رسائل التطمينات الرّبانيّة (1)
ممّا يزيد المرءَ شرفاً وتيها ، ويكاد بأخمصه يطأ الثريّا ، حصولُه على رزمة ضمانات ، وحزمة تطمينات ، من لدن ذوي الطّوْل والحوْل والكيانات ، تطمينات واعدة بديمومة سُؤددهم ، واستقرار طيب حالهم ، وظفرهم في ميدان مراغمة عدوّهم ، وحياطتهم بالرعاية مِن كلّ ما يكاد لهم ويُحاك ضدّهم ، ودرء ما ينغّص أحوالهم ، وينكّد عليهم رغد عيشهم ، وتبديلهم من بعد خوفهم أمنا ، ومن بعد غُرْمهم غُنما ، فتلك آمال تظلّ تخالج القلوب ، ولطالما ضرعت الأكفّ تطلبها من علاّم الغيوب !
فكيف إذا ما أجيبت دعوة الناس فنالوا طِلبتهم وحقّقوا بغيتهم تلك ، ليس من ذوي الكيانات الأرضية الزائلة وإنما من لدن مالك المُلْك ؟! ربّ الأرباب ، مُسبّب الأسباب ، الذي قال عن نفسه { والله غالب على أمره ولكنّ الناس لايعلمون } ( يوسف21) أي : (أي لا يغلب اللهَ شيءٌ ، بل هو الغالب على أمْر نفسِه فيما يريده أن يقول له : كن فيكون ) (تفسير القرطبي 9/106) والقائل : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم }(فاطر2) أي أنّ ( مَفَاتِيح الْخَيْر وَمَغَالِقه كُلّهَا بِيَدِهِ ، فَمَا يَفْتَح اللَّه لِلنَّاسِ مِنْ خَيْر فَلَا مُغْلِق لَهُ ، وَلَا مُمْسِك عَنْهُمْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْره لَا يَسْتَطِيع أَمْره أَحَد ، وَكَذَلِكَ مَا يُغْلِق مِنْ خَيْر عَنْهُمْ فَلَا يَبْسُطهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَفْتَحهُ لَهُمْ ، فَلَا فَاتِحَ لَهُ سِوَاهُ ، لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلّهَا إِلَيْهِ وَلَهُ ) (تفسير الطبري12/115 )
إذا كان ذلك كذلك فستكونُ التطمينات القادمة من لدنه عز وجل تطميناتٍ بهيّة ، وضماناتٍ عليّة ، ورسائلَ بشاراتٍ سَنيّة ، لأنها عصارة من الصدق المحض ، التي لا يعكّر صفوَها تخرّصات ، ولا تشوبها شائبة شك وارتياب ! بل وتوحي بأنّ لصاحبها عند ربّه لزلفى وحسن مآب !
في ضوء ذلك : فقد حفل القرآن الكريم برسائل التطمينات الربّانية لجموع المؤمنين ،التي تؤتي أكلها في كلّ زمان وحين ، وتنوّعت هذه الرسائل فكان منها : رسائل تطمينات فكرية ، وأخرى نفسيّة ، وسياسية ، وعسكريّة ، واجتماعية ، واقتصادية ... كلّها تعِد أهل الإيمان وتهديهم إلى نهج أقوم ، ومواقف أحكم ، تدرأ عنهم كلّ مَغرم ! وتُسلمهم إلى كلّ مغنم ، وتئول بهم إلى مآلٍ حسن وعاقبة أسلم !
وقد تنوّعت أفانين القرآن الكريم في عرض هذه التطمينات :
فتارة تعرَض في سياق وعود ربانيّة إن بلفظ جليّ أو خفيّ وذلك من باب التأكيد على قطعيتها إذ الوعد الربانيّ لا يُخلف { وعْدَ الله لا يُخلف الله وعده ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون } (الروم6)
وتارة تعرض في سياق بشارات إلهيّة تبهج النفس ، وتشيع في جنباتها أجواء السكينة والأنس ، { فبشّر عباد } (الزمر17)، { وبشر المؤمنين }(التوبة112) ، { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }(يونس64)
وتارة تعرض بأسلوب النهي المفسَّر : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا } ( آل عمران176 )
وتارة تعرَض في سياق سنن ربانية إيحاء بأنه لا تبديل لها ولا تحويل ، إذ هذا ديدن السنن الربانية وسمتها ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا } (فاطر 43 )
والسنة في اللغة : الطريقة ( لسان العرب 13/225) وفي الاصطلاح القرآنيّ : (عادة الله في خلقه ) ( التحرير والتنوير لابن عاشور 4/97)
وغيرها من الأساليب القرآنيّة الحكيمة ، التي تشق إلى العقول سُبُلا حصيفة مستقيمة ، وإلى القلوب مداخلَ نفسيّة لطيفة قويمة !
