الترجمة الفورية وصعوباتها
La Traduction simultanée et ses difficultés
بقلم الدكتور حسيب الياس حديد
كلية الاداب جامعة الموصل
الترجمة الفورية نشاط فكري وإبداعي يقوم على أساس اكتساب المضامين المعرفية والعمل على نقل هذه المضامين بطرق شتى يتم اختيارها من قبل المترجم الفوري ، ولابد من ان يكون نقل المضامين متكاملاً . وفي الحقيقة لا تعدّ مهمة الترجمة الفورية مسألة يسيرة وإنما هي مسألة معقّدة ومتشعّبة ودقيقة . وتختلف الترجمة الفورية عن الترجمة التحريرية في جوانب عديدة أهمها الإصغاء والفهم والتحليل وتبليغ الرسالة في وقت محدد للغاية أي ان ليس للمترجم الفوري متسعاً من الوقت لكي يصوغ التراكيب ويعيد صياغتها مثلما يريد في الوقت الذي هنالك من يستمع اليه ينتظر منه إبلاغه الرسالة وبالسرعة الممكنة كما ان المترجم الفوري يواجه المستمع الذي يستلم منه الرسالة في حين ان المترجم التحريري يواجه القارئ الذي سوف يقرأ ما يدوّنه . وهنالك اختلافات أخرى بين المترجم والمترجم الفوري .
فالمترجم الفوري لابد من ان يكون مؤهلاً للإضطلاع بهذه المهمة الصعبة والدقيقة ولا يمكن ان نطلق صفة المترجم الفوري على أي شخص مهما كان دون توافر شروط عديدة تجعل منه مترجماً فورياً ناجحاً . إذ لا بد من ان يكون قد اجاد كلاً من اللغتين التي يعمل فيهما ولا يكتفي بمعرفة المفردات فحسب بل عليه ان يجيد استعمالاتها السياقية لينقل الرسالة بكل أمانة كما ان على المترجم الفوري ان يجيد اللفظ بصورة صحيحة لانه يختلف هنا عن المترجم التحريري الذي لا يحتاج إلى الكلام وإنما إلى اللغة المكتوبة وهنا نؤكد على دقة اللفظ والصوت معاً من قبل المترجم الفوري وإلا فأن نقل الرسالة اللغوية لن يكون دقيقاّ . ومن ناحية أخرى لابد من ان يتحلى المترجم الفوري بالشجاعة والجرأة لمواجهة مواقف لغوية تتطلب منه اتخاذ قرار ترجماني حاسم لمعالجة الموقف أي انه في هذه الحالة يميل إلى الترجمة التقريرية La Traduction decisionnelle) ) فضلاً عن الترجمة الفورية (فإن لم يمتلك الشجاعة والجرأة في معالجة المواقف الترجمانية المتوقعة وغير المتوقعة سوف يتعرض الى مواقف تجبره على قطع سلسلة الأفكار مما يثقل مسامع الحضور والمشاركين في المؤتمر .
وتتطلب الترجمة الفورية ان يكون للمترجم الفوري ممارسة فعلية وتجربة عملية وخبرة ترجماتية طويلة تمتد إلى سنوات طوال لكي يكون مترجماً ناجحاً وهنا لابد ان نؤكد على ان الترجمة الفورية ليست مسألة دراسة جامعية في جامعة ما أو في معهد كما انها ليست مسألة شهادة يحصل عليها المترجم فإن ذلك يعدّ مؤهلاً أكاديمياً لا يكفي ان يجعل من حامل الشهادة تلك مترجماً فورياً ناجحاً كما انه ليس كل من ترجم اسطراً عديدة أو ربما صفحات عديدة أو مقالات عديدة أصبح مترجماً لامعاً في ميدان الترجمة هنالك الكثير من هؤلاء الذين ليس لديهم شاغل سوى توجيه الانتقاد وليس النقد للترجمة وللمترجمين فهؤلاء يدعون الترجمة وليس لهم القدرة على الترجمة الحقيقية التحريرية منها والفورية فهم أعجز من ان يستطيعوا القيام بترجمة رصينة وعلمية ويحاولون بتوجيه انتقاداتهم لأي عمل ترجماني الظهور بمظهر الخبير بالترجمة وهم ليسوا كذلك فلو كتب عليهم ان يزجّوا في الميدان لرأيتهم فروّا منه مسرعين بكل الحجج والذرائع الواهية التي لاتمت بأية صلة بالممارسة الترجمانية .
