أهارون أبراهام قابَق
(سمرجون، محافظة فيلنا) 1880 – فلسطين 1944
تلقى أبراهام قابق تعليماً تقليديا فى الحيدر واليشيفا وبدأ حياته مدرساً فى بعض مدن بولندا وجنوب روسيا. انتقل بعدها الى قوشطا حيث بدأ الكتابة باللغة العبرية وبالييدش فى المجلات والصحف المختلفة. هاجر قابق عام 1911 إلى فلسطين وأقام فى البداية فى تل أبيب واشتغل بالتدريس. وبعد فترة من الدراسة فى أوربا (حيث حصل هناك على شهادة فى علم النفس والفلسفة) عاد إلى فلسطين عام 1921 وبدأ فى التدريس فى المدرسة الثانوية العبرية بالقدس. وكتب فى تلك الأيام كثيراً فى الأمور اليومية وفى الأدب وترجم بعض الأعمال الى اللغة العبرية واشتغل فى كتابة القصص والروايات. تناولت قصصه الأولى وصف طفولته لكنها سرعان ما ركزت على الموضوع الرئيسى لكتاباته ألا وهو الصهيونية والقومية اليهودية فى الشتات ومن بعدها فى فلسطين. ولقد أصبح موضوع الخلاص من الأفكار الرئيسية فى إنتاجه الأدبى ويبرز ذلك بوضوح فى ثلاثيته القصصية "شلومو مولكو" (1928-1929) والتى تتناول مسيحانية العصر الوسيط وفى رواية "فى الشعاب الضيقة" (1937).
كُتبت رواية "فى الشعاب الضيقة" فى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين وذلك بعد عودة قابق الى نمط الحياة الأرثذوكسية. ويذكر فى وصفه لعملية تدينه من جديد أنه أراد أن يكتب كتاباً عن "من يحمل لديه الوحى". مع هذا، وربما كان ذلك أمراً مفاجئاً، فقد اختار أن تكون شخصية عيسى الشخصية المركزية فى الرواية.
تبدأ أحداث الرواية بفترة شباب عيسى وتصاحبه فى فترة نضجه حتى وفاته وذلك على خلفية العصر الرومانى. يوصف عيسى كمن يراقب حياة الناس حوله ويسمح لنفسه بالخروج على الشريعة اليهودية ووصاياها. وفى تلك الأثناء يكثر من مساعدة الضالين والمطاردين وأشخاص آخرين يعيشون على هامش المجتمع كما ينضم إلى الأطفال (الذين لم "يلوثوا بالشر").
تؤكد الرواية على يهودية عيسى وعلى أصوله القومية وعلى علاقاته بمعلميه وأصدقائه وشعبه. وهناك تركيز طوال الوقت على علاقات عيسى المعقدة بيهوذا الإسخريوطى – فهى صداقة يشوبها العداء والحسد. تنتهى الرواية بوصول عيسى إلى أورشليم وبالحدث الدرامى لصلبه وبصيحته "إلهى، إلهى! لماذا تركتنى؟"
لا يمكن نسب عيسى الذى تصفه رواية قابق بشكل قاطع إلى دين أو آخر فقابق يريد أن يؤكد فى عمله على العالمية والإنسانية فى شخصية عيسى وكذلك على رغبته فى الفهم والإحسان الى "الجنس البشرى" كله وذلك من منطلق الايمان أن "ملكوت الله" موجود فى قلب كل شخص وكذلك الخلاص وتلك بشارة أو فكرة انسانية. لذا فإن العناصر المسيحية الكنسية فى حياة عيسى لا تحظى باهتمام بل تعرض أحيانا على أنها عالمية.
سأعرض ثلاثة أجزاء من الرواية: يعرض الجزء الأول لبعض أيام طفولة عيسى والطريق الذى غرس فيه بذور رسالته؛ أما الجزء الثانى فيعرض لشريعة عيسى كمبشر "لملكوت السماء" الموجود فى قلب كل شخص وآخر؛ وفى الجزء الثالث يتنبأ عيسى أمام تلاميذه بنهايته المتوقعة فى أورشليم ويعد بعودته للحياة من بين الأموات فى قلب كل المؤمنين به.