أمّا ما كان من رسائل تطمينات فكريّة ، فتتمثل في تلكم الآيات التي تؤسس لقناعات في النفس راسخات ، ويقينيات مستقرّات ، من شأنها أن تنوّر الجَنان ، وتلقي بظلالها الخيّر على الوجدان ، فتكون باكورة انطلاقة سلوكية فاعلة واعدة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
تلكم الرسالة التي انطوت عليها الآية القرآنية { الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } (الشورى 13) أفادت هذه الآية الكريمة أنه مَنْ أقبل على الله بالتوبة ، وسلك إليه مسلك الأوْبة ، أكرمه ربّه بالهداية وانتشله من وهاد الغواية ، وفي هذا قال مجاهد – رحمه الله تعالى –: ( ويوفق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به نبيّه – صلى الله عليه وسلم – من الحق ، مَن أقبل إلى طاعته ، وراجع التوبة عن معاصيه ) ( تفسير الطبري25/16)
ومنها الرسالة التي جاءت في ثنايا قوله تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (البقرة112) لتفيد أنه : من تذلّل لله بطاعته ، وانقياده لأمره ، واتباعه لهديه ، أمّنه ربّه مما يخافه من المحذور ، وحباه بجزاء من عنده موفور، وعنى بإسلام الوجه : التذلّل لطاعته ، والإذعان لأمره ، وخصّ جلّ ثناؤه إسلام الوجه دون سائر الجوارح لأنه أكرم أعضاء ابن آدم جوارحه ، وهو أعظم عليه ، فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له !
وقوله { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قال ابن كثير – رحمه الله تعالى - : ( ضمن لهم بذلك تحصيل الأجور ، وأمّنهم ممّا يخافونه من المحذور ، ( ولا خوف عليهم ) : فيما يستقبلونه ( ولا هم يحزنون ) : على ما مضى ممّا يتركونه ) ( تفسير ابن كثير 1/285،286)
وعلى شاكلة الآية السابقة قوله تعالى : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ( البقرة27)
ومن رسائل التطمينات والبشارات الرّبانية في هذا السياق قوله تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } ( المائدة 15،16) قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسيره لهذ الاية { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } : ( أي طرق النجاة والسلامة ، ومناهج الاستقامة ، { ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي : ينجيهم من المهالك ، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور ، ويحصّل لهم أنجب الأمور ، وينفي عنهم ، ويرشدهم إلى أقوم حالة ) ( تفسير ابن كثير 3/68)
كما يطالعك في هذا السياق ، سياق رسائل التطمينات والبشارات الفكرية قوله تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى } (طه173) قال ابن عباس – رضي الله عنهما - : ( فقد أجار الله تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا أو يشقى في الآخرة ) ( الثعالبي : الجواهر الحسان 4/72)
وثمّ ضمانة ماضية من ربّ العالمين ، أنّ العاقبة المحمودة هي دوماً من حظ المؤمنين ، فقال عزّ من قائل : { والعاقبة للمتقين } (الأعراف 128) قال الطبري – رحمه الله تعالى - : ( العاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه ، فخافه باجتناب معاصيه ، وأدّى فرائضه ) (تفسير الطبري 9/27)
ومنخول القول في هذه التطمينات : أنّ هناك ذخيرة فكريّة نيّرة ، ذات حصادات خيّرة ، ضمّنها الله تعالى كتابَه ، مَن تعاطى أسبابَها حازها ، فغنم وظفر وهُدي في ميدان الخير إلى كلّ حُلّة، ووُقي من كلّ مُزلّة ومُضلّة ، فهل من مدّكر ؟!!