المقامة الحاتمية /مروان قدري مكانسي
حدثنا موجوع بن ملسوع فقال :
بعدما سافر الأهل والأولاد ، ومكثت وحيداً وقد حرمت السهاد ، قلت في نفسي : ليس لك يا هذا إلا الغوص في بحور الكتب والمراجع ، علك تدفع بها سأم التقلب في المضاجع ، فانصرفت إلى مكتبتي بلهفٍ وحب ، وشرعت أصطفي ما يروق لي من الكتب ، وأخرجت منها ستة أو سبعة ، لأطفئ بها ما يعتريني من شواظ الهمِّ واللوعة ، فالقراءة خير زادٍ للعقل والوجدان ، و بها أُمر بني الإنسان .
وما إن توكلت على العزيز الرحيم ، مبتدئاً ببسم الله الرحمن الرحيم ، حتى رُنَّ جرس الهاتف المدرار ، وتوالت رناته باستمرار ، فساءلت نفسي المرتاعة : من المتصل بي هذه الساعة ؟ وأسرعت فرفعت السماعة .
ـ من المتكلم الكريم ؟
ـ أنا صديقٌ قديم ، لم أرك منذ سنين ، واشتدَّ بي الشوق والحنين .
ـ صديقٌ قديم ؟
ـ أجل ، أنا عبد العظيم .
ـ أهلاً بالأخ الحبيب ، والصديق النجيب ، أين أنت ؟ ومتى وصلت ؟
ـ لقد وصلت لتوِّي ، وأبحث عن فندقٍ إليه نأوي .
ـ نأوي ؟ أراك تتحدث بضمير الكثرة ، فهل يرافقك أحد في هذه السفرة ؟
ـ نعم ، تصحبني أسرتي ، أبنائي وبناتي وزوجتي .
واستحييت أن أسأل عنهم ، ما عددهم ، وما أعمارهم ؟ وأخذتني السجايا الحاتمية ، ومفاخر الشهامة العربية ، فقلت : مادام الأهل في سفر ، وأنا أقاسي الوحدة والضجر ، لم لا ينزل عندي ويكون سبب هنائي وسعدي ؟نتذكر عهد الطفولة والشباب ، يوم كنا مع الأصحاب والأحباب ، نلهو ونمرح بين الزهور ، ونحاكي الفراشات والطيور ، فما أجمل الماضي البريء ، وما أطهر القلب المضيء ....
فقلت : يا أخي عبد العظيم ، لا بد من أن تنزل ضيفاً عندي وتقيم ، لا تبرح المكان ، فإني قادمٌ إليك الآن .
قال : لا تشغل في إقامتي البال والخاطر ، فإني للمدينة زائرٌ وعابر ، وقد اشتقت إلى لقياك ، وأحب أن أكحل عيني قبل سفري برؤياك .
قلت : ما عهدتك بخيلاً ، وبكلامك ثقيلاً ، لا بد من استضافتك ، والقيام بواجبك .
قال : إن كان ولا بد فاعلم أن أولادي سبعة ، وأنا وأمهم نغدو تسعة .
وبعفويةٍ لم أحسب لها حسابا ، طرت إلى صاحبي والشوق يجتذبني إليه اجتذابا ، وبعدما ضمنا العناق ، وفاضت بيننا أحاديث الهيام والأشواق ، صحبتهم إلى بيتي ، وما إن وصلوا حتى بدأت محنتي .
قد تسألني : ما الحكاية ؟ إليكها من البداية .
كان الأولاد ـ حرسهم الله ـ في أعمار متفاوتة ، ولا يميلون إلى طبائع ثابتة ، فلكل واحد منهم طبع ، لا يطيقه أسدٌ ولا يتحمله ضبع .. فالصغيرة الأخيرة تقوم وتقعد ، وتستيقظ وترقد ، على بكاءٍ متواصل ، يفتك بالرأس وبالمفاصل .
والتي فوقها عمراً ، قد سببت لي كمداً وقهراً ، إذ هي لا تحب أن يبقى شيء من الأثاث مكانه ، ولا بد من تحريكه إلى أمكنة أخرى قبل أن يفوت أوانه .
أما الصبي الصغير ، والمدلل الخطير ، فقد أوتي لساناً يقاس بالأمتار ، يتفوق به على كل ثرثار ، فتراه يتدخل في أحاديث الكبار ، كأنه الأحنف بن قيس أو عمار ، ولا يردعه أبوه ، ولا إخوته وذووه ، بل يعجبون لجرأته ، وفصاحته وطلاقته ، و يا ليته كان يقول جملة واحدة مفيدة ،إذاَ لأصبحت حياتي بهم هانئة سعيدة ، وإنما هرطقة غير عاقل ، يصدق فيها قول القائل :
كلامكَ يا هذا كفارغ بندقٍ خليٌ من المعنى ولكن يقرقع
وأما بقية العقد النضيد ، فقد كان عن ناظري بعيد ، وتواروا عني بالحجاب ، امتثالاً لشريعة العزيز الوهاب ...