مراحل الترجمة الفورية :
تمر الترجمة الفورية في مراحل عديدة ومهمة ومتعاقبة ويأتي الإصغاء على رأس قائمة هذه المراحل فالمترجم الفوري يعدّ مستمعاً مهنياً ومنتبهاً وبهذا المعنى يصغي بهمة عالية ونشاط باحثاً عن الأفكار وتسلسلها ويكتشف من خلالها نوايا المتحدث ومقاصده ويقوده الإصغاء إلى السماع الجيد إذ لا يمكن السماع دون الإصغاء ، فالإصغاء يسبق السماع كما ان النظر يسبق الرؤية وهنا ربما يواجه المترجم الفوري مشكلة في الإصغاء إذا ما رافق العمل ظروفاً سيئة أي من الناحية الفنية والميكانيكية وأجهزة الصوت وغيرها.
اما المرحلة الثانية فانها تتمثل بالتحليل إذ ان المترجم الفوري يحاول وبالسرعة التي تفرضها الترجمة الفورية تحليل الخطاب الذي أصغى اليه ويقوم التحليل على الفهم إذ لا يمكن ان يحلّل خطاباً دون فهمه وتعرف هذه المرحلة بالفرنسية بـ deverbalistation وهي المرحلة التي تقع بين الإصغاء واستلام الرسالة من اللغة الاصل وترجمتها ويختلف تحليل الخطاب باختلاف الموضوع الذي يعالجه المؤتمر وطبيعة اللغة المستخدمة ومستواها ونوع الخطاب فإذا تضمن الخطاب الترحيب والشكر والتقدير سوف يكون التركيز هنا على الشكل ، أما إذا كان الخطاب علمياً وفنياً سوف يكون التركيز على المضمون المعلوماتي .
وبعد أن يجتاز المترجم الفوري المرحلتين الأوليتين ينتقل إلى مرحلة الترجمة الفورية وإعادة الصياغة التي تعرف بـ (reverbalisation) فالمترجم الفوري الناجح هو الذي يمتلك القدرة على تقديم تراكيب لغوية صحيحة وسليمة ورصينة ولا يتأتى ذلك بصورة اعتباطية وإنما يتأتى ذلك من كثرة ممارسة الترجمة الفورية وقدرته على إعطاء المستمع لغة سليمة تركيبياً ودلالياً . ونجد هنا ان مهارة المترجم تكمن في قدرته على توزيع طاقاته بين ثلاثة اتجاهات أساسية وهي الإصغاء والتحليل وعمل الذاكرة . وينبغي أن لا يغيب عن مخيلتنا ان هذه العملية كلها تتم بأجزاء الدقيقة ان لم تكن أقل من ذلك . وهنا ينصب جهد المترجم الفوري على جهد الذاكرة وكما هو معروف لدى أصحاب الخبرة ان الترجمة الفورية تتطلب جهداً فكرياً وعصبياً كبيراً ولابد من ان يكون في حالة استنفار قصوى ويكون تركيزه محصوراً على الخطاب ولذلك يتطلب من المترجم الفوري أن يتمتع بقسط من الراحة لكي يستعيد نشاطه ولا يصاب بالتعب والإعياء .
