الأزمة المالية الفلسطينية ورواتب الموظفين
عبد الكـريم عليــان
الأزمة المالية الفلسطينية ليست بجديدة؛ فهي موجودة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وإن استقرت في بداياتها، لكنها كانت تعود لتظهر من جديد خصوصا عند كل أزمة سياسية، وكانت أداة قوية في يد إسرائيل وأمريكا للضغط على الفلسطينيين للتنازل عن حقوقهم الشرعية.. هذا يقودنا للبحث في بنية منظومة الاقتصاد والسياسات التي رسمتها القيادة الفلسطينية، أو خُطط لها كي تكون ضعيفة وهزيلة وقابلة للابتزاز والتنازل.. انكشف المستور، وطفَّ على السطح الزبد مهما حاول رئيس الوزراء تنميق الشكل بوعود وزخرفات كرنفالية كانت بمثابة التغطية على الحقيقة التي بانت حتى دون لباس من الشيفون ! هل نسينا كيف كانت سنة 2011 التي أُعلن عنها سنة لبناء مؤسسات الدولة العتيدة؟! هل نسينا التقارير التلفزيونية وهي تبث احتفال افتتاح بعض المؤسسات أو المشاريع التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟؟ يا حكومتنا الشرعية! أبسط المفاهيم والأشياء لأي حكومة كانت هي توفير لقمة العيش الكريم للعاملين فيها.. فما بالكم بأن 77% من موظفي الحكومة مدانين للبنوك التي تدعي الوطنية براتب شهرين أو أكثر.. ناهيكم عن حجم القروض التي استقرضوها لتحسين مستواهم ال!
معيشي..؟ ما رأي سلطة النقد الفلسطينية في مؤسسات الإقراض التي تزايدت بشكل غير معقول وهي تربح فوائد تصل إلى أكثر من 50% وتزعم أنها مؤسسات تنموية وخيرية دون رقابة أو محاسبة، وجميعها تعتمد على الموظف الحكومي الضعيف وذو الدخل المحدود.؟! ما رأي سلطة النقد وهي ترى وتسمع صرخات الموظفين في غزة وشكواهم على البنوك التي تسرق الموظف بطرق منظمة وغير شرعية ولا يوجد مثيل لها حتى في دول الليبرالية المتوحشة!! ما هو رأي وزارة الاتصالات التي لا تمتلك أدوات رقابة على شركة الاتصالات الأرضية والخلوية وهي تسرق المواطن على عينك يا تاجر..؟ أين ذهبت القيادات التي وقعت اتفاق باريس الاقتصادي والذي دفع ثمنه شعبنا باهظا وها هو يعرقل مسيرة تقدمنا؟ ما هو مصير حقل الغاز الذي أكتشف في بحر غزة ولا أحد يعلم ما هو مصيره، أو بجيب سيرته في حين يدفع المواطن الفلسطيني ثمن استهلاكه للغاز أكثر من ثمنه في إسرائيل أو دول الجوار؟! لماذا يا حكومتنا الشرعية لجأت إلى النظام الاشتراكي عندما عجزْتِ عن حل مشكلة كهرباء غزة؟ أي لجأت إلى تغطية عجز فاتورة الكهرباء على حساب الموظف الفقير عندما خصمت من راتبه ما يعادل خمسين دولار شه!
ريا، كي يسدد عن باقي الناس التي لا تقوم بتسديد مستحقات الكهربا!
ء؟! يا سادة يا كرام سياسة قوية تعني اقتصادا قويا والعكس صحيح، لكن عندما تلجأ الحكومة إلى الفقراء فعلى السياسة السلام ولا أمل في هذه السياسة إلا بتغيير السياسة الاقتصادية نحو تعزيز صمود الفقراء، وهم الطبقة السائدة في مجتمعنا..
