٣١ أيار (مايو) ٢٠١٠بقلم لعروسي لسمر
يطرح الدين سؤال الجسد بما هو نظام من الغرائز والشهوات لكنّه يتجاوز هذا المستوى من التعامل ليندرج في الحيّز الثقافي والعلامي أو السيميائي فيصبح "الجسد نسقا من الأنظمة العلاماتيّة الضمنيّة" على حد قول "غريماس" ويتألف المعنى هنا من التشكّل الفضائي الجسدي الذي يخصص للجسد داخل العالم "فالتحديدات الفضائية تشكل كنه الشيء، إنها تشكل المعنى الوحيد الممكن للشيء في ذاته" على حدّ قول ميرلوبنتي. وينفتح المعنى هنا على جدل الجسد والشهوة، فتتداخل حقيقة الجسد المادية بحقيقة الرغبة السيكلوجية في أشكال معقدة ومترابطة. وتوصف الرغبة بأنها مسافة بين الحاجة والإشباع، فإذا كانت الحاجة هي أصل الرغبة فإنّ الإشباع هو هدفها وغايتها. و الدين باعتباره جزءا مهما من الثقافة عمل على تهذيب اندفاعات اللذة والحد من جموحها. فضبط حدودا وقواعد تسيّر النشاط الجنسي وتضفي عليه قدرا من الروحنة والقداسة.
وظلت المحارم الجنسيّة موطن إدانة في نظر الموقف الدّيني، لكن تلك الإدانة ليست مطلقة، لأن الهدف من ذلك يتّصل بتقعيد اللذات ودمجها في مؤسّسة الزواج. فلئن وضع الدّين قيودا على الممارسة الجنسية "الهامشيّة" أو "اللذة المحيطيّة"، ورمى بكل ما هو خارج مؤسسة الزواج في دائرة المنبوذ والمقصيّ والمحرّم فإنّ اللذة في الإسلام على وجه الخصوص ، وفي حد ذاتها لم تكن موضع تحريم بقدرما كان التجريم منصبّا على العلاقات التي لا تستند إلى عقد الزّواج. على أنّ مؤسسة الزواج نفسها لم تكن تخلو من المراقبة التي تهتم بالممارسات الحميميّة واستعمال اللّذات. فتصل حدود المنع إلى لممارسات الغريبة وغير الطبيعيّة والتي تحيل على الجنسيّة المثليّة، كإتيان المرأة من الدّبر أو ما اصطلح عليه بـ"اللّواط الأصغر". فكان الإسلام حريصا على أن تكون الجنسانية مبرّأة من الأثم على اعتبار أنّ النموذج الإسلامي توليف متناسق، وعلاقة محكمة منضبطة بين المتعة والإيمان. أما بقية الجنسانيات "غير العادية" أو التي تشذ عن القواعد كالمثلية (الأنوثية والذكوريّة) فهي محل تحريم ومنع مطلقين.
1- الدين والمحرّم الجنسي: جدل الشهوة والمؤسسة
كان الهدف الأساسي من وراء الجنس أو "الجماع" بالاصطلاح الكلاسيكي هو الإنجاب. وقد شكلت هذه الحقيقة علّة التحريم والإباحة أو أساس النظرة الدينية للجنس. فصاغ قاعدة عامة توصي بضرورة "زوجنة" النشاط الجنسي وتشريعها مقابل إدانة كل العلاقات الجنسية القائمة خارج المؤسسة الزوجية. وهذا ما يتناسب مع الفكرة المسيحيّة القائلة بأنّ اللذة دنس في ذاتها وأن لا شيء يجعلها مقبولة غير حالة الزواج المشروعة." وهكذا تم تضييق اللذة وإضفاء المشروعية على الموقف الديني مقابل المبالغة في تحريم كل ما يتنافى معه. يقول فوكو: " الجنسانية قد انسحبت بعناية فقد صادرتها الأسرة الزوجية وأدمجتها كليا في جديّة الوظيفة الإنجابيّة ". كما أصبح الزواج المنجب يمارس سلطته ويقدم نفسه نموذجا يمتلك الحقيقة، أما بقية الممارسات فهي ضرب من ضروب "الجنسانية المتوحشة". فكان ارتكاب المحارم يتصل بالعلاقات بين الأهل والأولاد. ولهذا يؤوّل اتصال بالمحارم في الحلم بخسارة الأموال أو المرض والموت كما جاء في مدوّنة "أرتيميدور". ولم يكتف الدين عند حدود منع الممارسات غير الزوجيّة، بل صاغ جملة من النشاطات تدخل تحت آداب المعاشرة الزوجيّة.