التحضير وأهميته في المؤتمرات
يعد التحضير أمراً لا يمكن الاستغناء عنه في الترجمة الفورية إذ من الصعوبة بمكان أن يُزجّ المترجم الفوري في ترجمة فورية في مؤتمر على أي مستوى كان دون التحضير له. وبغية التوصل إلى تحضير يؤهل المترجم الفوري المشاركة بنجاح في المؤتمر لابد من ان يكون على بينة من الأمور الأساسية الآتية :
1. الوثائق : لابد من أن يحصل على وثائق المؤتمر المتعلقة بعمله وتقوم اللجنة التحضيرية للمؤتمر والقائمين عليه بإرسال الوثائق إلى المترجم الفوري ليطّلع عليها ويكون على بينة من نوع الوثائق التي سوف تكون موضوع المؤتمر .
2. جدول أعمال المؤتمر : يجب ان يكون لدى المترجم الفوري جدول أعمال المؤتمر ليطلع على عدد أيام المؤتمر أو عدد ساعاته وعدد ساعات العمل والجلسات التي ستعقد وعدد المشاركين في المؤتمر ليكون مهيئاً للعمل .
3. البحوث التي ستقدم في المؤتمر : في حالة ان يكون المؤتمر علمياً أو دورياً عليه ان يطّلع على جميع البحوث المقدمة إلى المؤتمر ليهيئ نفسه ترجماتياً ويكون مستعداً للترجمة الفورية ، أما إذا كان المؤتمر سياسياً في هذه الحالة يجب ان يطلع على ما سوف يتم طرحه في المؤتمر .
4. المواضيع التي سوف تطرح في المؤتمر : من الضروري ان يطلع المترجم الفوري على المواضيع التي سوف يعالجها المؤتمر وفي هذه الحالة يكون تحضيره مبرمجاً وفق المواضيع التي سوف تطرح على الطاولة ، وهنا لابد من التمييز بين الموضوعات حيث ان المؤتمرات تختلف عن بعضها فهنالك مؤتمرات سياسية وهناك محادثات سياسية وربما محادثات حاسمة ينتج عنها اتخاذ قرارات دولية مهمة ذات أهمية خاصة وخصوصية مميزة ، لذلك يتطلب ذلك كله تحضيراً مركّزاً من قبل المترجم الفوري .
ومن الممكن ان نتساءل حول جدوى التحضير ولماذا يقوم المترجم بالتحضير . هنا لابد من ان يمتلك المترجم الفوري القدرة على تجنب افتقاد المعلومات المهمة (La perte informationnelle) حيث ان المشاركين في المؤتمر ينتظرون من المترجم الفوري رسالة رصينة يتم إيصالها بلغة سليمة وذات دلالة لغوية متكاملة ويحاول المترجم الفوري ان يعمل جاهداً من أجل نقل كل معلومة يصغي إليها وإلا تعرّض عمله إلى قطع في المعلومات وحذف معلومات أخرى وأخيراً ينعكس ذلك سلباً على المترجم الفوري حيث ان مصداقيته تكون معرضة للخطر . ومن المعلوم ان التحضير يكون خارج المؤتمر ولكن لا يمنع ذلك ان يقوم المترجم الفوري بالتحضير داخل المؤتمر وذلك من خلال مراجعة المعاجم والقواميس والمختصرات الموجودة في المقصورة الخاصة بالترجمة يضاف إلى ذلك مجموعة من المترجمين المؤازرين أو الزملاء المؤازرين (L'intérprète passif) الذين يمدّون يد العون للمترجم الفوري كما سنلاحظ ذلك لاحقاً ، ولكن ثمة مشكلة تظهر عادة في التحضير وتتمثل هذه المشكلة في ان المراجعة غالباً ما تكون سريعة بحيث انه لا يستطيع ان يغطي كل ما لديه من مهام وهذا بدوره ينعكس على أدائه الترجماتي . ولكن قبل اللجوء إلى الوسائل المساعدة المتمثلة بالمترجم المؤازر لابد من ان يستنفذ المترجم الفوري الرصيد المعرفي Le baggage cognitif الذي بحوزته .
