السلام عليكم
الصورة ان ظهرت
معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت
د. شامل زكريا**
معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت
منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فرض التطور التاريخي لقاءات ثقافية أوسع بين العالم الغربي والعالمين العربي والإسلامي. وكان من نتيجة هذا التطور قيام العالم الغربي بمحاولات جادّة لفهم العرب والإسلام. وقد تبلور هذا الاهتمام بإنشاء "معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية" في فرانكفورت بألمانيا برئاسة بروفسور "فؤاد سزكين" التركي الأصل.
أنشئ المعهد في مايو 1982، وقد ساهمت أغلب الدول العربية في تمويله، وهو يهدف بالدرجة الأولى إلى تصحيح الأخطاء السابقة الشائعة حول التاريخ العلمي للعرب والمسلمين وجعله مركزاً للبحث العلمي الموضوعي وميداناً للنشر والترجمة.
في بداية العمل داخل المعهد ظهرت الحاجة إلى حصر المراجع والمخطوطات، المنتشرة في أركان مكتبات لا حصر لها في كافة البلدان الإسلامية، وفي كثير من المكتبات الخاصة، وفي أعمال مئات من المستشرقين الغربيين حصراً شاملاً، وتصنيفها في فهارس كي تصبح في متناول البحث العلمي. وتطلَّب هذا إنشاء وتنظيم مكتبة متخصصة، وبالمقام الأول إعداد أرشيف من الأفلام الدقيقة يحتوي المخطوطات العربية.
وقد فاجأت حصيلة النتائج التي حققها المعهد حتى الآن -رغم العدد المتواضع من العاملين الأوربيين والعرب- الخبراء. فالمعهد لم يقتصر على كونه مركزاً لإجراء البحوث العلمية وحسب بل أصبح ملتقى ومنبراً لتلقي المعارف ونشرها، إذ بلغ عدد مجلدات مكتبته العامرة خمسة وعشرين ألف مجلد، كما تحوي المكتبة نحو ثلاثمائة مخطوطة عربية، وأفلاماً مصورة لسبعة آلاف مخطوطة أخرى.
وخلال العقدين الماضيين تأسست "مجلة تاريخ العلوم العربية - الإسلامية" التي يجد فيها العلماء المتخصصون من كل أرجاء العالم ضالتهم كوسيلة إعلامية محترمة. كما يصدر المعهد طبعات جديدة لكثير من المراجع العربية الأصلية ومختارات من المؤلفات الشارحة، كلها أصبح الآن تحت تصرف دائرة واسعة من الباحثين، ونصفها تقريباً مخطوطات عربية منشورة بالطباعة التصورية والتي لم تصبح في متناول يد كل ذي اهتمام وبأسعار زهيدة فحسب، بل إنها تكفل في العديد من الحالات حفظ هذا الكنز الروحي حيًّا في متناول اليد في حال ضياع أو تلف الأصل القديم جدًّا والذي هو غالباً في حالة سيئة.
ومن أهم مشاريع المعهد "فهرسة المراجع والدراسات العربية والإسلامية المنشورة باللغة الألمانية، إلى جانب المراجع المتعلقة بالبلدان العربية المعاصرة. ومن بين مشاريع المعهد المهمة أيضاً جمع وإعادة طبع الأعمال الاستشراقية.
يعطي المعهد "علم الخرائط" أهمية بالغة في حقل منشوراته حيث يهدف لتقديم الجغرافيا وعلوم الخرائط الإسلامية بالشكل اللائق بها، إذ إنها لم تنل في الغرب -بصورة عامة- التقدير الذي تستحقه.
متحف الآلات العربية
ومن المنجزات الرائعة التي حققها المعهد المتحف الذي يشغل الطابقين السفليين من المبنى. ففي هذا المتحف يوجد 800 آلة في مجال العلم والتقنية، وهي نسخ مماثلة تماماً للأجهزة والأدوات العلمية التي كان العلماء والصنّاع العرب قد طوروها واستعملوها في الفترة الممتدة بين القرنين التاسع، والسادس عشر الميلادي، والتي فقدت نسخها الأصلية منذ زمن طويل، أو لم يصلنا منها سوى بعض الأجزاء المتفرقة.
وتحتوي هذه المجموعة الثمينة على كثير من الأشياء التي تبرهن على أن العلوم والتقنية العربية كانت قد بلغت أوجها في الوقت الذي كانت فيه أوربا ما زالت تغط في سبات عميق.
ساعة مائية لابن رضوان (القرن الثاني عشر الميلادي)
ويعرض المتحف آلات من 14 فرعا علميا، في الغرفة المخصصة للكيمياء يشاهد جهاز من دمشق كان يستخدم لتقطير ماء الورد، استعمله -فيما بعد- الإيطاليون في القرن السادس عشر الميلادي. أما في قاعات التقنية يشاهد جهاز لتدوير سيخ الشواء بضغط البخار. وما زالت الصيدليات تستعمل حتى اليوم جهازاً لتحديد الوزن النوعي اخترعه البيروني، أحد العلماء الموسوعيين في البيئة الثقافية العربية - الإسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي.
في غرفة الآلات الطبية توجد نماذج لمستشفى نور الدين في دمشق ومستشفى آخر في أدرنة، في كليهما كانت الموسيقى تستعمل في علاج الأمراض العقلية قبل أن يصبح ذلك مألوفاً في أوربا بزمن طويل. وتعرض في الغرفة 200 آلة طبية يرجع كثير منها إلى الطبيب الأندلسي أبي القاسم الزهراوي، الذي وصف في القرن العاشر الميلادي في كتابة الآلات الطبية المعروفة في عصره. ولم تؤلف مثل هذه الكتب الشاملة إلا في العصر الحديث.
أما في قاعتي الفلك فهناك نموذج لكل من مرصد المراغة وإستانبول، كان لكليهما أثر كبير على تطور الفلك في الغرب.
كما تحظى كل من الملاحة والجغرافيا باهتمام خاص في المتحف، فمن المعروف أن كولمبوس أبحر إلى العالم الجديد ببوصلة مطورة في العالم الإسلامي. فالملاحة الحديثة هي إنجاز العرب في المحيط الهندي، حيث تركوا ما لا يحصى عدده من المسافات في سجلاتهم الملاحية وحسبوا البعد بين شرق أفريقيا وسومطرة بما لا يختلف بأكثر من نصف درجة طول عن الواقع. وهذه الدقة لم توجد في أوربا إلا بعد خمسمائة عام
أحد معروضات المتحف خريطة للعالم تعود إلى عهد الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي
هكذا كان العرب أول من وضعوا خرائط دقيقة للعالم، لم يستطع الأوربيون إلا أن يستنسخوها. فمنذ القرن التاسع الميلادي هناك خريطة واحدة للعالم صنعت بطلب الخليفة المأمون، يعرض المتحف نسخة منها. وقد ثبت أن خرائط العالم والخرائط الجزئية الأوربية إلى بداية القرن الثامن عشر الميلادي ترجع إلى أصول عربية.
ويخطط المعهد في المستقبل القريب لانضمام عدة مئات أخرى من الآلات العربية. وإضافة إلى تلك الآلات "الجديدة" ستصنع نسخ من الآلات الموجودة الآن، وذلك لإتاحة الفرصة لعمل معارض في دول متعددة لتلك الآلات، وستسافر المجموعة أولا إلى باريس، وبعد ذلك ستكون المحطة التالية غالباً هي باليرمو في إيطاليا نظراً لوجود اهتمام خاص هناك بعرض المجموعة.
التسامح والتشجيع.. هما السبيل
بالرغم من هذه الإنجازات فهناك جهل مستمر بهذه الفترة الإبداعية للبيئة الثقافية العربية- الإسلامية والتي استمرت أكثر من 800 سنة إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي. ففقط منذ ذلك الوقت بدأ الإبداع في أوربا، ولم يتجاوزوا العرب إلا في القرن السابع عشر الميلادي. وكان من أهم العوامل التي مكنت البلاد العربية الإسلامية للوصول لهذه الإبداعية -كما يذكر بروفسور فؤاد سزكين رئيس المعهد- "روح التسامح في ذلك العصر، وتشجيع الإسلام للفكر العلمي". ربما في مضمون هذه الكلمات يوجد الحل للبلاد العربية والإسلامية اليوم لكي تحول تيار الإبداعية مرة أخرى إلى بلادها