1-آداب السلوك الزوجي
تميّز الأدبيات الجنسية أو "السكسيولوجيّة" بين الممارسات الجنسية بحسب الشريك: الزوجة والعشيقة والمومس، وكان ثمة شيء من العار في معاشرة المومسات. وكانت علة التحريم تتعلق أساسا بإنفاق المني بلا جدوى وفقدانه دون كسب الخلف الذي تؤمنه الزوجة، فضلا عن الخوف من تداخل الروابط الدمويّة أو "النسبويّة". ولتفادي تلك العلاقات المدانة بحثت تلك الأدبيات في سبل تحقيق أكبر قدر من اللذة بين الشريكين، عن طريق ما يمكن وسمه بـ"آداب النصائح الزوجيّة". كما تبحث في طرق تحقيق الخلف. وكانت المرأة في المجتمع المتعدد الزوجات في موقف تنافسي "حيث يوجد بين وضعها وقدرتها على الإمتاع. كان التساؤل حول السلوك الجنسي وأشكال إتقانه الممكن جزءا من التفكير حول الحياة البيتيّة." ولذلك كان الميل إلى تعريف الزواج على أنّه حيّز حصري للعلاقات الجنسيّة المقبولة أخلاقيا، يشرّع لمبدأ "الاحتكار الجنسي المزدوج". لعل أهم النصائح يتمثّل في معادلة تحقيق أكبر قدر من المتعة مقابل إنفاق أقل نسبة من الجهد. وفي ذلك ضمانة لصحة الجسد ومراعاة لطريقة الممارسة الطبيعيّة للجنس.
ومن هنا يفترض "أرتيميدور" وجود شكل محدد فرضته الطبيعة بالنسبة إلى كل جنس من الأجناس. أي أنه لا توجد إلا وضعية "طبيعية" واحدة خاصة بالبشر، وهي "وضعية المواجهة" أي "أن يكون الرجل ممدّدا فوق المرأة. وبهذا تكون المعاشرة الجنسية فعل امتلاك كامل، يكون الرجل مالكا "لجسد رفيقته كلّه"". أما بقية الوضعيات فكانت منبوذة، لأنها تحيل على الإفراط والانحرافات الغريزية. وتنذر هذه العلاقات غير الطبيعيّة بالعداوة والورطة. ومن بين الشهوات المنحرفة يشجب "أرتيميدور" بوجه خاص الشبقيّة الفمويّة ويسمها بالزلّة الخلقية لما تحتويه من إفراغ عبثي للمني.
وقد بني اقتصاد اللذات في الزواج بتأثير من الأخلاقية المتشدّدة التي تمنع معاملة الزوجة معاملة العشيقة، أي أن العلاقة الزوجيّة تختلف عن العلاقة العشقيّة. فتعويد الزوجة على "لذّات مفرطة الشدّة قد يلقّنها عبرا تسيء استخدامها وتجعل الزوج يندم على تلقينها إيّاها." فكانت تلك الأخلاقية توصي الاعتدال والوسطية في استعمال اللذات الزوجيّة عن طريق بانتهاج سبيل وسط بين التقشف الزائد والسلوك القريب من سلوك العاشقين. وأن يتذكر الزوج باستمرار أنه لا يمكنه "أن يقيم علاقة مع المرأة ذاتها، كزوجة وعشيقة في آن". ووضعت شروطا تحدّد تصرفات الزوج مع زوجته فلا بد له من أن يقترب من زوجته بطرق مهذّبة ومعاملتها "بحشمة ولياقة". وتحرص هذه الأخلاقيات على استبعاد اللذة باعتبارها غاية الممارسة الجنسيّة ومن ذلك إتيان المرأة من الخلف.