فالرصيد المعرفي عبارة عن مجموع المعرفة المفهومية واللغوية التي اكتسبها المترجم خلال حياته العملية وفي الحقيقة يعتمد مستوى فهم أي خطاب أو أي نص على سعة الرصيد المعرفي الملائم . ويمثل الرصيد المعرفي كل الخزين الفكري والعقلي من تجارب وخبرات والذي يهمّنا هنا هو كل ما له علاقة بالأداء الترجمي ، علماً ان الرصيد المعرفي يبدأ بمعرفة نظرية ناتجة عن تصورات وتفكير عميق وثمرة القرارات ويمثل أيضاً الثقافة العامة للفرد والمعرفة المتخصصة أيضاً . ويتضمن الرصيد المعرفي عناصر معرفية كثيرة جداً تساعد على فهم الخطاب أو النص ، فعندما يثير أي خطاب عنصر معين في النص بالمقابل نكتشف ان هذا العنصر عمل على استثارة عنصر معرفي ، فعندما يصغي المترجم الفوري للخطاب يكتشف ان في هذا الخطاب عناصر مخزونة في ذاكرته فكلما أثار المتحدث عنصراً معيناً كلما انتفض العنصر المخزون ليتعامل مع ترجماتياً ويستغل كل مخزوناته المعرفية لخدمة الترجمة الفورية .
ويضم الرصيد المعرفي كل المعرفة باللغة وما يحيط باللغة Paralinguistique والعناصر الخارجية للغة Extralinguistique المخزونة في ذاكرة المترجم وتكون استجابة المترجم الفوري لأي عنصر ناتجة عن منبه صادر من لدن المتحدث والمترجم الفوري مدعو للاستجابة للخطاب والتعامل معه وفق رصيده المعرفي . وللرصيد المعرفي دور حاسم في إنجاح عملية الترجمة الفورية ونجاح المترجم الفوري نفسه فإذا ما استنفذ الرصيد المعرفي الذي بحوزته عندئذٍ يلجأ إلى الزميل المؤازر الذي يكون له دور مهماً للتغلب على الصعوبات التي تنشأ ومن ثم العمل على تذليلها. وبهذا السياق لابد من كلمة حول المترجم المؤازر حيث ان المترجم الفوري إما ان يكون ضمن المقابلات الشخصية التي تجري وفي هذه الحالة لايوجد هنالك دور للمترجم المؤازر وانما هناك مجموعة من المترجمين الفوريين وفي حالة اية مواقف ترجمانية محرجة يتعرض إليها المترجم الفوري سوف يتم استبداله بطريقة فنية متفق عليها مسبقاً دون ان يشعر " بهزيمته " الترجماتية لأسباب سوف نذكرها لاحقاً إما في المؤتمرات الصحفية وفي المؤتمرات الدولية والمؤتمرات التي تقيمها المنظمات الدولية هنالك مقصورة خاصة للمترجمين الفوريين حيث هناك مترجم فوري يقوم بالترجمة الفورية الفعلية وهناك مترجمين مؤازرين لايقومون بالترجمة الفورية وإنما يقدمون العون للمترجم الفوري في عدة اتجاهات بغية عدم الوقوع في مواقف ترجماتية محرجة ربما لا يستطيع تداركها بدون وجود المترجمين المؤازرين . ويختلف عدد المترجمين المؤازرين حسب المؤتمر وأهميته وعدد المشاركين وغير ذلك . ففي الوقت الذي يكون فيه المترجم الفوري في موقف صعب وحرج يوزع اهتمامه وانتباهه في ثلاثة اتجاهات وهي الإصغاء والتحليل والصياغة لينقل الخطاب فإن المترجم المؤازر (أو المترجمين المؤازرين) لديهم قدرة اكبر على الإصغاء من المترجم الفوري لذلك يكون الفهم لديهم أفضل مما يكون لدى المترجم الفوري كما ان متابعتهم للحديث يكون أكثر دقة من المترجم الفوري ويكمن سبب ذلك في انهم يكرّسون جلّ اهتمامهم في هذا الاتجاه في الوقت الذي يوزع المترجم الفوري اهتمامهفي عدة اتجاهات وهذا لا يعني ان المترجم الفوري لايعمل على ايصال الرسالة كاملة على العكس من ذلك فإنه لديه القدرة على ايصالها بدقة متناهية وذلك لإيمانه المطلق بعمله وثقته العالية في أداء عمله الترجماتي ولأن التجربة العملية في مجال الترجمة الفورية جعلته يقرأ ما ستنتهي إليه جملة المتحدث . وهناك طرائق عديدة يتم بواسطتها تقديم العون للمترجم الفوري من قبل المترجم المؤازر .
