قراءة نقدية في قصيدة الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري (عصر المغاوير)
بقلم: محمود فهمي عامر
استعان معروف الرصافي في قصيدته المشهورة (هي الأخلاق ) أو (تربية البنات) التي دَرَسْناها في المراحل الإعدائية وَدَرَّسْناها بقافية تنتهي بـ (الأف والتاء) أي بجمع المؤنث السالم، وبالبحر الوافر الجميل، أما الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري فمال في قصيدته (عصر المغاوير)، التي أهداها لي بعد همسته الرقيقة أثناء تعليقه على قراءتي النقدية لقصيدة (يا قديستي الحلوة) في مجلة الفوانيس المنشورة بتاريخ 20 – 4 – 2009م، إلى جمع التكسير وغرف من بحره البسيط أملا في عودة المرأة إلى بساطتها وجمال وافرها التقليدي، ولست هنا في درس لغوي للجمع وأنواعه، أو عروضي، ولكنني أحاول أن أخرج بدلالة لهذا الاستعمال الصرفي، وذلك السحر الخليلي في القصيدتين.
إن لمفهوم الجمعين علاقة بالمرأة في قراءتي النقدية لهذه القصيدة الرائية، فالمرأة كانت زمن الرصافي لا تعاني كثيرا من غربتها أو من محاولة طمس وجودها الحقيقي أو دورها الإنساني في المجتمع، ولهذا جاءت سالمة من التغيير، أما عبد اللطيف غسري المعاصر لتنويم المرأة المغناطيسي، فقد وجدها مكسورة أو مسلوبة الإرادة بتلك المحاولات الكثيرة التي تسعى إلى تغيير ملامحها أو صورتها الذاتية التي اعتدنا عليها في كياننا الأسري، وهي في ظلها لا تختلف عن حال جمع التكسير، الذي لا وجود له أو نور إلا بتغيير صورة مفرده أو تكسيره.
وبهذه القافية الرائية المكسورة بجرها أو إضافتها إلى أشياء لا تليق بعالم المرأة في دنيا الشاعر، يحبك عبداللطيف وقائع من حياة المرأة بأسلوب شيق، ويقدمها لنا في صور تتحول إلى رأي نقدي في المرأة ونظرة الآخر إليها.
والراء في عرفي العروضي (رأي ومرآة)، وهذه القصيدة كالمرآة التي فيها صورة المرأة وواقعها، كالقطة التي تنظر في المرآة فترى نفسها أسدا، هي رائية المشاهد لها، ومن يحاول أن يجعلنا نرى المرأة خلاف ما هي عليه، وحرف الراء كما نعرفه في علم الصوتيات يُنْطَقُ بِتَكْرَارِ الاتّصَالِ وَالانْفِصَالِ السَّرِيعَيْنِ، والحرف هنا يؤكد ذلك الإلحاح الغربي في اتصال المرأة بعالم يجعلها تنفصل خلاله عن عالمها الحقيقي؛ لتصل إلى مخرج تجهر فيه بغير المرغوب أو المطلوب من المرأة، أو لتبدو بصورة مشوهة.
والشاعر في هندسة قصيدته تقليدي الملامح، ملتزم بالقافية والوزن؛ ليعبر في المقابل عن نظرته نحو المرأة الملتزمة بتقاليدها وعاداتها ودينها، هو يريدها متبرجة من ملامحها الجديدة وقصيدتها النثرية التي يحاول الكثير أن يجعلوها أسيرة فيها، أو سمة تلازمها في نظرة الغرب إليها.
بهذه المسيرة الشكلية وهندستها الخارجية عبر الشاعر بقوة عن مضمون قصيدته التي جعل عنوانها كمن يشارك في طعام لم يدع إليه، فدخل متسللا سارقا، وخرج مغيرا؛ ليشبه حال من يريد تغيير المرأة العربية بحال السارق الذي أغار على بلادنا، ونهب عقول النساء منها بحجة تطويرها ومواكبتها للعصر، والمرأة في ظل هذه الفوضى وقتامتها لم تجد رجلا من أهلها مغوارا يقف في وجه هذه الموجة، ويسترد ما سلب منها في عصر مغاويرها الجدد.