اللواط الأصغر
ينعت باللواط لأن الفعل الجنسي فيه يتجه إلى الخلف، ويوصف بالأصغر لأنّه يتّصل بالعلاقة الغيريّة. فالدين يحدّد الحدود المسموح بها في إتيان المرأة. لأنّ الإيلاج في الدبر يعدّ فاحشة تفتح الممارسة على إهدار الطاقة واللاطبيعة وتجعل الجنسانية منحرفة وغير منتجة. ويقول الجاحظ في هذه المسألة في "رسالة تفضيل البطن على الظهر":"وفضل الله تعالى البطون بأن جعل إتيان النساء وطلب الولد والتماس الكثرة مباحا من تلقائها محرما من المحاش، من ورائها لأنّها حرام على الأمّة إتيان النساء من أدبارهن".
لكن هذه المسألة ظلت موضوع خلاف إذ "سئل بعض الفقهاء عن إتيان المرأة من دبرها، فقال إنّ الله تعالى يقول: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ" والأست مزرعة الفرج فمن حلّت له القرية حلّت له المزرعة". ويعدّ الفرج حضورا طبيعيا في الجسد لانفتاحه على الأمام، كما يشير إلى الإنجاب والخصب. أما الدبر فهو معبر لما يجب التخلص منه وما يجب طرحه. وفيه يوظّف الرجل طاقته الذكورية دون فائدة مرجوّة، وفي ذلك هدر للطاقة على اعتبار أن "الجنسانية الكلاسيكية" مشدودة إلى الإنتاج فهي تميز بين حقوق الفرج وغواية الدبر. فالإتيان من الدّبر يفتح الممارسة على مطلق المتعة والشهوة المتوحشة أو المهمّشة والمتمردة على سلطة النموذج. فيتحوّل الجسد إلى منتج شهوة يقصي الجماعي لصالح الفردي ويكرّس متعة مضادة ومحظورة. وفي "خروج الذكورة على حدودها المرسومة لها عود إلى الطبيعة في حالتها العمائية… هناك نشدان لحياة مغايرة احتجاجية… متمردة على الحياة المألوفة". فالهو و"الإيروس" يمنحان الحق للجسد والرغبة بشكل كامل ومبتهج، كما يعصفان بالممنوعات وباستراتيجيات السلطة. ويسمحان بالثنائية الجنسية، ويفتحان المثيرات الجنسية على التعدّد، ويصوغان فسيفساء رائعة لحركة الحياة التي لا تنضب.
ولئن كانت غايات والأخلاق من المنع واضحة كالحرص على الإنتاج وتنظيم الأنساب وحماية النفس والعرض، فإن ذلك لا يحجب علاقات الهيمنة والخضوع والتفوق. لأنه "حق يمارس من قبل أحد الشريكين، وضرورة مفروضة على الآخر، إنه مركز يتم إبرازه أو حالة يجري الخضوع لها. إنه منفعة يستفاد منها." فهو لعبة "اقتصادية" قائمة على الإنفاق والكسب ومن ثمة المعادلة بين الجسد وحيازة اللذة. اللواط الأكبر: تتصل هذه التسمية المحرمة باسم النبي لوط وهذا ما يجعلنا نتساءل "لماذا سميت هذه الفاحشة باسم من حاربها؟" وهل يعود ذلك على طبيعة المحرّم في علاقته بالمقدّس؟
وقد اقترنت مادة[لوط] في لسان العرب بالالتصاق والتلطيخ "لاط الحوض بالطين لوطا: طينه والتاطة: لاطه لنفسه خاصة… واستلاطوه أي الزقوه بأنفسهم… ويقال استلاط القوم وألطوه إذ أذنبوا ذنوبا تكون لمن عاقبهم عذرا وكذلك أعذروا … ولوّطه بالطّيب لطخه… ولاط الشيء لوطا: أخفاه والصقه… ولاط الرجل لواطا ولاوط أي عمل عمل قوم لوط".
ويفيد المعنى الاصطلاحي إتيان الذكران على سبيل اللذة والشهوة لقوله تعالى: "أَتَأْتُونَ الذُكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنَتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ". فهو فعل قوم النبي لوط الذين اشتهروا بالإسراف في إتيان الذكور ومفاحشتهم مما يحيل على فساد الشهوة وفوضى الحواس، فضلا عن عدم انضباط الغريزة وفوضويّتها. إذ يقول الله تعالى:"وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَومِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالمينَ." ويقول الطبري (ت310هـ) في تفسير الآية:" كانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها التي عاقبهم الله عليها إتيان الذكور". ويقول الزمخشري (ت538هـ)في تفسير الآية:"أتفعلون السيّئة المتمادية في القبح…لاحامل لكم عليه إلا مجرّد الشهوة من غير داع آخر ولا ذمّ أعظم منه…من جهة العقل كطلب النسل ونحوه." كما ورد في قوله تعالى:"أتأتون الذُّكْرَانَ مِنَ العَالمِينَ" و"إنَّكُمْ لتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ". يقول الطبري في تفسير الآية:" إنكم لتأتون الرجال من أدبارهم شهوة منكم، لذلك من دون الذي أباحه الله لكم وأحله من النساء…إنكم لقوم تأتون ما حرّم الله وتعصونه بفعلكم هذا." وكانت عاقبته أن أمطر عليهم مطرا من حجارة.