1. إعطاء اشارة معينة متفق عليها أو غير متفق عليها . في هذه الحالة يكون هناك تواصل بالسمع والنظر بين المترجم الفوري والمترجم المؤازر بحيث انه عندما يقوم المترجم الفوري بأداء عمله الترجماتي بالشكل المطلوب تسير الأمور على ما يرام كما انه لا توجد هناك أية اشارات بين المترجم الفوري والمؤازر ، ولكن في حالة أي اشكال في الترجمة الفورية سيكون للمؤازر دورا علما ان المشكلة الرئيسية هي في المصطلحات التي ترد في المؤتمر.
2. القيام بحركة او اماءة محددة : هنا لا يقوم المترجم المؤازر بالدخول على الخط مع المترجم الفوري حيث لا يحق له ذلك طالما تم الاتفاق على ان يقوم المترجم الفوري الذي تم اختياره بالترجمة الفورية وينحصر دور المؤازر في تقديم العون والمشورة وبالطرائق التي نحن بصددها . إذ لا يمكن للمترجم المؤازر ان يتجاهل المترجم الفوري ويقوم بالترجمة الفورية ليحل محله .
3. استعمال قصاصات الورق : من الطرائق الأخرى المتّبعة من قبل المترجم المؤازر هي استعمال قصاصات من الورق يكتب عليها المصطلح الفني الذي اخفق المترجم الفوري الفعلي تذكّره أو معرفته أو ان يقوم المترجم الفوري وبسرعته المعهودة وذكائه ان يكتب المصطلح الذي غاب عن مخيلته على قصاصة الورق ويضع عليه علامة استفهام لكي يأتيه الجواب مباشرة على قصاصة ورق أو ربما يحدث ذلك قبل البدء بالجلسات حيث يطلب المترجم الفوري من المؤازرين الموجودين في المقصورة اعطاءه معنى مصطلح فني على قصاصة ورق يحتفظ بها عند البدء بالترجمة الفورية . وربما تطورت هذه الطريقة وغيرها باستعمال أجهزة الحاسوب (Laptop) حيث تكتب الكلمة على شاشة الحاسوب وبحجم مقروء يستطيع المترجم الفوري رؤيتها وقراءة المصطلح الذي طلبه.
