أَلَمُ الانتظارِ
قصة قصيرة
أيمن خالد دراوشة
***************************
لَمْ تَأْتِِ ، لا شَكَّ في أَنَّها لَمْ تَأْتِ ، لكنِّي واثقٌ تماماً مــــن مجيئها ، فأنا لا أَعْرِفُ أَنَّها أخْلَفتْ مَوْعِداً طوالَ حياتِها قَطْ. مَا الذي حَالَ دونَ مجيئها ؟ أَشْعُرُ بغصةٍ في حلقي ، وَأَشْعُرُ بأَََنَّني وَسَطَ عاصفةٍ في صحراءَ قاحلةٍ وبوحشةٍ مفزعةٍ...
أَتَرَاها لَمْ تع ِ مَا كُنْتُ أَقولُه لها صباحَ هذا اليوم ؟ ولكنها كَانَتْ تصغي إليَّ بكلِّ حواسِّها ، بوجهها وعينيها ، لا سِيَّما بعينيها الواسعتين البراقتين اللتين تكادا تضيئان من شدةِ لمعانهما . لا مَجَالَ هُنَا لأَيِّ خطأ أو التباس. قُلْتُ لها : اليوم مساءً وبالتحديدِ الساعة التاسعة. وكالعادة رأيتُها تبتسمُ . كَمْ أَحْبَبَتُ ابتسامتهــا تلك ، ففيها تَدَفُّقُ الحياةِ ، وَالأمَلُ الزاهر . في وَسْط ِالظلامِ هي شَمْعةٌ مضيئةٌ وَوَسْطَ الضجيجِ هي مَلاذُ أَمْن ٍ وَطمأنينة ، تَنْشَقُّ ابتسامتُها مِِلْءَ السماءِ آفَاقاً عبْرَ آفاق ، ما يُدْهُشِنِي في ابتسامتِها أَنَّها لا تَرْتَسِمُ على شفتيها ووجهها ، بَلْ تنبعُ من عينيها وَحْدَهما!! صفاء ليس بعده صفاء وهدوء كأعماقِ البحرِ البعيدةِ.
انتظرتُ أمامَ الصالةِ ، وطالَ ألم الانتظارُ ، وانتظرتُ. انتظرتُ طويلاً طويلاً ، لكنها لم تأت ِ . ما كانَ من داع ٍ لهذا الانتظارِ. ومع ذلك فقد وقفتُ هناك آملاً رؤيتها من بعيد قبل أَنْ تصلَ الصالة وتجتازَ الممرَّ العريضَ ، وقبلَ أَنْ تراني . كأنني أتعمَّدُ إطالةَ اللقاءِ ونفسي تمتلئُ فَرَحاً عميقاً. هذا كُلُّ ما في الأمر. حَجَزْتُ مقعدين قبلَ عصر اليوم لحفلة الساعة التاسعة ، وَقَدَّمتُ لها إحدى التذكرتين واحتفظْتُ بالأخرى. فمن عادتنا أََنْ نلتقيَ هنا في الصالةِ نفسِها ؛ لنشاهدَ فيلماً سينمائياً.
دَخَلَ عدةُ أشخاصٍ تباعاً وَوَفَدَ قِلَةٌ آخرونَ لكنني لم أدخلْ. تريَّثتُ قليلاً . آثرتُ الوقوفَ والانتظارَ . مَرَّتِ الدقائقُ بطيئـــةً ، كأَنَّها الدهرُ يمشي الهوينا . فَكَّرْتُ وقلتُ : أَدْخُلُ وَأَنتظرُها هناك وحينما يأتي المُرشدُ سيأخذُها إلى مكانها ، ومن المؤكَّدِ جلوسُها بجانبي.