واللواط موضوع إدانة لأنّه "يعني في النهاية كل الأشكال المعكوسة في العلاقات الجنسيّة". فهو يشير إلى لذة ارتكاسيّة مثليّة تضفي انزياحا ت على مفهوم الذكورة بانتقالها من عنصر إنتاج تناسلي إلى أداة متعة غير منتجة. كما يتضمّن خرقا لنظام الطبيعة، إذ يقول وحيد السّعفي: "أما ما يقوض البناء تقويضا ويهدم النظام هدما فهو شيء آخر غير الزنا، إنّه اللواط". ولذلك كانت عقوبة قوم لوط كبيرة فقد سحقوا أجمعين، كما أن عقوبة اللواط في الإسلام الرجم بالحجارة وفي ذلك إشارة إلى خطورة الفاعل واليأس من إمكانيّة صلاحه. وقد ميّز الجاحظ بين عقوبتي الزاني واللائط أو الزناة واللاّطة بقوله: "ألا ترى أن حدّ الزاني ثمانون جلدة ما لم يكن محصنا وحد اللواطي أن يحرق، وكلاهما فجور ورجاسة وإثم ونجاسة".
فاللّذة في التصوّر الديني- الأخلاقي تتوزع عبر جغرافية الجسد وتضفي عليه نظاما خاصا فهو" منظّم ومقوعد في إطار الهندسة الاجتماعية، مما يعني ترتيبه سلوكيا وفرز وظائفه عن بعضها بعضا". وتنبذ الأخلاقية الطهرانية الولد أو الغلام باعتباره مجالا للمتعة الارتكاسية التي تؤدي إلى حتف الجسد وفتحه على مدارات الموت. فـ"اللواطي ينوّع اللذّة ويبحث… عبر الجسد الذّكوري نفسه وداخله". وفي ذلك أقصى درجات الشذوذ واللا مشروعيّة. و"الإتيان من الدّبر بمثابة إعلان للموت على الجسد وتدميرا لآلية العمل به". ويرسم الدين جسدا ثقافيا يحدّد سلوك المسلم فيكون بذلك معبرا تمر عبره الطهرية والطقوس، وهو مدار الممارسة الإيمانية التي تجذر المسلم ضمن مقولات الأمة. وتحثّه على الوصول إلى نموذج التسامي والمثال. كما تدفعه إلى الكمال الروحي الذي يقطع مع الإثم حتى وهو غارق في اللحم ورغباته. وتنشأ عن ذلك "إيروسية آدمية" تحوّل فعل الجماع إلى سرّ غنوصي والعودة إلى لحظة الإنسان الأصلي، أو إلى زمن آدم الخنثى، وما قبل السقوط.
ويحدث ذلك عبر ممكنات التعالي بالخطاب حول الجسد فيصبح جسدا متخيلا وواقعيا في آن. فتمثّل الفرد الجسد عبر السلوك اليومي الإيماني في بعده الديني وفي إطار منظومة من الأدبيات تمس المسلم وبواسطة قائمة من المحرمات. هكذا يحدّد الخطاب الديني الأنشطة اليومية والهامشية للجسد، ويصوغ قواعد استعمال اللذات التي تشد الفعل الجنسي إلى المراقبة الأخلاقية. فالمعطى الجنسي لا يعالج انطلاقا من جنسانية في ذاتها ولذاتها بقدر ما يطرح من المنطلق الأخلاقي. ومن هنا نتساءل مع فوكو: "كيف ولماذا وتحت أي شكل قد تم تشكيل الفعاليّة الجنسانية لحيّز أخلاقي؟ لماذا هذا الانهمام الايتيكي الملح جدّا؟".