قد تقول : وماذا عن الكتب التي أخرجتها ، لتقطف منها ثمارها وزهرتها ؟
فأجيب : لقد تمكنت ـ بعون الله ـ من إنقاذها ، والحفاظ على أمنها وسلامتها ، فأدخلتها غرفة نومي بارتياح ، قبل أن يداهمني الاجتياح .
قال : زدني يا موجوع زدني ، وبمزيدٍ من التفاصيل أفدني .
قلت : ما عساي أن أقول ، وقد آلت أحلامي وآمالي إلى الأفول ؟ إن صديقي الزائر ، والذي زعم أنه عابر ، قد غيَّر نيته ، وبدَّل وجهته ، فما إن رأى البيت قد خلا من أصحابه ، حتى حلَّ رحاله وفكَّ حبائل ركابه ، وقال لي : لقد صعبت علينا حالك ، وما وصل إليه مآلك ، لذا فقد عزمنا على الإقامة عندك أسبوعا ، عزماً لا نقبل فيه نقاشاً ولا رجوعا ، نطهو لك فيه أطيب الطعام ، ونكون لك من جملة الخدام ، فالغربة كربة ، والوحدة صعبة ، ثم أردف الصاحب قائلاً ، وموضحاً ومعللاً :
وحتى تتمكن الزوجة من أن تصول في البيت و تجول ، أرجو أن تتنحنح كلما هممت بالدخول ، فإذا دخلت بيتك ، فالزم فيه غرفتك ، ولا تكثر من الدخول والخروج ، خشية أن يجد الإحراج إلى قلوب نسائنا بداً من الولوج ، وستأتيك إلى حجرتك كل طلباتك ، فالجميع هنا رهن إشاراتك ...
وأسرت في غرفتي ، واشتدت عليَّ محنتي ، فقد كنت قبل مجيئهم حرأً طليقاً ، فأصبحت الآن عبداً رقيقاً ، إن وجدت في نفسي للطعام حاجة ، فلن أجرؤ على فتح باب الثلاجة ، وإن فتت الظمأ أحشائي وكبدي ، فلن تجد قطرة من الماء عندي ، إذ المطبخ بعيد عن غرفتي ، وليس بتابعٍ لسطوتي وحمايتي ...
وقد تسألني : وماذا عن صاحبك المدنف ، الذي هزه الشوق إليك فرفرف ؟
فأقول : لقد اعتكف وزوجته في غرفة يستريحان ، وأطلقا لأولادهما في بيتنا العنان ، يعيثون في المنزل الفساد ، ويدمرون البلاد والعباد ، فقد غيروا تضاريس البيت في عجل ، وكسروا الكؤوس والأواني دونما أي خجل ، وبذروا الأرض خبزاً وإداما ، فأنبتت قمَّلاَ وهواما ، وأخرجوا المخزون والمدَّخر ، ولم يتركوا في الثلاجة شيئاً يدَّكر ، وطبخوا لنا بهمةٍ طعاما ، يشبه الغسلين و الزقوما ،
فما استسغت بلعه ومضغه ، وقد خشيت قرصه ولدغه ، فآثرت الفرار من البيت ، وإلى أقرب مطعم أتيت ، فالحفاظ على صحتي غنيمة ، حتى لو اعترفت بالهزيمة ، وقد أحسَّ بكربتي الجار ، ولم يشعر بحالي نزلاء الدار ، إذ القوم بين نائمٍ وآكل ، وصارخٍ وهاتفٍ وغافل .
ومضى الأسبوع الثقيل ، وكأنه عمر طويل ، وبدأت ألوم نفسي ، في جهري وهمسي ، وأقول : مالك وما لحاتم الطائي ، وأنت عنه البعيد النائي ؟ لقد تغيرت الموازين وتبدلت ، واختلفت المعايير وتحولت ، فلا القوم الذين كانوا هم القوم ، ولا العوم في بحر الفضائل هو العوم ...
ودعت صاحبي بضراوة ، وقد شعرت بالأسى والمرارة ، ثم قمت أرمم ما بلي من الدار ، وأطلب العفو من العزيز الغفار ، لأنني صممت ألا أعود إلى مثلها ثانية ، إذا كان في العمر أعوام باقية .