من أحمد خالد توفيق في 07 نوفمبر، 2011، الساعة 06:35 مساءً
عن التنوير الزائف
كتاب قديم هو نسبيا، لكن كتب الدكتور جلال أمين تعطى نظرة بانورامية تتجاوز الأحداث الآنية مما يجعل منها كتبا صالحة لكل وقت تقريبا. لا أعرف لماذا تذكرته الآن.. بل أعرف السبب.. إن لم نتذكر هذا الكتاب فى هذه اللحظات المضطربة فمتى؟
إن الرجل كالعادة شجاع جدا، وهو يعرف أن الكتاب سيثير عليه غضب المثقفين، وسوف يعتبرونه فكرا يمينيا يحارب حرية الإبداع، لكنه يقول ما يعتقده دون مبالاة بمن يغضب ومن يبتهج. أختلف مع بعض أفكار د.جلال أمين فى هذا الكتاب، وبرغم هذا هو كتاب ممتع ومهم جدا. يمكنك سماع صوت ذهنك فى أثناء القراءة وهو يلوك الأفكار ويتلمظ بها من فرط استمتاع. الكتاب من سلسلة اقرأ، واسمه (التنوير الزائف).. صدر عام 1999. الكتاب أعتبره تكملة أو بروفة لكتاب آخر لعله أكثر منه حظا فى الشهرة، هو (خرافة التقدم والتأخر).
يبدأ د.جلال الكتاب شارحا الوهم الذى كان يسيطر عليه وزملائه فى الماضى عندما كانوا يعتقدون أن التقدم سلم كسلم عمارتك… هناك من ارتقوا السلم لآخره، وهناك الذين ما زالوا فى أسفله مثلنا. الجنة -حسب نظرية روستو- هى أن يكون دخلك مساويا لدخل المواطن الأمريكى (أربعة آلاف دولار فى السنة وقتها). ارتفاع الدخل يجلب بالتأكيد كل شىء جميل فى الحياة حتى الأخلاق والجمال. كانت صورة الغرب مشرقة براقة، فليس أمام الشعوب من أمثالنا إلا أن تركض لاهثة للحاق بهذه الصورة. النقطة الأهم هى أنه يؤكد أنه وكل الدارسين كانوا يتعاملون مع الغرب (شاعرين بالضعة والعار). عندما عاد الدارسون لأوطانهم اكتشفوا سذاجتهم.. اكتشفوا أن التقدم ليس حتميا وليس سلما صاعدا لأعلى.. بل هو أقرب إلى طرق متشعبة لكل طريق منها مزاياه وعيوبه، وما جناه الغرب فى التقدم الاقتصادى خسر مثله فى معدلات الجريمة والتفكك الأسرى والمخدرات والشذوذ، لدرجة السماح بزواج رجلين أو أنثيين. نعم نحن فقراء لكننا لسنا متخلفين أبدا.. التخلف الحقيقى هو هذا الشعور بالعار الذى يغمرنا عندما تتعامل مع الغرب. هنا يتذكر قصة هانس كرستيان أندرسون الرائعة عن الطائر الذى عومل كبطة قبيحة، بينما هو فى الواقع بجعة صغيرة جميلة. لو لم نتخلص من شعور العار هذا فسوف نجد بعد خمسين عاما أن لدينا سيارات أحدث ومحلات ماكدونالدز أكثر وكوكاكولا أكثر، لكننا سنظل نحتفظ بشعور الضعة هذا.
هنا أكتشف للمرة الأولى أن جلال أمين ليس من المعجبين بالفيلسوف زكى نجيب محمود.. فهو يرى أن الأخير كان ممن يتعاملون مع الغرب شاعرين بالعار. نعم.. أنا قرأت للدكتور زكى كتابات يرى فيها أن التراث العربى ذاته مجرد تكرار لتكرار لتكرار، وليس ثريا كما نتوهم، ومثل هذا قاله توفيق الحكيم تقريبا.
«ما كل هذا الحرص أن يرضى عنا الأجانب؟ وماذا يهم إذا اعتبرنا الأجانب جيدين أو غير جيدين؟» هكذا يسأل د.جلال، وهو يرى المذيعة التليفزيونية فى مؤتمر بالتليفزيون تستجدى من الضيف الأجنبى أى عبارة يمدح فيها مصر.