وكانت العلاقة مع الغلمان موضوع بحث في الفكر اليوناني. إذ تثير الثنائيّة الجنسيّة أي هواية الغلمان والنساء في وقت واحد أو بالتناوب عدّة إشكاليات. ولا يتصل الأمر بالتمييز بين جنسين أو بالتعارض بين نوعين من الرغبة. وكان تفضيل الفتيان والفتيات معترفا به باعتباره سمة مزاجيّة، فهي مسألة ذوق تدخل في تصنيف طبيعة الفرد نفسها.
أما التحليل النفسي فيعالج ظاهرة المثلية الجنسية من داخل مقولات نفسية. لعل أهمها يعود إلى الذكريات المكبوتة اللاشعورية . ويرتكز مفهوم الذات على "كون الإنسان منشطرا على نفسه في قسم لا شعور وآخر شعوري. وهذا الانشطار ليس حدا فاصلا يحول دون معرفة الأول للثاني، إنما هو ترابط ضمن سلسلة دلالات لها بنية ترتكز عليها، قاعدتها اللغة، تتكرر باستمرار سواء عن طريق المسلك، أو عن طريق العوارض النفسية المرضيّة." وهكذا تكون الذات محل تنازع بين مبدأين: مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. كما يظل الشذوذ في نظر التحليل النفسي إلى الصراعات التي تخلفها عقدة أوديب في الطفولة . فالطفل في نظر فرويد ينكر التباين الجنسي بين الذكر والأنثى. "ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى الأهميّة النرجسيّة التي يوظفها الطفل في ذكره." ومن ثمة يعمم امتلاك الذكر على كل المخلوقات لكن تلك الحقيقة ما تلبث أن تنهار أمام الواقع بعد الإطلاع على التشريح الجنسي الأنثوي. لكن الأمر يستمر في لاشعور الراشد "بشكل أحلام امرأة لها ذكر مثل ذكر الرجل ويصبح مدخلا نحو الشذوذ الجنسي المثلي."فالأمر لا يتعلق بالذوق والمتعة. ويعد المخرج السلبي للأوديب أو"المجاز الأبوي" بعبارة لاكان بمثابة من عوامل المثلية. إذ "ينجم عن انحراف لمسار عقدة الخصاء. فبدلا من أن يتماهى بالأب، يتماهى بالأم، ويتحول موضوعه الجنسي من الأم إلى الأب …وهذه تكون النواة لاضطرابات عصابية، وانحرافات جنسية مثلية." ولعل بنية الأنا الخيالية تساعد على تعميق ذلك. يقول "لاكان" :"الأنا التي طالما تكلمنا عليها، من المستحيل فصلها عن الارتهانات الخيالية التي تكونها…سواء في نشوئها، أو في وضعيتها، أو حتى في وظيفتها الحاضرة."فالتحليل النفسي يفتح الجنسية المثلية على عامل تكون الذات وتماهيها مع التخيلات الوهمية التي تبنيها حول الجنس. وتظل هذه العوامل مغيبة لدى التفكير الديني الذي يطمح إلى بناء المثال الخلقي دون مراعاة هذه المسلمات.
ويضع التصور الديني ي حدودا واضحة تتجاوز الرغبة والذوق لتعانق القاعدة والمثال والطهريّة.وتشكلت بتأثير من المثل الدينية والأخلاقية أدبيات تهتم برسم صور اللوطي والغلام، ولم تقف التصورات عند الشكل الخارجي بل غاصت في نفسيّة الغلام بالشرح والتحليل والتأويل. فهو يتميّز بجملة مواصفات كالمبالغة في التأنّق والتشكّل الأنثوي لكلّ الجسد، كأنّ الطبيعة نفسها قد ساهمت في هذا "البهتان الجنسي". وظل هذا النموذج محل ازدراء من الأخلاق الدينية التي تتعارض مع العلاقات المثليّة (اللواط والسحاق…) . ويصل النموذج الديني في تنظيم اللذة أقصاه من خلال تصورات الجنس في الجنة أو الميتا-جنسانية بما هي جنسانية مروحنة تخلو من المحارم والرّجس الناتج عن الممارسات الجنسانية المادية.