وبهذا المضمون الشعري غار الشاعر في مغار عندما رفض أن يكون للمرأة يوم واحد أو عيد تستبشر به ربات المناقير الجواثم:
في يومِ عيدِك تشدو بالتباشيــر **** على الخمائل رباتُ المناقيــر
ويورقُ الزهرُ بالأشواق مغتبطـا **** مورّدَ الخد ريانَ الأساريــر
ولا أرى أن الشاعر هنا يستبشر بعيدها، ويصف حالها أثناء ذلك، وإلا تناقض مع نفسه ودعوته الرافضة للنظرة الغربية إلى المرأة، والعيد جزء منها، والبيت الثالث خلال فهمي جاء ليحمل معنيين، الأول المخفي الذي يؤكد فيه الشاعر رفضه لهذا العيد أو الاحتفال به عندما عظم المرأة العربية بندائها الذي يستنكر تقليد غيرها من النساء الغريبات عن ديدن طبيعتها العربية والإسلامية، والثاني الظاهر الذي يكشف فيه القناع عن تلك الفئة من النساء المتحررات اللواتي خرجن عن المألوف، وانبرهن بالشكل الخارجي الذي يطالب بحق ينزع منهن كل الحقوق، وهذا ما دفعه إلى تحية الصنف الأول من النساء اللواتي يقمن في بيوتهن محافظة على الأسرة بكل مخرجاتها، ولكنني في المقابل لا أرى المرأة في هذا الجانب فقط، وليست كل النساء العاملات من ذوات الفوازير، ولا يليق كذلك بالقعيدات:
يا كل بنتٍ من الدنيا أو امْــرأةٍ **** ترجو اللحاقَ بأسرابِ الشحارير
تحية لقعيداتِ البيـــوتِ وهـ **** ـن عاكفـاتٌ على حل الفوازير
يحلمنَ غيرَ كليلاتِ القلـوب ولا **** مستسلمـاتٍ لأهـوالِ المقاديــر
يبحثنَ في شفق الآفاق عن ألـق **** بـه يحطمن أسـوار الدياجيــر
يرقبنَ فيه وصالَ البدر مكتمـلا **** وفيه يجْتزْنَ أعشـاشَ الدبـابيـر
يَثِبْنَ منه إلى حقلِ الضياءِ بأحـ **** ـلام الصبايا وسيقـان اليعـافيـر
ويستعين الشاعر في ثنايا أبياته السابقة بالصورة الفنية ونوعي الجمع؛ ليوضح فكرته وليزيدها إشراقا، وهو على الرغم من تلك الازدواجية العجيبة في طرح المعاني التي تجعل القارئ يتوقف كثيرا قبل فك رموزها أو معرفة مقاصد الشاعر بجلاء، إلا أنه استطاع بأدائه الشعري المعتمد على المفردات ودلالاتها وتناقضات حالها أن يكشف نوعه المفضل من النساء، ولعلهن الحالمات وغير الضعيفات أو المستسلمات اللواتي يجتزن أعشاش الدبابير ويكسرن (الدياجير) بنورهن، وكما نلاحظ هنا فالشاعر استعمل لهذا الصنف (الألف والتاء) ليؤكد ضرورة أن تكون المرأة بهذا الوجود الإنساني، ثم جعل التحطيم لغيرها من المفاهيم المستوردة حين استعمل جمع التكسير.
وينتقد الشاعر بسخرية وقلق في قصيدته كثرة المتشدقين الثرثارين المتوسعين في كلامهم من غير احتراز أو احتياط في واقعنا، وكل مستهزئ بعادادتنا وتقاليدنا وثوابت المرأة في حياتنا، والشاعر هنا لا يفرق بين غربي أو من كان من ربائبه، وأمسى تابعا لكل ناعق في عصر المغاوير كما وصفه:
فكـم تشـدقَ أربـابُ الكـلامِ علـى **** منابر الغربِ في عصرِ المغاويـر
قالـوا ارْتقتْ لسنام المجـد نسوتُنـا **** وطرْنَ فـوق ذراه كالعصافيــر
وصرْنَ عـونا لنا في صنع نهضتـنا **** ماء السواقي خدين للنوافيــر
والمرأةُ اليوم في الشرق ارْتـوتْ ضـجــرًا ** من المكوث بأغـوار المطاميــر
ضاقتْ بها عتباتُ البيتِ وهْيَ علــى **** حالِ الوقـوفِ بأذيال الطوابيــر
تقتاتُ من عدس الأبنـاءِ فـي طبـق **** يأبـى روائحَه سـربُ الزنابيــر
وإن هفتْ لعبير الشـرق وانطلقــتْ **** أمست حديثـا بأفـواهِ الجماهيــر
وظهـرُها بسـياطِ القهـر ملتهـبٌ **** والعقلُ يرزحُ فـي نيْر الأساطيـر
وهو عصر كما يبدو في مغاويره الجدد لا يعترف إلا بميدان العمل المختلط، ولا وجود لحق المرأة وإثبات ذاتها إلا فيه، وهؤلاء يسوقون أفكارهم الهدامة خلال حرصهم الكاذب على ضرورة تعلم المرأة ومشاركتها في الحياة العملية، وهم كمن يدس السم في العسل بدموع التماسيح على المرأة العربية التي لاقت الهوان والتخلف في عصر لا يقدر هويتها الشرعية كما يزعمون، وما جاءني المثل السابق المزدوج إلا من كلمة (العدس) المستعملة في قصيدة الشاعر، ومثلها الشائع في بلاد الشام المختص بتفسير الأمور على غير حقيقتها (اللي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس)، وهذا يقودني إلى تلك الكلمات أو التراكيب المختارة بعناية؛ لتعبر بإيماءاتها عن مثل ثالث، وهو (لكل مقام مقال) ومن هذه التراكيب: (أغوار المطامير، وأذيال الطوابير، وسرب الزنابير)، والشاعر ينقل لنا خلال هذه التراكيب القطرانية حجتهم الواهية التي لا تنطلي على ذوي العقول الراسخة في العلم.