4. وتتمثل الطريقة الأخيرة للمساعدة التي يقدمها المترجم المؤازر فهي مراجعة القاموس أو المعجم وخلال لحظات عليه ان يحصل على المعنى وحتماً يتم استعمال القاموس الآلي في الوقت الحاضر دون اللجوء إلى القاموس الورقي من اجل اعطاء المعنى للمصطلح المطلوب وبالسرعة اللازمة. وتتم كل هذه العمليات من وراء الكواليس دون معرفة احد داخل المؤتمر وخارجه ولكن هذه هي الآليات المتبعة في الترجمة الفورية في المؤتمرات . ولكن على الرغم من كل الوسائل المساعدة التي ورد ذكرها ابتداءً من كفاءة المترجم الفوري وقدراته وخبراته العملية ورصيده المعرفي ومن ثم الوسائل المقدمة من قبل الزميل المؤازر ثم صعوبات أخرى تنشأ وبصورة غير متوقعة يكتنف حلها صعوبات لاتقل عن صعوبات ظهورها وفي مقدمة هذه الصعوبات المصطلحات الفنية وتأتي على رأس سلم الصعوبات التي يواجهها المترجم الفوري ، الذي من البديهي انه ليس لديه المام تام بجميع المصطلحات الفنية في مختلف مجالات العلوم الصرفة منها والتطبيقية وربما أكون مثالياً جداً إذا قلت بأنه يفضل ان يكون المترجم الفوري متخصصا بالكيمياء عندما يترجم موضوع الكيمياء ، وانه يكون متخصصاً بالطب عندما يقوم بالترجمة الفورية في الطب وان يكون شاعراً عندما يترجم قصائد شعرية وهكذا إلا ان هذا هو المثال بذاته .
وهناك مصطلحات يمكن إيجاد مرادفها باستعمال الترجمة الفورية الحرفية وهناك مصطلحات أخرى يجب شرحها وتوضيحها في هذه الحالة يجب استعمال الترجمة الفورية التوضيحية ، يترتب على المترجم الفوري التأكيد على المعنى السياقي (Le sens contextuel) لأنه يساعد في حل الكثير من الصعوبات في الترجمة وفي هذه الحالة يجب عدم اعتماد الترجمة الحرفية وإنما اللجوء إلى الترجمة التي تقوم على اساس المعنى السياقي . ومن الممكن ان يستخدم المترجم الفوري مصطلحاً مقارباً للمصطلح عند وروده اول مرة في الخطاب ولكن من الممكن ان يجري عليه تصحيحاً إذا ما ورد للمرة الثانية ولكن بعد تلقيه اشارة مساعدة من المترجم المؤازر .
ومن جهة أخرى على المترجم الفوري ان يجد المرادف الصحيح وليس المتشابه بين لغة الأصل ولغة الهدف ، ففي الترجمة من الإنكليزية إلى الفرنسية على سبيل المثال يجب عدم استعمال الكلمة نفسها الموجودة في اللغتين ، لأن الكلمة ذاتها لها معنى مغاير في لغة الهدف مثلاً لا يجوز ترجمة كلمة Translation "ترجمة" إلى كلمة موجودة بالفرنسية Translation وذلك لأنها لا تعني ترجمة بالفرنسية وانما تعني " تغير حالة أو تأجيل " فيجب استعمال كلمة Traduction لذلك فإن الترجمة الأولى سوف تحرج المستمع الفرنسي الذي سوف لن تصله الرسالة اللغوية بصورة صحيحة . كما ان هناك مصطلحات لايمكن ترجمتها حرفياً على سبيل المثال هناك مصطلح ordre du Jour بالفرنسية يعني "جدول أعمال" لا يمكن ترجمته حرفياً بالإنكليزية order of the day وانما يجب ترجمته agenda of meeting لذلك فإن مثل هذه المصطلحات تثير صعوبات عديدة ومن الممكن استخدام مثل هذه الطريقة مع المصطلحات التكنولوجية الحديثة حيث يتم إتباع طريقة القرض اللغوي أي اخذ الكلمة ومدلولها سوية .
