوعُ أَنْ تَصِيرَ أنْهُرا
وَالصَّدرُ مِنْ حَرِّ الجَوَى أنْ يُحْرَقَ
شَكٌ ؟ يَقينٌ؟ أَم سَرَابٌ قَد بَدَا؟
حَقِيقَةٌ بينَ الغَمَامِ وَالظُّنونِ والرَّجَا
نَغْفُو عَلى حُلْمِ اللِّقاءِ وَالمُنَى
نَصْحُو عَلَى دَمعٍ يَسِيلُ قَانِيَا
(3)
مَاذَا أَقُولُ يَا زمَانًا قَد أَغارَ بِالعِدَا
مَاذَا أقُولُ عَنْ رَبيعٍ قَد غَشَاهُ بَغْتَةً
قَهْرُ الخَرِيفِ فَذَوَى
بِضِحكَةِ الفَجْرِ السَّعِيدِ كَالسَّنَا
بِنِسْمَةِ الصُّبْحِ الشَّدِي
وَصَحْبَةِ الوَردِ النَّدِي
شَوْقِ السِّنِينِ وَاللُّقَى
وَذِكرَيَاتٍ كَالشَّذَا
تَسْتَرْجِعُ
أُنْسَ اللَّيَالي ، وَالوَفَا
فَرْحَ الخَوَالِي ، وَالصِّبا
زَهْرَ الشَّبابِ ، وَالأَمَانِي تَهْتَدِي
(4)
وَعَدْتُكَ
أنَّ اللِّقَاءَ سَوْفَ يَغدُو عَاجِلا
وَمِثلَما بِالأَمسِ دَامَ زَاهِيَا
فَصَفَّقتْ بَينَ الضُّلوعِ لَهفَتي
وَغَرَّدَتْ فَوْقَ الرَّوَابِي مُنْيَتِي
لَكنَّهَا
لَكنَّهَا الأَقدَارُ قَامَتْ بَينَنَا
مَشِيئَةُ المَولَى جَرَتْ
صِرنَا فُرَادَى والتَّمَنِّي قد فَنَى
(5)
آهٍ عَلَى وَعْدُ المُنَى كَيفَ خَبَا
آهٍ عَلَى جِسرِ اللُّقى كَيفَ هَوَى
آهٍ ، وآهٍ لِلمَدَى ، أسْكَنْتُهَا بِمُهجَتِي
تَحسُو الأَسَى مِنْ فقدِكَ
(6)
أَيِّ مَنَامٍ أَو هَنَاءٍ يَا ( أَبي ) مِنْ بِعْدِكَ ؟!
كَيفَ الحَيَاةُ تَسْـَقِيمُ يَا أَبِي مِنْ دُونِكَ ؟!
فِي بُعْدِكَ
لَستُ أَرَى غَيرَ وجُودٍ قَد خَلا مِنَ الوَرَى
غَيرَ حُطَامٍ وَضَبَابٍ وَطَرِيقٍ مُقفِرٍ
كَأنَّني طَيفٌ ، أَهِيمُ بِالفَلا
رُوحٌ ، شَرِيدٌ ، تَائِهٌ
أَمضِي بِأحزَانٍ ودَمعٍ قَد نَعَى
آمَالَ أَمْسِي وَغَدَي
(7)
يَاطَاهرَ العِرْقِ النَّبِيلِ يَا ( أَبي )
حَلَّ الفِرَاقُ كَالرَّدَى
حَلَّ الوَدَاعُ بَينَنَا
فِي مَوْكِبٍ
نُورٌ عَلَى نُورٍ سَرَى مِنْ نَعشِكَ
حَتَّى أضَاءَ الدَّربَ صَوبَ قَبرِكَ
تَعدُو بِنَا ، تَعدُو بِنَا
مِنْ خَلفِكَ الَقَومُ تمنُّوا مَشْهَدَكْ
كَأنَّما عِرْسٌ جَلِيلٌ قَد بَدَا
فَالنُّورُ يَسرِي وَسَنَاهُ مِن سَنَى
كَأنَّني أَرَى الرِّضَا بِرُوحِكَ
قَد حَلَّقَتْ صَوبَ السَّمَا
لِصُحبَةٍ بجَنَّةٍ
(8)
يَا عُمرَ عُمرِي يَا ( أَبِي )
قَد قُلْتَ لِي
مَا بَعدَ مَوتٍ وَفَنَى سِوَى حَيَاةٍ وَلُقَى
وَكُلُّ إِنسٍ سوْفَ يُطوَى ثَوبُهُ
فَلَنْ يُعِيدَهُ البُكَاءُ وَالرَّجَا
وَلا نَحِيبٌ أَو نُوَاحٌ عَالمَدَى
(9)
نَمْ يَا ( أَبي )
نَمْ مَا تَشَاءُ هَانئًا
فَفِي جوُارِ الله وَعدٌ وَوَفَا
سَعدٌ ، وَحبٌّ ، وَسَلامٌ ، وَرِضَا
نَمْ يَا (أَبي )
نَمْ فِي ثَرَى طهَّرْتَهُ
نَمْ يَا أَبِي
يَا فَرحةَ القَبرِ بِكَ
بِنُورِكَ
نَمْ يَا أَبِي
نَمْ فِي ثَرَى طَهَّرْتَهُ
مراد الساعي