يسعدني جدا مشاركتك شاعرنا الكبير ظميان غدير:وأضيف
العزيزة المكرمة ريما
ومع جزيل تقديري لما قدمته حول الضرورة الشعرية
و ما جئت به من كلمات أخينا الأستاذ خشان الحبيب
أحب أن أصوب معلوماتك حول ذلك فيبدو أن ما قدمه أستاذنا خشان خشان لم يصلك بمفهومه الصحيح و معناه الحقيقي :
ــــــ
أولًا - الضرورة في مفهومها :
الضرورة الشعرية و ما يوحي به اسمها هي تقنية شعرية في الوقت الحاضر أكثر منها ضرورة
وهي في نشأتها لم تخل من هذا المعنى حتى و إن كانت تميل للحاجة أو ما نسميه مقتضى الحال
فالشعر قديمًا كان فنًّا ارتجاليًا ينطقه الشاعر في موقف ما أو مناسبة ما فيضطر من حين لآخر للاتكاء على ما تجود به قريحته - وهي السليمة النقية الجزلة - من تخليق لغوي للفظة بما يناسب الوزن و المعنى أو التشكيل الشعري ولولا هذا لما وجدت الضرورة أصلًا
وهذا ما نختلف به عنهم كل الاختلاف
فأينا - اليوم - يقف في مناسبة ما فيصدح بقصيدة من مائة بيت أو يزيد ارتجالًا ؟؟
كلها قصائد معدة التحضير عمل فيها البديع و الكلفة عمله لكي تخرج كما ترينها بأفضل حللها و بأصح تعابيرها
ولذا فإن استخدامنا للضرورة بات نوعًا من التقنية للتذكير بها كفن شعري قائم و مجاز
و ليس لجعلها متكأ لزللنا و عللنا
ثانيًا - استخدام الضرورات :
و الضرورة ليست المخرج الوحيد في حالة عسيرة يجنح الشاعر إليها لتحل أزمته , بل هي قدرة و دراية و سعة خيال و عمق فكرة وبعد نظر
و يقول ابن جني في ذلك في الخصائص :
" فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دل من وجه على جوره وتعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثله في ذلك عندي مثل مجرى الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسراً من غير احتشام. فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه، أو أعصم بلجام جواده، لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة؛ لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالاً بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه ". (الخصائص: 1: 216)
و يفسرها أستاذنا الدكتور مصطفى العراقي بقوله :
والمعنى : أن الشاعر يؤثر ما يتسق مع تجربته الإبداعية حتى لو خالف القياس الإصلي ، كما عبر سيبويه ببراعة قائلا:
" وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً ".
ثالثًا - مواضعها :
وجود الضرورة الشعرية و الجواز لا يعني فيما يعنيه أن يتذرع بها المبتدئون و العاجزون و النظامون لحل مشاكلهم اللغوية و زلاتهم العروضية
فالشعر وقبل كل دراسة هو موهبة فطرية و علم إلهي يتم صقله بالدراسة العروضية و إتقان فنون اللغة و أصولها
و أما وضع السلم العروضي و النظم عليه فلن يخلق شاعرًا من لا شيء
و لعلني أسوق مثالًا بسيطًا للفهم
فلو قلنا يحوز في تأديب المرأة - في الإسلام - ضربها
فهل يعني هذا الجواز أن نصدع نافوخها بالساطور لينفلق و ينتثر دماغها ؟؟
نعم يجوز ضربها كما بين المصطفى عليه الصلاة و السلام - بعود أراك للسواك - وليس لتهشيمها و علها
و الضرورة كذلك , هي جواز بما لا يهشم اللغة و النص و بما لا يمنح المتشاعر رخصة الـــ " تخبيص " و الخوض فيما لا يعرفه متكئأ على معنى الضرورة
و على أحقيته بممارستها على اعتباره شاعرًا
رابعًا - أنواع الضرورة :
الضرورات كما فسرها شيوخ الأدب و أهل العلم الثقاة تندرج في أنواع منها المحببة الحسنة و المقبولة و القبيحة المستنكرة
و حتى ما حسن منها و ما لطف و جمل
فعندما يكثر في النص فهو إشارة ضعف و عجز و تصنع و خروج عن الفنية
فأما الضرورات التي تقبلها النحاة رغم وصفهم لها بالرداءة فمثل :
مد المقصور ( لأنه خلاف للأصل عكس قصر الممدود )
ومثاله:
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إنما الفقر والغناء إلى الله = فهذا يعطي وهذا يحدُّ
وقطع ألف الوصل:
ظلمت نصف إسمها = هي دنيا وآخرة
بقطع ألف كلمة اسم وحقها أن تكون وصلا
ومثاله في الحديث قول أمير الشعراء
الإشتراكيون أنت إمامهم = لولا دعاوى القوم والغلواء
فقطع :الاشتراكيون، وهي من الفعل الخماسي
ووصل ألف القطع :
فقالت وما همت برجعٍ جوابنا = بل أنت أتيت الدهر إلا تصدعا
فوصل : "أنت" وهي في الأصل قطع
والفصل بين المبتدأ والخبر والنعت والمنعوت والصلة والموصول كما في قول الفرزدق:
وما مِثْلُهُ في الناسِ إِلا مُمَلَّكاً = أَبو أُمِّه حَيٌّ أَبوهُ يُقاربُه
فهذا كلام ملتبس لأنه موضوع في غير موضعه.
