بسم الله الرحمن الرحيم
آكل الحسنات
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ثم أما بعد
فيا أخي الكريم – أرشدك الله لطاعته – اسمح لي أن أحدثك عن مرض من أمراض القلوب خطير , هو مصدر كل بلاء وطريق كل شقاء ومؤجج لنيران الحقد والبغضاء , وهو من أحط الصفات وأقبح السمات , بسببه تفرق الأصحاب وتهاجر الأحباب , وتقطعت الأنساب إنه داء الحسد أول ذنب عصى الله به حيث رفض إبليس السجود لآدم , وقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) وبسببه قتل قابيل أخاه هابيل .
والحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: الحسد من أمراض القلوب , وما خلا جسد من حسد , ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه .
أخي –رعاك الله – اعلم أنه لا يتصف بهذه الخصلة الذميمة إلا ذوو النفوس الضعيفة , فذنب المحسود إلى الحاسد دوام نعمة الله عليه ليس إلا >
قال أبو الليث السمرقندي – يرحمه الله - : يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود أولها : غم لا ينقطع . والثانية : مصيبة لا يؤجر عليها . والثالثة : مذمة لا يحمد عليها . والرابعة : سخط الرب . والخامسة : يغلق عنه باب التوفيق والعياذ بالله . أ .هـ
ألا قل لمن ظل لي حاسدا ** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه ** لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني ** وسد عليك وجوه الطلب
وقد نهانا نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – عن الحسد فقال : - كما في صحيح البخاري ( لا تحاسدوا) وحذرنا منه – عليه الصلاة والسلام – فقال : ( واياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) .
يقول العلامة ابن القيم – يرحمه الله -: وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها , فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفسه وطبعها ليس هو شيئاً أكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها . أ.هـ
يقول ابن حبان – يرحمه الله -: الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء . ثم قال : والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه والعياذ بالله . نسأل الله أن يطهر قلوبنا جميعاً من الحسد .
وتفكر – رحمك الله – فيما ذكره عمرو بن ميمون أنه قال : رأى موسى – عليه الصلاة والسلام – رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل الله عنه , فقال ألا أخبرك بعمله ؟ كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله .
ولا يخفى عليك – وفقت لكل خير – أنه لا يكاد يوجد الحسد إلا لمن عظمت نعمة الله عليه فكلما أتحفه الله بازدياد النعم ازداد الحاسدون له بالمكروه والنقم .
وكان داود بن علي – يرحمه الله – ينشد كثيراً
إني نشأت وحسادي ذوو عدد ** ياذا المعارج لا تنقص لهم عددا
إن يحسدوني على ما كان من حسن ** فمثل خلقي فيهم جر لي حسدا
ويقول الآخر :
ليس للحاسد إلا ما حسد ** وله البغضاء من كل أحد
وأرى الوحدة خيراً للفتى ** من جليس السوء فانهض إن قعد
أخي – أرشدك الله لطاعته – ومع أن الحسد كله سيئ إلا أن أسوأه الحسد الذي يكون بين طلاب العلم والدعاة تجاه أقرانهم وزملائهم . ويستغرب الإنسان أن يقع منهم ذلك , ولو كانوا من الجهال وضعاف النفوس لم يستغرب الإنسان , لقلة الإيمان في قلوبهم وقلة العلم في صدورهم .
وقد ذكر عن ابن سيرين أنه قال : ما حسدت أحداً على شيء من الدنيا , لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة ؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى النار ؟
يقول صلى الله عليه وسلم – كما في حديث الترمذي عن الزبير بن العوام – رضي الله عنه – دب إليكم داء الأمم قبلكم . الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر , والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم .
ولتعلم – سدد الله خطاك – أن الحسد من شر معاصي القلوب , ومعاصي القلوب وهي أشد إثماً من كثير من معاصي الجوارح فما أخبث داء الحسد ! إنه ليعمي بصيرة الحاسد ويجعله كالهائم يمشي على غير هدى , فما يزال في سيره يتعثر , وفي ظلماته يتخبط ويتكسر . يتمنى لنفسه السعادة فيقيم بينه وبينها حجاباً مشقياً له من حسده الخبيث .
فيا سبحان الله العظيم ! كم من زوجين متحابين ترفرف على بيتهما السعادة كان لهما حاسدون واشون أفسدوا ما بينهما – وكم من أصحاب متآخين في الله دخل بينهما حاسدون فرقوهم وأثاروا بينهم العداوة والبغضاء . وكم من محصنة عفيفة شريفة , أشاع عنها الحاسدون الفواحش . وكم من أمين خونه الحاسدون فأردوه بالخيانة . وكم من صادق رماه الحاسدون بالكذب . وكم من عالم طعنه الحاسدون بالجهل وكم من داع إلى الحق صادق مخلص وصفه الحاسدون بالرياء والسمعة والمقاصد السيئة .
وهكذا يقطع الحسد وشائج المودات وصلات القربات , ويفسد الصدقات , ويولد في الناس العداوات , ويفكك أفراد المجتمع ويباعد بين الجماعات .
قال معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – لابنه : يابني إياك والحسد , فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك .
قال الماوردي – يرحمه الله - : اعلم أن الحسد خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين حتى لقد أمر الله بالاستعاذه من شره فقال سبحانه : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) وناهيك بحال ذلك شراً . ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجه نحو الأكفاء والأقارب , ويختص بالمخالط والصاحب لكانت النزاهة عنه كرما ً والسلامة منه مغنماً , فكيف وهو بالنفس مضر , وعلى الهم مصر , حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف من غير نكاية في عدو ولا إضرار بمحسود .
قال بعضهم : الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً , ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً , ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً , ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً , نسأل الله السلامة والعافية .
ولما سئل الرسول – صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أفضل ؟ قال : ( كل مخموم القلب صدوق اللسان ) قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب ؟ قال : ( هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ) رواه ابن ماجة – فاحرص أخي على أن تكون مخموم القلب صدوق اللسان .
وأختم كلماتي هذه – أرشدك الله للصواب – بذكر مضار الحسد : فهو إسخاط – لله تعالى – إذ الحسود لا يرى قضاء الله عدلا ولا لنعمه من الناس أهلاً والحاسد لا يجد لحسرته إنتهاء ولا يؤمل لسقامه شفاء , مع مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبا ولا منهم ولياً فيصير بالعداوة مأثوراً وبالمقت مزجوراً , والحسد يجلب النقم ويزيل النعم , والحسد منبع الشرور ويورث الحقد والضغينة في القلب , وهو معول هدام في المجتمع ودليل على سفول الخلق ودناءة النفس .
اللهم طهر قلوبنا من الحسد اللهم طهر قلوبنا من الحسد اللهم طهر قلوبنا نمن الحسد , ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين