نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


عندما كتب نزار قباني سيرته الذاتية المطولة قصتي مع الشعر في بداية السبعينيات‏,‏ كان مقتنعا أن ما رواه عن رحلته الشعرية هو نهاية الكلام‏..‏ وأنه عصر نفسه حتي آخرها‏..‏ وأمسك بكتابه حتي نهايته‏..‏ فلم يبق في حوزته ورقة واحدة لم يرسلها إلي المطبعة‏..‏ ولم يبق في خزانة ثيابه رابطة عنق لم يلبسها في الحفلات العامة‏.‏
لكن بعد مرور ربع قرن أدرك أن الشاعر لا يمكنه أن يقفل صنبور المياه بشكل اعتباطي‏,‏ ويمنع مياه الذاكرة من التدفق‏,‏ لاسيما إذا كان لايزال يحرث ويزرع ويقدم للناس في كل موسم فاكهة الشعر‏.‏


لا يمكن للشاعر أن يتخذ قرارا منفصلا بإقفال الستارة علي المتفرجين الجالسين في المسرح ويقول لهم‏:‏ مع السلامة‏..‏ انتهت الرواية‏..‏ فالسيرة الذاتية لشاعر ليست نصا مغلقا‏..‏ ولا هي رواية تنتهي بزواج الأبطال أو موتهم‏..‏ فمادام الشاعر‏(‏ يحيا‏)‏ ومادامت هرمونات الكتابة تتكاثر وتتحرك وتسافر في جسده‏,‏ فلا يمكننا التعامل معه كما نتعامل مع لمبة محترقة‏..‏ أو مع سيارة فرغت بطاريتها‏.‏


كتب نزار قباني سيرته الثانية من أوراق مجهولة‏,‏ لم تنشر وهو علي قيد الحياة‏,‏ وإنما نشرتها ابنته هدباء بعد وفاته‏,‏ التي كانت في مثل هذه الأيام ولكن قبل ثماني سنوات‏.‏




في هذه الأوراق يتذكر نزار قباني أسئلة أصدقاء أبيه وهو في سن الثالثة عشرة عن اهتماماته وهواياته ومستقبله؟‏..‏ وعندما كان الأب يجيب‏:‏ ابني يريد أن يكون شاعرا‏..‏ يتغير لون سائليه ويتصبب العرق البارد من جباههم ويتلفتون إلي بعضهم قائلين‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏..‏ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏.‏


كان نزار قباني يسمع تلك التعليقات الدراماتيكية فيتصور أن الشعر والكارثة شيء واحد‏..‏ وأن عفريتا من العفاريت ركبه‏..‏ ولابد من أخذه إلي أحد الشيوخ الصالحين في حارتهم ليكتب له حجابا يشفيه من كوابيسه ويطرد الجن من رأسه‏.‏


كانت أمه مقتنعة بسلطة العفاريت وبقدرتهم علي إيذائه‏..‏ لذلك كانت تلبس ملاءتها كل يوم وتجره من يده إلي أقرب شيخ تعرفه وتعطيه أساورها الذهبية ثمنا لطرد العفريت‏..‏ فيأخذ الشيخ الأساور ويتقاسمها مع العفريت‏..‏ أما أبوه فلم يكن يخشي سلطة العفاريت‏..‏ ولكنه كان يخشي سلطة أمه‏.‏


إن ربط الإبداع بالجن والعفاريت والأرواح الشريرة تكتيك عدواني مقصود‏..‏ غايته الترهيب والتخويف‏..‏ فالمتضررون من الشعر كثيرون‏..‏ والخائفون منه أكثر‏..‏ لأنه يدعو إلي تغيير الإنسان وتغيير العالم‏.‏


وعندما بلغت الثلاثين نضجت تجربتي‏,‏ اكتشفت أن الشعر عمل من صناعة الإنسان وحده‏..‏ لا علاقة له بالشياطين ولا بالملائكة‏..‏ فالشياطين خبثاء‏..‏ ماكرون‏..‏ دساسون‏..‏ يشعلون الفتن ويحرضون علي الحروب ويتدخلون في الحياة العاطفية ويحطمون العلاقات الجميلة‏..‏ وهو ما يتنافي مع طهارة الشعر‏..‏ أما الملائكة فإنهم مشغولون بطهارتهم ونظافتهم وغسل أجسادهم بالصابون والكولونيا‏..‏ كما أن حيادهم الجنسي لا يسمح لهم بقراءة قصيدة حب يكتبها رجل لامرأة واستيعاب مضمونها‏.‏


إن الشعر كلام راق يصنعه الإنسان لتغيير مستوي الإنسان‏..‏ وهو حلم جميل يحتاج إلي لغة ديمقراطية لا أثر فيها للغرور والتعالي والثقافة الكاذبة‏..‏ لغة تفوح منها رائحة الأسواق القديمة والمقاهي الشعبية والحارات المعجونة بعرق الناس وأنفاسهم وأصواتهم وأغانيهم المغسولة بماء العشق‏..‏ لغة لها طعم القرفة واليانسون والقهوة المغلية بالحبهان‏..‏ لغة تخلع نعليها وتجلس علي الأرض‏..‏ لا علي مقعد وثير من طراز لويس السادس عشر‏..‏ لغة تتكحل بها النساء‏..‏ وتتجمل بها العرائس‏..‏ ويشربها الأطفال مع الحليب قبل الذهاب إلي المدرسة‏.‏


الشعر قدر لا يمكن للشاعر أن يهرب منه‏..‏ أو يعصي أوامره‏..‏ أو يشرك به أحدا‏..‏ والقصيدة امرأة أحادية الهوي‏..‏ تختار رجلا واحدا‏..‏ تحبه‏..‏ وتتزوجه‏..‏ دون أن تفكر في تعدد الأزواج‏..‏ أو تقبل بضرة‏..‏ وهذا يعني أن علي الشاعر أن يكون شاعرا فقط‏..‏ وألا يقوم بأي مهنة أخري لزيادة دخله‏..‏ أو تحسين وضعه الاجتماعي‏..‏ علي الشاعر أن يكون متفرغا حتي الموت للشعر‏..‏ لا أن يعمل قبل الظهر موظفا في وزارة المالية‏..‏ أو خفيرا في مصلحة الجمارك‏..‏ أو ميكانيكي سيارات‏..‏ أو شرطي مرور‏..‏ ويعمل بعد منتصف الليل شاعر غزل‏..‏ إن تعدد الوظائف لا ينفع في الشعر‏..‏ وجميع الشعراء الذين اشتغلوا في الصباح ماسحي أحذية‏..‏ ظلت رائحة الورنيش تعبق من قصائدهم‏.‏