مثلا يقول الغرب إن ارتفاع معدل المواليد يؤدى لانخفاض نصيب الفرد من السلع والخدمات. هذه مقولة صحيحة، لكن لها استثناءات كثيرة.. وقد يؤدى ارتفاع معدل المواليد إلى ارتفاع معدل الناتج.. إن ما يصلح للسودان لا يصلح للهند. رفع حجم الأسرة فى فلسطين مثلا أهم بكثير من متوسط الدخل لأنها قضية وجود. إن الغرب يصر على فرض همومه علينا، بينما يرفض مثلا أن تقترح عليهم فتح أبواب الهجرة.
الشعور بالعار يتخذ صورا عديدة، لكنه يتخذ عند مثقفينا وفنانينا ما يعرف بالدعوة إلى (التنوير). لهذا يرى د.جلال أن هناك نوعا من التنوير الزائف فى بلادنا، هو فى الحقيقة وغالبا عبث بالأمة ومسخ لتراثها.
يرى د.جلال أن مفكرى القرن الثامن عشر فى الغرب كانوا ضد التعصب الدينى الذى أدى إلى انتشار الخرافة والسحر. لكنه يرى أن الأمر عندنا يختلف. التعصب الدينى ليس الصورة الوحيدة للتعصب المولد للفظائع. والإيمان بالدين ليس النوع الوحيد من التحيزات المسبقة. لذا من الخطأ اعتبار الدعوة لتحكيم العقل تساوى تلقائيا التخلص من الدين. أو اعتبار أن تخلص المرء من الدين هو السبيل الوحيدة لانتصار العلم والموضوعية.
إن رفض الدين ليس الشرط الكافى الوحيد للتخلص من التعصب. من الممكن أن تكون متدينا وعالما ومتسامحا، كما يمكن أن تكون كافرا وضيق الأفق وقاسيا. إن موقف التنوير باعتباره الهجوم على الدين فحسب موقف زائف. هناك فى تاريخ العلمانية عدد لا حصر به من الفظائع والمجازر ويكفى تذكر ما حدث مع الماركسية أو مع الثورة الفرنسية.
إن مثقفى التنوير يمارسون أحيانا قهرا لا يختلف عن قهر الكنيسة فى العصور الوسطى، ومن هذا إضفاء قدسية على أعمال خالية من أى فن، ويطلقون عليها هذا المسمى: (إبداع).
التدين لا يحول العالم إلى جاهل، كما أن الإلحاد لا يحول الجاهل إلى عالم بالضرورة.
هنا بشجاعته المعهودة يصطدم د.جلال مع الكثير من العقائد المقدسة عند المثقفين، فهو يرى مثلا أن طه حسين لم يكن بحاجة إلى الشك فى القرآن والسخرية من المتدينين فى كتاب (فى الشعر الجاهلى)، إلا لأن هذا (جديد) صادم. ولماذا طلب تدريس اللغتين اللاتينية واليونانية فى المدارس لتجديد الأدب العربى، لمجرد أنهم فى فرنسا يهتمون بهاتين اللغتين؟
إن الصدام مع طه حسين عنيف شرس فى هذا الكتاب، خصوصا عندما يقارن بينه وبين كاتب يهيم به حبا هو (محمد الغمراوى) الذى رد على طه حسين فى كتاب (النقد التحليلى لكتاب فى الأدب الجاهلى). وهو مفكر عظيم وأستاذ وعميد أسبق لكلية الصيدلة بجامعة القاهرة وقد طلب العلم فى أوروبا فذهب إليها متدينا وعاد متدينا، ولم يصطدم لديه العلم مع الدين قط. المقدمة بقلم شكيب أرسلان، وهو مفكر محترم آخر.
يدخر كتاب جلال أمين صداما آخر مع يوسف شاهين المخرج الأثير لدى المثقفين والذى يراه د.جلال متحذلقا يخاطب الغرب من فوق رؤوس المصريين!
يناقش الكتاب كذلك ظاهرة (تصغير الكبراء) السائدة فى الفكر المصرى، مع ظاهرة عبادة المستقبل التى تجعل البعض يهجر الحاضر.. والتى أفرزت ظاهرة أخرى هى عبادة الأطفال!
كتاب مهم جدا جدا ومن المؤسف أن المساحة المخصصة لى قد انتهت. اعتبر هذا المقال Teaser كما يقول الأدباء والسينمائيون.. وحاول أن تجد الكتاب الكامل فى أقرب فرصة