النعامة وهالة سرحان!
آراء
الاربعاء 14/2/2007
د. هيفاء بيطار
أقامت هالة سرحان الدنيا ولم تقعدها حين استضافت في برنامجها ثلاثة عاهرات ُقدموا للجمهور بتعبير مُلطف ( كبنات ليل ) , تعبير يعتقد معدو البرنامج انه اقل رضاً لمشاعر المشاهد , باعتبار أن ما يشاهده ويسمعه المشاهد لا يجعل أعصابه ومشاعره مهروسة .
للأسف لم احضر برنامج هالة سرحان , لكن حضرتُ الزوبعة التي تلته .
إذ تفجّرت فضيحة في الرأي العام المصري والعربي ايضاً , ووصل الأمر إلى القضاء , وتبيّن ان العاهرات الثلاث مُستأجرات , وقد قبضن مالاً كي يرضين بالظهور في برنامج هالة سرحان كنموذج لبنات الليل, وأنهن في اليوم التالي لعرض البرنامج , تراجعن عن أقوالهن , وقصدن قناة المحور , وقدمن شكوى إلى القضاء بأنه تم استغلالهن !!
لستُ بصدد الدفاع عن هالة سرحان , لأنها اقدر على الدفاع عن نفسها من جيش من المحامين , فهذه الإعلامية الجريئة والشجاعة والمثقفة أثارت العديد من القضايا الساخنة والكامنة في لحمة مجتمعاتنا العربية كسرطان يفتك ويفتك , إنما يحافظ على القشرة سليمة وللأسف نحن لا يهمنا إلا القشرة أو المظاهر.
ولستُ بصدد التمحيص هل الفتيات عاهرات حقاً أم مستأجرات لغاية ما وهي تفجير موضوع بالغ الخطورة والحساسية وهو الدعارة في الوطن العربي.
هدفي محدد وسؤالي واضح وهو: أليس من واجب الإعلام الصادق والبّناء أن يكشف الستار عن النخر والأمراض الكامنة في لحمة مجتمعاتنا ?! أم ان وظيفة الإعلام تخدير المشاهد وإلهائه بقضايا ثانوية مُسلية وخفيفة والابتعاد عن المشكلات الحقيقية والأمراض الاجتماعية التي تعشش في نسيج أيامنا.
بلا مبالغة صُعقت من طريقة مناقشة البعض لموضوع الدعارة في عالمنا العربي, ومن خلال متابعتي لحلقتين في برنامج 90 دقيقة تبثه قناة المحور وبإدارة الإعلامي المتميز مُعتز , لاحظتُ أن شريحة واسعة من المثقفين والإعلاميين إضافة لعشرات الاتصالات من شرائح مختلفة من المشاهدين يرفضون رفضاً قاطعاً, ودون أن يتركوا مجالاً للحوار حتى مناقشة موضوع الدعارة.
أحد الضيوف في البرنامج وهو رئيس تحرير مجلة , قال انه مستاء جداً من هالة سرحان لأنها اختارت العاهرات الثلاثة من مصر وبهذا تشويه لسمعة مصر , وبأن كان عليها أن تستضيف عاهرات من أقطار عربية شقيقة !!
يا للفكرة العبقرية التي أصاب بالتورم من الغيظ كلما حاولت التعليق عليها ...
صحيفة ذات شهرة واسعة علقت بأنها لم تفهم الغاية من برنامج هالة سرحان ?! واسمحي لي يا سيدتي ان أسألك ما الغاية من استضافة مطربات هابطات يخاطبن غرائز الشباب بجسدهن المتلوي على أنغام موسيقا هابطة , وصوتهن نشاز ... ما الغاية من إجراء حوار لثلاث ساعات مع مطربات يقدمن ما اسميه فيديو كليبات الدعارة !
أحد الضيوف الفطاحل , قال انه قارن بين برنامج أوبرا وبرنامج هالة سرحان وبأن اوبرا حين قدمت حلقة عن العاهرات , واستضافت مع الشابة الساقطة أخصائيا نفسيا وأخصائيا في علم الاجتماع , لكن الحلقة انتهت بأن مصير تلك الساقطة قد تغير , فقد قدم لها برنامج اوبرا منزلاً وسيارة وعملاً ... أما برنامج هالة سرحان فلم يتمخض عن شيء ولم يقدم شيء للفتيات الساقطات !
سبحان الله على هذا المنطق , ان ميزانية برنامج اوبرا يفوق ميزانية دول في العالم الثالث , ولو أراد الإعلامي ان يؤمن منزل وعمل - بغض النظر عن السيارة - للساقطات الثلاث فعليه ان يتوقع طابوراً من العاطلين عن العمل سيقفون كل يوم على أبواب الفضائيات ومستعدين للاعتراف بكل شيء في سبيل حل أزمة بطالتهم !