من الواضح أن السياسة الاقتصادية التي طُبقت على مجتمعنا منذ أوسلو هي ما تسمى بسياسة أو فلسفة السوق، أو ذهبت لأبعد من ذلك إلى الليبرالية المتوحشة كما يسميها خبراء الاقتصاد، وهي تعني عدم تدخل الدولة في السوق.. لكن تلك السياسة تلائم دولا مستقرة وإنتاجها يفوق استهلاكها بأضعاف مضاعفة، وفائض إنتاجها يغزو أسواق العالم، ومستوى الدخل فيها عال.. فهل هذه السياسة تلائم مجتمع مثل مجتمعنا الذي مازال يرضخ تحت سيطرة الاحتلال ويتحكم في كل أنشطتنا الاقتصادية وغير الاقتصادية؟؟ حتى لو قبلنا بتطبيق تلك الفلسفة؛ فكيف قبلنا لشركة مثل شركة الاتصالات أن تحتكر السوق لفترة كبيرة، إذ من جديد سمح بترخيص شركة أخرى في نفس المجال ـ وللمقارنة في إسرائيل هناك شركات عديدة تتنافس على تقديم هذه الخدمة وغير مقتصرة على شركتين أو ثلاثة؟؟ وكذلك كيف سمحنا لعدد من التجار بأن يحتكروا توريد سلعا معينة..؟ والأمثلة كثيرة من هذا النوع سواء الخدماتية أم التجارية؛ فهل هذا يجوز في حالة هكذا سياسة؟؟ سوق فوضوية لا تتلاءم ومستويات الدخل لدى شرائح المجتمع المتباينة سوف تؤدي لعجز كبير في وظيفة الحكومة التي تضرب بعرض الحائط لمتطلبا!
ت شعبها.. وهاهي حكومتنا غير قادرة حتى على توفير رواتب موظفيها بحجة أن إسرائيل تحتجز أموال الضرائب المستحقة لشعبنا، وبالمناسبة هي ليست ضرائب على الدخل مثلا؛ بل هي جمارك مفروضة على السلع الموردة لأراضي السلطة الفلسطينية سواء من المنتجات الإسرائيلية أو المستوردة عن طريق إسرائيل، ومن الشروط التي فرضتها إسرائيل في اتفاق باريس الاقتصادي (سيء السيط ) هو لا يجوز للتجار الفلسطينيين استيراد السلع من خارج إسرائيل إلا بواسطة التجار الإسرائيليين.. وبالطبع ذلك يزيد من التكلفة لربح الوسيط الإسرائيلي، وكذلك إذ من المعروف أن الحكومة الإسرائيلية تأخذ حصتها من هذه الجمارك مرتين مرة من التاجر الإسرائيلي، وأخرى من حصتها من الجمارك الفلسطينية.. كل ذلك يدفع ثمنه المستهلك الفلسطيني إلى أن صارت بعض السلع ثمنها في السوق الفلسطيني أغلى بكثير من ثمنها في السوق الإسرائيلي، ويبقى الفرق شاسع في قدرة المشتري الإسرائيلي عن المشتري الفلسطيني؛ فالأول مستوى الدخل عنده يساوي أضعاف مستوى دخل الفلسطيني..!
من ناحية أخرى هل يمكننا مراجعة سلم الرواتب للموظفين وتقليص الفجوة الهائلة بين الفئات العليا والفئات الدنيا..؟ على أي أساس أُقرّ الحد الأدنى للأجور بألف وأربعمائة وخمسين شيكل ؟ وهناك أجورا تزيد قيمتها عن خمسة عشر ألف شيكل؟ أيضا الفرق الكبير بين رواتب الفئة الأولى ورواتب الفئة الثانية، وإن كانت تلك الفوارق معقولة في الراتب الأساسي، لكنها فوارق كبيرة وكبيرة جدا في العلاوات فهي تتراوح بين 15% للفئات الدنيا، و250% من الراتب الأساسي للفئات العليا بالإضافة للعلاوات الإشرافية.. هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن صانعي القرار هم من الفئات العليا، بما في ذلك نواب المجلس التشريعي الذين لا يقومون بأية مهمة.. وقد ميزوا أنفسهم كثيرا عن باقي فئات المجتمع مما يؤكد عدم قدرتهم على تحمل المسئولية، بالإضافة إلى الكثير من المهمات والسفريات والامتيازات لأصحاب هذه الفئات، ليس لدينا بيانات عن حجم المصروفات التي تقدم لهم غير رواتبهم.. وذلك لا يعني أن نظرتنا لتلك الفروق هي نظرة حسد لهؤلاء بقدر ما أن صناعة القرار تكون مهزوزة ولا تخدم صمود شعبنا وتطوره..