ويظل الدين من أهم الأنظمة المعرفية التي حددت استعمال اللذات وتحديد المحظور من المحلّل منها. ويتناسب الديني مع الأخلاقي في ذلك. كما يجد في الخطاب الطبي ما يتماشى مع مبادئه ومصادراته.
2-الجنس والخطاب الطبي:
يتألّف هذا الخطاب من أنمطاط الباثولوجيا الجنسية كالنعاظ والقساحة ونظام الإنجاب: الغذاء والحمية. وعمر الشخص (الشباب والشيخوخة والذكورة والأنوثة) والوقت المناسب: الفصول وفترات النهار والليل. وهذه محدّدات تخص الفعل الجنسي وتضمن نجاعته. 2-1- نظام اللذات والباثولوجا الجنسيّة
وضع الخطاب الطبي نظاما خاصا باستعمال اللذات وسياسة البدن ونظام اللذات وما يمكن أن تؤدّي إليه من "باثولوجيا" تنجر عن الإفراط في النشاط الجنسي والغسراف في اللذة. وحدد قواعد تهم سياسة اللذة وشروط الإنجاب وأطر الممارسة بحسب معيار العمر (الشباب والكهولة والشيخوخة) ومواقيت الممارسة الجنسية، دون أن ينكر الأمزجة الذاتية. هكذا نشأ خطاب طبي يتصل بأشراط الغذاء واللذات والآلام. كما حددت "كتب الباه" جملة من التصورات. إذ يقول التيفاشي: "في الأوقات التي يستحبّ فيها الجماع وعدد النكاح ورداءة أشكاله" "في الأدوية المفردة الزائدة في الباه" "في الأغذية الزائدة في الباه" "في ذكر الأدوية الملذّذة للجماع" أما نظام الأفروديزيات، بما هو أفعال وحركات وملامسات تسبب اللذة، فقد وضع جملة قوانين تقوعد استعمال اللذات. فشدّد على ضرورة تجنب الإسراف فيها، وحرص على صيانة الزواج والواجبات الزوجيّة، وإدانة حبّ الغلمان. فكان التساؤل يتعلّق بأشكال استعمال اللذات بشكل لائق وإلى أيّ مبدأ يستند لتحقيق هذا النشاط ويحدّ منه وينظمه؟
وهكذا ساد القلق إزاء استعمالات اللذات الجنسية والعلاقة الجائزة فيها والاستعمال المفروض عليها، وخاصة لدى فلاسفة وأطباء القرنين الأوّلين، كسورانوس وروفوس وابيكتات. وهذا ما جعل "بلوتارك" يقول إنّ الفلسفة والطب يهتمّان بميدان واحد ويمتلكان مجموعة مفهومية مشتركة يشكّل موضوع المرض عنصرها الرئيسي لأنّه ينطبق على الهوى كما على الداء الجسدي.
وتتمثل باثولوجيا النشاط الجنسي في عنصرين هما: عنف التوتّر اللاإرادي وهدر الطاقة الجسديّة. ويؤدّي الإفراط في الرغبة إلى تثبيت حالة التهيّج، أو ما يسمّى بمرض التهيّج الدائم أو "النعاظ" أو القساحة يضر بالشخص. ومن أعراضه التوتّر والاضطرابات والتهيّج الذي لا حلّ له، حتى في صورة إشباع اللذة. كما تعترض المريض نوبات شبيهة بالصرع.
ويتمثل هدر الطاقة في الإنفاق غير المحدود للمني وهو ما يسمّيه اليونانيون بالتعقيبة واللاتينيون ويعرّفه "غاليان" بأنه "إفراز غير إرادي للمني" أو هو "إفراز متواتر للمني لا يشعر المرء به، ويتمّ دون انتصاب القضيب" فالتعقيبة تصيب الأوعية المنويّة مما يحول دون حبس المني أو التحكّم فيه.