وعلى الرغم من كل هذه الطرائق والوسائل هنالك حالات مستعصية les cas refractaires حيث يصعب ايجاد حل لها بعد إخفاق التنسيق مع المتحدثين والمشاركين الآخرين واستنزاف كل الطرائق المساعدة فماذا بوسع المترجم الفوري عمله ؟
في هذه الحالة يلجأ المترجم الفوري إلى الاقتباس والى القرض اللغوي بنوعيه القرض الشكلي والقرض الدلالي في هذه الحالة ينبغي على المترجم الفوري ان يحافظ على لفظ الكلمة بالطريقة الصحيحة المتبعة في لغة المصطلح الأصلية مثلاً اقتباس مصطلح raison d'être "سبب العلة" ثم اقتباسها من الفرنسية مع الحفاظ على لفظها على الطريقة الفرنسية وكذلك الحال مع كلمةéexpose نقلت إلى الإنكليزية ولكن تم الاحتفاظ بطريقة لفظها مثلما وردت في لغة الأصل . وعند استنزاف جميع الطرائق لترجمة المصطلحات ربما يعمد المترجم الفوري إلى الحذف ولكن هذه الطريقة مشوبة بكثير من المخاطر لأنها تشوه النص من جهة ومن جهة أخرى تعرّض مصداقية المترجم الفوري للخطر لافتقاده إلى معلومات مهمة ينبغي إيصالها بكل أمانة إلى المستمع ، وذلك لأنه ملزم بالأمانة المعلوماتية والإيفاء بكل المعلومات الواردة وبالتالي سوف يؤثر ذلك على تقييم جودة الترجمة الفورية لهذا المترجم .
وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات متعددة الاتجاهات هنالك ثمة صعوبات تتعلق بشخصية المترجم الفوري حيث تتمثل الصعوبة الأولى بالناحية النفسية إذ انه يكون في وضع نفسي حرج جداً وفي حالة استنفار كلي فهو في جميع الأحوال في حالة نفسية غير طبيعية ويأخذ بنظر الاعتبار كل ما يدور حوله من المكان والمكين والمؤتمر والمؤتمرين وطبيعة اللغة التي يترجم منها وموضوع الترجمة وطبيعة اللغة المستعملة في المؤتمر وهل هي لغات متقاربة مثل الفرنسية والإنكليزية أم انها لغات مختلفة مثل الفرنسية أو العربية أو اليابانية أو الصينية وغيرها . ومن الأهمية بمكان ان نؤكد هنا ان الترجمة الفورية من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم تكون أفضل للمترجم الفوري ويكون مجال ابداعه أكثر بكثير مما لو كان يترجم من اللغة الأم إلى اللغة الأجنبية وربما يقل حرجه عندما يترجم من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم. ولكن ثمة مضايقة كبيرة جداً يعاني منها معظم المترجمين الفوريين وهي وجود مترجمين آخرين ينصتون إليهم من غير المترجمين المؤازرين فيكونوا في موقف الذي يتسقط الزلاّت التي ربما يقع فيها المترجم الفوري متناسين انهم لو كانوا في مكانه لعجزوا عن ترجمة فقرة واحدة مما يترجم ويتضايق بدرجة أكبر عندما يحاولون إظهار أنفسهم بأنهم يجيدون الترجمة الفورية وهم ليس كذلك ففي هذه الحالة سوف يتعرّض المترجم الفوري إلى مضايقات لأسباب نفسية وعلمية في آن واحد ولذلك نجد ان العديد من المترجمين الفوريين يفضلون العمل لوحدهم دون وجود مترجمين آخرين .ولأنهم في هذه الحالة يشعرون بحرية العمل الترجماتي ويمتلكون مساحة واسعة للتصرف بالخطاب والإيفاء بالمعلومات الكاملة للمستمع ومن الصعوبات الأخرى التي يواجهها المترجم الفوري آنياً هو النسيان مما يؤثر على أدائه الترجماتي ويسبّب له توقفات وقطع في النشاط الترجمي وكثيراً ما تحدث هذه الحالة في اللحظة التي يسمع فيها المصطلح قبل سماعه له كانت الكلمة أو المصطلح في اللحظة التي يسمع فيها المصطلح في باله فإذا بها يغيب عن مخيلته تماماً لذلك يفضّل دائماً ان يكون المترجم الفوري من النوع الذي له قابلية كبيرة جداً لتذكّر المفردات والمصطلحات حال سماعه لها على الرغم من ان النسيان آفة من آفات العلم الكبرى.