وتقديره : وما مثله حي مقا رب له في الناس إلا مملكا وهو "خالُه" : أبو أمه أبوه .
والترخيم في غير أسلوب النداء، مثل:
ديار مية إذ ميٌ تساعفنا = ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عرب
على أن الترخيم في غير النداء ضرورة، إذ "مي" مرخم مية وهو غير منادى.
تأمل معي كيف جعل مية مرة على الأصل ، وأخرى غير مرخمة
في الأولى كان يتحدث عن ديار مية فلم يكن ثم داعٍ لترخيمها لأن المقصود هنا التعريف بهذه الديار ، ولكنه عندما انتقل إلى ذكر مية ذاتها متذكرا خيرها لجأ إلى الترخيم الذي يدل على الود .
حذف أداة النداء مع المنادى المبهم كاسم الإشارة، ومنه قول المتنبي:
هَذي بَرَزتِ لَنا فَهُجتِ رَسيسا = ثُمَّ اِنثَنَيتِ وَما شَفَيتِ نَسيسا
والأصل: يا هذي يعني يا هذه
وكأنها لشدة حضورها في وجدانه وقربها منه حذف أداة النداء استعجالا لمخاطبتها.
وقد جمع الزمخشري أكثر الضرورات شيوعا فقال:
ضرورة الشعر عشر عد جملتها=قطع ووصل وتخفيفٌ وتشديـدُ
مدٌّ وقصرٌ وإسكـان وتحركـةٌ=ومنع صرفٍ وصرفٌ . تمَّ تعديدُ
وأما الضرورات القبيحة غير المأنوسة فأهمها :
تسكين المتحرك و عكسه و خطف الحروف الممدودة و مد غير القابلة للمد
ومنها مثالنا الذي نتحدث عنه
وهو تكرار خطفك لحرف الياء في عدة مواضع في قصيدة واحدة لا تتجاوز عدة أبيات
و لعلك تنظرين في شعراء فحول الشعر هل مثلها من ضرورة فيه !!
في الختام :
ـــــــــــــــــــــ
أنا لا أنكر وروردها - الضرورة ولاسيما ما جئت به - منفردة مرة واحدة فتدرج ضمن ما يغض عنه البصر
أما أن تكون نهجًا و طريقة تقدمين لها على أنها مقبولة في كل حين و أنها طريقة جديدة للنظم , فلا أظن أن هناك من يتفق معك بهذا الخصوص
و ما وجهة نظري فيما أسوقه الآن و ما سقته أعلاه إلا لكي أبين لك عدم جواز هذا الذي تسمينه جوازًا
فآمل منك إعادة النظر في المواضع المشار إليها - نحويًا و عروضيًا و إملائيًا - ليجمل النص و يكمل
و الرأي لك
و الحديث حول الضرورة الشعرية حديث يطول و يحتاج للكثير من البحث و التمحيص و القراءة
و آمل لك أن تطلعي عليه بالكلية
و لو شئت أعنتك فيه
( وللدكتور مصطفى عراقي موضوع رائع بهذا الخصوص يلخص فيه كل ما سبق و قد استعنت به لبعض الأمثلة هنا و لعلني أضع رابطه لاحقًا .. )
مودتي ريما
و جليل الاعتزاز