2-نظام استعمال اللذات
وضع الخطاب الطبي شروطا تتصل بالعمر ويرى "غاليان" أنه ينبغي أن يكون مستعمل اللذات الجنسية في حالة متوسطة تماما. كما وضع "رفوس" لائحة بنتائج الإسراف كضعف النظر وسوء الهضم والرجفات التشنجية وآلام المفاصل. فالجنس يحدث تغيير في التوازن الجسدي ودور الأخلاط فعلى الجسد أن يكون في حالة اعتدال وإلا تعرّض إلى اضطرابات عنيفة. وحرّض الطب على الاعتدال وضرورة الانتباه إلى بنية الشخص الصحيّة. وأشار "ديمقريطس" إلى أن اللذة الجنسيّة تأخذ شكل صرع خفيف ويقول:" الصرع الجنسي صرع خفيف" وحدّد الطب أنظمة ظرفية وفق أربعة متغيّرات: وقت الإنجاب المناسب، وعمر الشخص ووقت المجامعة الأمثل ومزاج الفرد
أ- نظام اللذات والإنجاب: تحكمه رؤية عامة للجسد تنص على وجوب سلامته من أي عطل أو عطب من الناحية الفيزيائيّة. كما تكون النفس مطمئنة وخالية من الألم والهموم والتعب من الجهة النفسيّة. فالفعل الجنسي كما يرى التيفاشي يتطلّب"راحة عظيمة…لأنّ البدن كلّه في تلك الحالة يحمي ويلتهب ويمتلئ بخارا رطبا." وتتخذ هذه الظرفيات بعدين الأول فيزيولوجي فالأخلاط الضارة توشك أن تمنع المني من الالتصاق بجدار الرحم الداخلي. والثاني أخلاقي إذ يتأثر الجنين بحالة الوالدين. وهكذا يظل هاجس الإنجاب الأمثل متحكما في الفعل الجنسي.
ويتشكّل المني في هيئة تلك الأحوال فالتشريح الطبي يثبت صلة المني بالحالة الجسدية. وفي ذلك يقول التيفاشي:"إن الأنثيين مولدات للمني يطبخان الدّم ويجعلناه منيا." ومن ثمة يوسم الجنين بصورة المني فصورة المرء هي بمثابة صورة مسبقة للولد. وتتخذ هذه الظرفيات بعدين الأول فيزيولوجي فالأخلاط الضارة توشك أن تمنع المني من الالتصاق بجدار الرحم الداخلي. والثاني أخلاقي إذ يتأثر الجنين بحالة الوالدين.
أما ما اتصل بالعمر فيتعلق بفترة إعداد تنمّي المني وتراكمه بفعل تقدم العمر بالإنسان. فالمني يتجمّع ويكتسب قوّته، وتكتسب الغريزة الجنسيّة حيوية ضروريّة. لأن الإلحاح على الجماع يطفئ الحرارة الغريزيّة فتضعف لذلك الأعضاء الطبيعيّة وتقوى العوارض الخارجيّة عن الطبيعة فتسقط القوة."
وتتناسب ممارسة الفعل الجنسي مع الحمية الغذائية المعتدلة القائمة على الطعام المعتدل السخونة والرّطوبة. "بل غذاء بسيط وخفيف من شأنه أن يهيّئ الإثارة الضروريّة". فالحمية جزء أساسي في وضع نظام اللذة. يقول التيفاشي:"أما الأشياء المقولة على الباه فهي صنفان أحدهما الأشياء التي تزيد في مقدار المني ويحتاج إليها إذا انقضى المني. والثاني الأشياء التي تشحن المني وتدرّه."
أما الأوقات فتتناسب مع حالة المرأة الجسديّة على وجه الخصوص باعتبارها متقبّل الشهوة."متى كانت المرأة قريبة العهد بانقطاع استفراغ الطمث فإنّ الرّحم عند ذلك يتعلق بالمني حتى يتم الحمل.
خاتمة:
يصبح الجسد في الخطاب الديني نسقا من السنن والقواعد اللامتناهية، ومن الوضعيات المحتملة كالحركات معزولة والمركبة، فضلا عن الأوضاع المبهمة والصريحة. فهو خزان للدلالات يدل من خلال حركته ومن خلال سكونه. وظلت الدلالة محفوفة بالمراقبة والمنع باعتبار الدين خطابا تطغي فيه درجة الحظر. ومن هنا سيطرت جدليّة المحلّل والمحرّم، والقاعدة والشذوذ، والمؤسّسة والهامش. وهكذا نشأت حقيقة حول الجنس وجملة أخلاقيات ونظام لذّات. كما ساهمت عدة خطابات وأهمها الخطاب الأخلاقي والخطاب الطبي في نشر ثقافة جنسية تحدّد طرائق استعمال اللذة من قبيل الوصايا وملذّذات الجماع والحميات الغذائيّة.
المصدر
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article23193