حينَ دَخَلْتُ كانتْ فترةُ الاستراحةِ قد انْقَضَتْ ، وَخَرَجَ بائعو المرطبات والساندويتش. الصالةُ غارقةٌ بالظلمةِ إلا من ضَوءٍ متقلِّبٍ تَسْكُبُه الشاشةُ هنا وهناك أَدْرَكْتُ حينها أَنَّ المقاعدَ شبهَ فارغةٍ ، والقاعةَ ليس فيها إلا قلةٌ قليلةٌ من الأشخاص قد انتشروا في أرجائها الواسعةِ. جلستُ في مكاننا المألوفِ : المقاعدُ الخلفيةُ للصالة ، هكذا اعْتَدْنا ، الصَّفُّ الخلفي خال ٍ ، وكذلك المقاعد المحيطة به ، ولكنني لبثتُ لحظاتٍ مشدوداً إلى مقعدِها ، مقعدِها الشاغر لأول مرة. ظللتُ مشدوداً إليه لفترةٍ طويلةٍ لا أكادُ أَرْفَعُ عيني عنه ، وَبقيتُ أَنتظرُ مجيئها. تَخيلتُها قادمةً ، فَشَعَرْتُ بدفءِ قدومِها وحرارةِ اللهفة في عينيها ، وَأسْنِدُ رأسي إلى كتفها فَيَتضَرَّعُ شذاها ، إلا أَنَّها لمْ تأت ِ. رَفَعْتُ رأسي ضيقاً وألماً لأنظرَ إلى الشاشة. ما اسمُ الفلمِ الذي يُعرَضُ ؟! ما موضوعُه ؟ مَنْ كَتَبَ قصتَّه ؟ وَمَنْ أخرجَه ؟ لا أَعْرفُ شيئاً عن ذلك كلّـــِه ، فشدةُ ترقبي لمجيئها منعتني من النظرِ إلـــى الشاشةِ ، ولمْ أَقْرَأْ حَرْفاً ممـــا تُرجِم . متعتي الحقيقيةُ حينما نَكُونُ مَعاً ، وَنَنْظُرُ إلى الشاشةِ مَعاً ، والآن أَشْعُرُ بالشللِ يجتاحُ جسمي وَيَتَسَرَّبُ مُثْقَلاً إلى روحي . مَضَى زَمَنٌ . ثوان ٍ أم ساعات لا أدري ! وأنا مُوَزَّعٌ بين المقعدِ الشاغرِ والشاشةِ ، أقلِّبُ بينهما ناظري ، من غير أَنْ أتمكنَ من تثبيتهما ولو لفترةٍ قصيرةً في مكانٍ واحدٍ . وأخيراً اسْتَسْلَمْتُ للشاشة ، رَأيتُ رجلاً وامــــــرأةً . قُلتُ في نفسي : إنهمـــا بطلا الفلم ، فَكُلُّ أفلامِ العالمِ تدورُ حولَ رجلٍ وامرأةٍ . كانا يجلسانِ في إحدى الغرفِ في منزلٍ عادي . قلتُ : لعله منزلهُما . نَظَرْتُ إلى المقعدِ الفارغ ِ وَكِدْتُ أغفو مللاً ، ثُمَّ سَمِعْتُ البطلةُ تقولُ كلاماً أشعرني بالكآبة لا أدري ما الدافعُ إليه : "عذابٌ أَنْ يتَّصلَ الإنسانُ بِمَنْ يحبُّ ، وعذابٌ أَنْ ينفصلَ الإنسانُ عَمَّنْ يُحِبُّ " . فَهَزَزْتُ رأسي موافقاً . عدتُ إلى ذاكرتي . لقد قرأتُ هذه الجملةَ في كتابٍ مــا . وَأَجْهَدْتُ ذاكرتي طَويلاً أَبْحَثُ في طياتها عن اسم الكتاب دون جدوى . لكنَّ ذاكرتي لم تَنْجِدْني هذه المرَّة فَبَرَّرْتُ ضَعْفَ ذاكرتي بأَنَّ الكتبَ التي قَرَأْتُ تكرِّرُ هذه العبارةَ . هنـــا غفوتُ ، وَامْتدَّتْ غفوتي لفترةٍ طويلةٍ. أَيقظتني أصْواتٌ حَادَّةٌ وَصَرْخَاتٌ متتاليـــةٌ ، فَاهْتَزَّ جسمي في ذعرٍ حتى خُيِّلَ إليَّ أَنَّ هناكَ مَنْ يَهزُّني ، فتبادَرَ إلى خاطري أَوَّلَ وَهْلَةٍ أَنَّ فتاتي قدْ جَلَسَتْ إلى جانبي ، وَأَنَّها تحاولُ إيقاظي ، فَنَظَرْتُ بسرعةٍ فيما حولي ، فإذا المقعدُ خال ٍ . كَانَتْ الصَّرْخاتُ تنبعثُ مــن الشاشةِ ، وَرَأَيْتُ البطلَ يتشاجرُ مع البطلةِ ، وسمعتهما يصرخانِ وتشتدُّ أصواتهما وتعلو . غَمَرَني أسىً عميقٌ ، وَرأَيتُ الحزْنَ يَبْسِطُ جناحيه وَيحومُ فوقي ، بالقرب مني ، بجانبي ، يَكادُ يفترسُني . لَمْ تأتِ ! لا شَكَّ أنَّها لَنْ تَأْتِ...
-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-