هذا العلم الشرعي جعل الشاعر عبد اللطيف غسري يكرر اسم الفعل (رويد) الذي نشم فيه إرادة شاعرية ووعيدا يخاطب المتفيهقين بتصغيرهم وتحقير شأنهم الذي يتسلل من سكون خستهم؛ ليعلن أن حال المرأة في بلادنا على غير حالكم أو وصفكم لها، أو كما نقلت مصادر استغرابكم بعد استشراقكم، أو كما تريدونها سلعة في متاجركم، وعلى غلاف مجلاتكم، هي المرأة عندنا الإنسانة التي كرمها الإسلام وحفظ حقوقها، وجعل لها سورة في القرآن الكريم لعظيم شأنها، هي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وكنايته خلال حياته، والوصية البارزة بتكرار حضورها في حجة الوداع، وهي خير المتاع، فلا حظ لكم في نسائنا بقرآننا الكريم وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن سار على درب الصالحين والصالحات، والطيبين والطيبات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
رويدَكمْ أدعياءَ العلـــمِ إن محـا **** قَ البدر يُرصدُ فيكـمْ بالمناظيــر
لقد دققتمْ بنعش الحق من زمــن **** في ملتقى زيفكم شتى المساميــر
وقد عَدوْتمْ على أغصـان دوحتِنـا **** وغركمْ صمتُ أشباهِ النواطيـــر
وأن غـدوْنا بألـواح محطمـــةٍ **** فوقَ الصخـور وأقلامٍ مكاسيــر
وليس ينفعـكمْ فـي درءِ خِستِكـمْ **** دق الطبول ولا عزفُ المزاميــر
رويدَكمْ فرسـولُ اللهِ قال لنـــا **** يا أمة الخـير رفقاً بالقواريـــر
فهن متعة دنياكـمْ وهن لكـــمْ **** نِعْمَ الصواحبُ في كل المشاويــر
وهن فـي منهل التقوى شقائقكـمْ **** في الصالحاتِ وفي حسن التدابيـر
لهن فـي حكمةِ الميراثِ منفعـة **** تعيي مدارك أصحاب المعاذيــر
للبنتِ في شِرعةِ الإسلامِ منزلـة **** غراءُ تَصمدُ في وجهِ الأعاصيــر
وفي الحجابِ لها صونٌ لعفتِهــا **** جـاءتْ بذلك أسـفار التفاسيــر
لكن نسوتَكمْ فـي عُرفِكمْ سلــعٌ **** قد تُشترى بالهـدايا والدنانيـــر
يبعن في كل أسواق الهوى عرقا **** يجـري سيولا بأبواب المواخيـر
ينشرن فلسفة الإسفاف في صفحا **** ت الليل أو في مجلات المشاهيـر
يصنعن منها خريفا للحضارة لا **** يخضـر إلا بأذهـان المغاميــر
هكذا وجدت عبد اللطيف غسري إنسانا غيورا يستحق التقدير والثناء، وشاعرا خطيبا يحسن استغلال الكلمات المعبرة عن معانيها، ويعي مفهوم الأثر والأصل واحتمالية المحو والمحاكاة، ووجدت قصيدة أعادتني إلى عصر النهضة الشعرية أدرسها غير التي اعتدنا عليها في مدارسنا، وعاصرت خلال هذه القصيدة نفسا شعريا تقليديا زاكيا بالصورة الجزئية والمركبة، ومناسبا لمؤسستنا الاجتماعية وقيمها التي نقمش عنها في قصيدتنا العربية الملتزمة بعمود الشعر العربي.
محمود فهمي عامر
الدوحة ـ قطر
15 / 5 / 2009