النص مأخوذ من رواية أبراهام قابق "فى الشعاب الضيقة"، إصدار عام عوفيد، تل أبيب 1970
"سار عيسى بقلب متألم وممزق كما لو كانت كل ظلمة الليل قد تجمعت وتراكمت فى داخله حتى اعتصرته. وزحفت من داخل مغارة ما مظلمة بجواره وخرجت الواحدة تلو الأخرى ذكريات من أيام صغره، ذكريات منسية.
...ذات مساء والسماء محمرة كما لو اشتعلت بالنيران. ومن فوق فناء بيت الأب تزدهر مجموعة من الحمام الوردى: حمام يسير على الأرض وعلى السقف، وفى فضاء الجو هديله الصامت. الأب واقف فى مدخل بيته ويجلس معه أشخاص آخرون مجهدون ومنهكون مثله. وجوههم ولحاهم مشبعة بشعاع محمر غير طبيعى من ضوء الغروب. ومن وراءهم الظلام. أما هو، عيسى، فيخاف الظلام؛ حتى أن ضوء الغروب يبعث الخوف فى قلبه. لذلك تراه يجرى بين الرجال الشيوخ ويطيش وفى نفس الوقت تسمع أذناه الكلمات التى يقولوها فيما بينهم والتى كانت يتحرك فى نفسه منها الحزن الشديد. كانوا يحكون عن صعوبات الحياة، عن حكومة الشر عند الأدومى، الرومى، عن المسيح...ولم يعد يتذكر ماذا أغضب الأب الذى بدأ فجأة توبيخه يوقفه، كالمربوط، بين ركبتيه يأمره بالوقوف فى هدوء. حينئذ سمع شخص يقول:
- "لا تمسوا مسيحى" كما هو مكتوب؛ "مسيحى" هم أطفال بيت رابان. ألا تعلم يا يوسف فى أى بيت يطيش الآن مَن مِن المنتظر أن يكون مسيح ورعنا؛ إن كان مازال فى المهد أو بين ركبتى أبيه...
فى نفس الوقت تمر الأم فى الفناء. وتصل الكلمات إلى أذنيها. تقف وتسمع ووجهها الجاد يبتسم إليه، إلى طفلها. ويتذكر هو، عندما كانت تقف فى منتصف الفناء الواسع، كيف بدت له كبيرة ورائعة، ومتوهجة الوجه مملوءة بنوع من البريق، كما لو كان يخرج من بريق وجهها شعاع نحو السماء...وبعدها فى الليل، عندما رقد على الأشجار الجافة اقتربت منه الأم وجثت على ركبتيها وانحنت له وهمست من قبلات دافئة:
- يا مسيحى... يا مسيحى الغالى...
وعندما يجتهد قليلاً يبدو له أنه يحييى فى قلبه من جديد شيئاً ما من نفس الدفء ، من نفس العذوبة، من نفس الرائحة، من القبلات التى أغدقتها أمه عليه آنذاك… هو يحب أمه من بعيد، سراً وفى صمت. عيناه من بعيد تتغذى من لدنها، ولم يعرف أى كائن ذلك. ومع السنوات كبر وكبرت المسافة بينهما. وزادت ضغائن أمه المكبوتة أكثر وأكثر تجاهه وهو ينطوى على نفسه أكثر فأكثر، يبعد نفسه عن البيت وينطوى فى عالمه الخاص. يجلس أحياناً ممدداً ومنعزلاً فى زاوية وتبحر نفسه على شراع أفكاره بعيداً، ويغشى عينيه ضباب لدرجة أنه لا يرى أمامه، وبجواره فجأة .. {...} من أين؟ وكيف؟ وبأى وسيلة اختفت وهكذا فجأة؟ {…} وفجأة تظهر أمامه شخصية أمه من داخل الضباب، من داخل هذه المسافات، أو يصل الى مسامعه فجأة صوتها من بعيد-قريب، ويضيئ أما م عينيه فجأة شعاع أيقونة خفية، بهاء سامٍ يصحب هذه الشخصية الغالية، وترفرف نفسه كلها حينئذ من المحبة لها. "أمى! أمى الغالية!" يريد أن يناديها آنذاك. وحيد فى البيت وحيد بين البرايا. كان يرى أحيانا النساء تبتسم له بلطف ومحبة وكنَّ أحياناً يتجاذبن معه اطراف الحديث، لكنه لم يعرب عن رأيه فيهن. وأحيانا كان يأتى الجيران إلى أبيه وأمهه ويحاولون التحدث عن الزواج فقد حان الوقت كى يتم وضعه فى بوتقة الأسرة. فعبء الزواج سوف يعيده إلى أفضل حاله؛ كما إن ذلك أمر طيب له وسيخفف ذلك عن أبويه. وكان جسده يقشعر من مجرد التفكير فى اقتراب دائم لامرأة وعن حياة النساء وينطوى فى نفسه… ومع ذلك فإنه كان يحب صحبة الرضع. كما كان الاطفال الصغار مرتبطين به ويسعدون فى الوجود فى صحبته…