صحيح أننا انتصرنا سياسيا عندما اعترفت كل شعوب العالم بدولتنا، ذلك يعني أننا شعب له هويته على حدود جغرافية، لكن ذلك لن يكون قويا إن لم نكن أقوياء، والقوة تكمن في اقتصاد قوي يعمل على تعزيز صمود شعبنا وتوحيد جهوده في البناء.. اقتصاد مبني على الذات لا على رحمة الآخرين أو الأشقاء وإن كان لنا حق في ذلك.. لكن ليست بشروط تعيق تحقيق أهدافنا، أو تعرقل تطور ونمو شعبنا واستقلاله، ولأن المعيقات والتحديات كبيرة في عدم وصول تلك المساعدات، وتجربة شبكة الأمان العربية التي أقرتها قمة بغداد الأخيرة ليست التجربة الأولى فهناك دولا عربية غنية لم تقم بتحويل المستحقات عليها منذ زمن طويل.. وهنا نقدم شكرنا الدائم لدولة الجزائر حكومة وشعبا في استمرار دعمها لنا والذي لم يتوقف، ولم يخضع لتهديدات إقليمية كما ظهر مؤخرا من تخوف بعض الدول العربية، وهنا نتساءل ما المعيق لتلك الدول لأن تقوم بتحويل الأموال المقررة والتي وافقت عليها وأقرتها القمة الأخيرة؟؟ لماذا لا تحذو باقي الدول بالجزائر مثلا.. شكرا للبنان الذي بادر في هذه الأثناء بطلب اجتماع سريع للوزراء العرب لمناقشة المعيقات من عدم وصول أموال شبكة الأمان ا!
لتي أقرت مؤخرا، بالإضافة لمشكلة اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان..
لا نحتاج إلى كثير من التحليل كي نقف على الخلل في منظومة الاقتصاد التي رسمتها ونفذتها الحكومة الفلسطينية منذ عام 1994 وحتى الوقت الحالي، وعلينا أن نقول الحقيقة بأن السياسة الاقتصادية التي اتبعت هي (الليبرالية الاقتصادية) وهذه السياسة لا تلائم مجتمعنا وظروفه السياسية، وكان بإمكاننا التعامل مع تلك السياسة بشكل آخر بحيث نقلل من حجم النفقات، والمساهمة في البرامج التشغيلية للقطاع الخاص والاستثمار فيه.. بدلا من أن يصبح القطاع الحكومي موطنا للبطالة المقنعة.. ومراقبة عمل المؤسسات الخدماتية كقطاع الكهرباء وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات باعتبارهما من البنية التحتية لنمو المجتمع، ويجب توفيرهما بجودة عالية وتكلفة معقولة بحيث تنعكس في القطاعات الأخرى.. كذلك كان علينا الاهتمام بالثروة البشرية التي لا نملك ثروة أغلى منها، وهذا يحتاج منا إلى الاهتمام أكثر بمؤسسات التعليم الأساسي والثانوي والجامعي بحيث تتلاءم مخرجاتها مع حاجة سوق العمل وتطويره بما يستوعب الطاقات الشابة ومساعدتها على المبادرة في تأسيس المشاريع المنتجة.. كذلك الاهتمام بالقطاع الصحي الذي يستنفذ من الموازنة الكثير.. وبدلا م!
ن التحويلات إلى الخارج كان يمكن أن يكون هذا القطاع مجالا كبيرا للاستثمار المربح ليصبح ملاذا سياحيا للأجانب، ويمكننا أن نذكر بأن غزة كانت في يوم ما ملاذا سياحيا لطب الأسنان وتدر دخلا لا يستهان به فيما لو تطور هذا المجال ونما.. ويمكن الاستفادة من هذا النموذج في نماذج أخرى كثيرة لو رسمنا البرامج والخطط لذلك..
الحديث يطول كل المجالات، لكننا نكتفي بما قدمناه من إشارات، ونحن أمام التحدي الكبير الذي ينتظرنا في بناء دولتنا العتيدة، وشعبنا ينتظرنا بأن نقوده للطريق الصحيح.. طريق القوة والاعتماد على الذات.. نعم سيادة الرئيس ! نعم لمراسيم تثبيت مؤسسات الدولة ومفاهيمها وعناوينها، لكن الأهم هو الجوهر وليس الشكل؛ فعندما يكون الجوهر قويا سيتلألأ العنوان ويقوى ليقبل التحدي..