أتساءل بإصرار : لماذا نُصّر ان نكون كالنعامة , ندفن رأسنا في الرمال كي نعمي عيوننا وعقولنا عن مواجهة الحقيقة ?!
ان مشكلة الدعارة موجودة في العالم كله , وهي مشكلة قديمة قدم التاريخ وأسبابها عديدة أولها الفقر وانعدام فرص العمل , لذا فهي ظاهرة متزايدة في عالمنا العربي ... ثم أي هذيان ان نخلط بين تناول هذا الموضوع وسمعة بلد ? ما علاقة شرف مصر بفتيات الليل اللاتي استضافتهن هالة سرحان ?!
ومن يتبجح ويقول بأن مناقشة هذه القضية تؤذي مشاعر المشاهد ... عجباً ألا يؤذي مشاعر المشاهد حين تعرض له الشاشة برامجاً متواصلة عن الفساد والفاسدين ونهب المال العام , وحين يرى الجثث المقطعة ونهر الدم في العراق وفلسطين ...
ألا نؤذي المشاهد حين نقدم له أغاني هابطة مبتذلة تقدمها مطربات متفننات بإثارة غرائز جيل من الشباب لاحول له ولا قوة , جيل محبط , يعاني من الفقر والبطالة والأحلام المجهضة ... مطربات الإثارة الهابطة , أشد أذى على الجمهور من فتيات الليل !!
أنا واثقة ان كل مواطن في العالم العربي يعرف أن ثمة فتيات ينحرفن وينزلقن إلى الدعارة بسبب الفقر والقهر وانعدام فرص العمل , وبسبب الإغراءات الشديدة لعصر العولمة الذي جعلنا محاصرون باستمرار بسلع مغوية وجذابة طوال الوقت ...
من يستطيع أن يعيش دون موبايل في هذا الزمن ?! أعرف متسولين يحملون سراً موبايل !
ثم ما معنى النجاح الساحق لفيلم عمارة يعقوبيان , ألم يصور الكاتب في روايته والمخرج في الفيلم كيف يدفع الفقر شابات تعملن بائعات في مخزن للألبسة إلى الاستسلام لصاحب الدكان , وإقامة علاقة جنسية معه مقابل بضعة جنيهات !
ولماذا حين تطرح هذه القضية كمشكلة اجتماعية في برنامج فضائي تثور حفيظتنا ونصرخ : لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى !!
ثم كفانا نفاقاً وادعاءً أنه لا يهمنا سوى مشاعر الجمهور ... أليس لمصلحة الجمهور ان نناقش معه بطريقة موضوعية وعقلانية وبعيدة عن الهيجان الغريزي للعواطف , المشكلات الحقيقية في واقعنا ...
في آخر دراسة إحصائية صدرت عن جمعية الأطباء النفسانيين العرب , تبين ارتفاع كبير لظاهرة سفاح القربى , بسبب صعوبة الزواج والفقر , والسكن المزدحم ماذا سيحصل إذا تجرأ أحد الإعلاميين وناقش هذه الظاهرة ... حتى ستقوم الدنيا ولا تقعد كالعادة ?!
في الغرب هناك فضائيات متخصصة بمناقشة القضايا الحساسة , كالدعارة وسفاح القربى , والإدمان على المخدرات والأمراض النفسية , ُتعرض كل تلك المشكلات بحياد تام وتحليل عقلاني ومنطقي عميقان ...
أما نحن فنختار أن نكون كالنعامة , لا نريد مواجهة أمراضنا المزمنة , نغش أنفسنا بأن كل شيء على ما يرام , في الواقع لاشيء على ما يرام , بل نحن ننحدر من هاوية إلى هاوية أوسع وأعمق كلما غيبنا العقل , وخفنا من المواجهة .
واخيراً أحب ان اذكر أنني قرأت منذ أشهر عدداً ممتازاً في روز اليوسف يحكي عن ظاهرة متفشية جداً في مصر والعالم العربي وهي انتشار ظاهرة الزواج العرفي المتكرر ... أي ان شابات صغيرات في السن يتزوجن من رجل ثري زواجاً عرفياً يستمر لأيام وبالأكثر لشهر او شهرين , ثم يُطلقن مقابل مبلغ من المال , ويتزوجن ثانية زواجاً عرفياً ثانياً , ويُطلقن ... ويتزوجن ثالثاً ورابعاً ... وكل شيء يتم عن طريق وسيط , ماذا نسمي هذه الظاهرة ?!
هل يختلف اثنان انها دعارة ?!
مسكين أيها المشاهد , لأنك ليلاً نهاراً تتعرض لبرامج أشبه بالقصف الموجه إلى عقلك .
عن جريدة الثورة السورية!
وقد تلقفتها معظم المواقع الالكترونية ومنها مكتوب