وكل من يمر بممر ضيق وطويل يسع أن يرى فى النهاية العالم يخرج اليه كوقت السحر من الطرف الآخر. هكذا كان عيسى سعيداً، بعد أن مر بطريق مملوء بالذكريات الكئيبة، بنور ذكرى واحدة برقت فى عقله فجأة. فيتذكر ساعة واحدة جعلته سعيداً بنصيبه وراضياً وواثقاً فى عالمه. ففى أحد الأيام جلس عند قمى رابى حنانيا سيده. وقرأ رابى حنانيا أمامه من سفر المزامير. وعندما وصل الى المكتوب :"إبنى أنت، أنا اليوم ولدتك"، نظر اليه عيسى نظرة دهشة: كيف؟ ماذا ولادة وأبناء عند الروح القدس؟ حينئذ سمع للمرة الأولى من فم رابى حنانيا أن سيدنا موسى قد قال:" أنتم أبناء الرب إلهكم"، وقال الحاخامات: "أحباء إسرائيل الذين سموا أبناء الله": حتى إن كانوا سفهاءً وحتى إن كانوا متخمين بالذنوب كالرمان، فهم يسمون الأبناء…ولأنه سمع ذلك غمرته فرحة كبيرة جداً. لم يقدر على النطق بكلمة. فقط اغرورقت عيناه فرآه الرابى حنانيا فسأل: ما بك يا بنى؟ أجابه عيسى: "ما أسمعته لى يا سيدى هو أكثر من رائع حسن للغاية!" ومنذ ذلك الوقت هبت فيه روحه الخضوعة. فقد رأى نفسه كابن ملك كابن ملك الملوك…جميعنا، جميعنا أبناء الله، الأشرار والطيبين، الضعفاء والأقوياء، الظالمين والصديقين، الحكماء والجهلاء {…}جميعنا أحباء أبانا الذى فى السماء! ما أجمل وما أعذب للروح أن ترفع عينيها الى السماء والقول: أبى!... ومنذ ذلك الحين كان من المريح له أن يكون من بين الخجلين وليس من المخجلين، من الذين يسمعون إهانتهم ولا يردون. فكل المخجلين والمهينين إخوانه فى الله، من نفسه ومن لحمه! ولو كانوا يعلمون كيف هو طيباً ورحيما أبانا الذى فى السماء، كانوا سيحرصون أن يكونوا هم كذلك أيضاً…نفس الممرالطويل من الذكريات والأفكار الكئيبة التى مر بها أغلق من وراءه. فهو يخطو الآن خطوات أكثر ثباتاً. وحول من قال وكان العالم وليس هنك مخلوقات لا فائدة منها منبوذين، فليس هناك مخلوقات بلا شكل . فالجميع أخرجهم الخالق من تحت يديه بنفس الحب وبنفس العطف السامى. شمس واحدة يضيئها فى السماء للطيبين والأشرار ومحبة واحدة يحبها لجميع مخلوقاته ويجود عليهم يومياً من نعمه. وشخص واحد سوف يأتى فى المستقبل ليحاكم العالم ويخلصه وأنه ليس فى ذلك أى شرف لكل مواليد النساء؟….ليس ملاكا بل إنساناً! وكل شخص من الممكن أن يهبط مع سحاب السماء ويجلس على عرش مجده غير أن ليس كل شخص يستحق ذلك. والخير الذى فى داخلنا فقط. ولقد أحسن الله صنعاً عندما أعطى حق الاختيار لهم أنفسهم. ويجب على كل شخص أن يقول لنفسه: أنا أريد أن اصبح الأفضل، الأفضل جداً، أفضل من أى إنسان…والحمد لله الذى أعطى هذه الغريزة وهذا الشوق الى الخير الذى ليسن هناك أفضل منه… (ص-76-79).
من كتاب ماذا يقول اليهود عن المسيح عيسى بن مريم؟
ترجمة عمرو زكريا
تاليف أفيجدور شنآن