وهنالك صعوبة أخرى يواجهها المترجم الفوري وتتمثل في سرعة كلام المتحدث وتكثيف مادته وعدم وضوح صوته وعدم لفظه للكلمات بصورة واضحة بسبب لثغة في اللسان أو غيرها ، في هذه الحالة نجد ان المترجم الفوري يكون في موقف محرج جداً ولذلك عليه ان يكون في حالة استنفار قصوى للإصغاء ولكن على الرغم من بذله كل مساعيه لالتقاط الرسالة الموجهة نجد ان لهذه الصعوبة نتائج سلبية على الترجمة الفورية وأهمها :
1. افتقاد المعلومات : la perte informationnelle
في حالة افتقاد جزء من المعلومات لا يستطيع المترجم الفوري التقاط كل ما يقوله المتحدث والسبب هو عدم وضوح الخطاب وسرعة المتحدث في الكلام .
2. ايصال معلومات منقوصة :
في هذه الحالة نجد انه طالما استلم المترجم الفوري رسالة منقوصة فأنه من الناحيتين المنطقية والعلمية سوف يعكس رسالة منقوصة وهذا بدوره يؤثر سلباً على المترجم الفوري .
3. ضعف الإصغاء :
ربما يشكّل التركيز المتزايد في الإصغاء إلى اجهاد كبير للمترجم الفوري لأنه بصدد التقاط الخطاب أولاً ومن ثم فهمه وتحليله وأخيراً نقله بكل أمانة إلى مستمعيه ولكن بشكل متكامل لذلك سوف يؤثر الإصغاء المتزايد وغير المجدي كلياً على عملية الترجمة الفورية .
4. سوء في تحليل الخطاب :
من الطبيعي ان ما ساء إصغاؤه ساء فهمه وساء تحليله عندما يساء التحليل سوف تساء الرسالة كلها وسوف تتضح نتائجها السلبية في عملية الترجمة الفورية برمتها . وسوف ينجم عن ذلك صعوبة في إيصال الرسالة بسبب وجود فجوة في الذاكرة وربما تجاهل أو نسيان المصطلح المتناظر والقطع والفجوات التي تحصل في الترجمة يضاف إلى ذلك مسألة التداخل اللغوي وأخيراً التعب والأعياء الذي يصاب بهما المترجم الفوري .
بناء على كل ما تقدم بات متضحاً ان الترجمة الفورية تكتنفها الكثير من الصعوبات والعقبات التي تعيق العمل الترجماتي الفوري . وقد لاحظنا ان هذه الصعوبات منها ما يتعلق بشخصية المترجم الفوري ونفسيته ووضعه النفسي اثناء العمل ومنها ما يتعلق بالعوامل الواجب توافرها لنجاح المترجم الفوري ونجاح عملية الترجمة الفورية . هذا من جهة ومن جهة أخرى وجدنا ان مجموعة عقبات تعترض عملية الترجمة الفورية بذاتها أي ان هناك صعوبات تتعلق بالترجمة الفورية نفسها أي بالمصطلحات والمعنى السياقي والاقتباس والقرض اللغوي والقرض الدلالي وطبيعة اللغة المستخدمة ومستوى أسلوبها ومستوى أسلوب المتحدث ومستوى الخطاب وثمة صعوبات أخرى تتعلق بظروف العمل ووجود المترجمين المؤازرين والعوامل المساعدة لإنجاح الترجمة الفورية وأخيراً تم إلقاء الضوء على المراحل الأساسية للترجمة الفورية والمتمثلة بالإصغاء والفهم والتحليل وأخيراً الصياغة المتكاملة للخطاب الذي يجب نقله بكليّته مع الإيفاء بكل المعلومات الواردة فيه وهكذا وجدنا ان للترجمة الفورية كما هو الحال للمترجم الفوري خصوصيات تميز هذا النوع من الترجمة عن الأنواع الأخرى علماً ان الترجمة الفورية قديمة قدم الإنسان .