مفـاهـيم ومصطلحـات تـوراتيـة
شـائعـة يجـب تصحيحـها
إعداد الباحث
مصطفى إنشاصي
في الحقيقة يسوؤني كثيراً أن أقرأ بعد تلك العقود الطويلة من الكشف عن كثير من الآثار والحقائق التاريخية في وطننا معلومات باعتقادي أنها خاطئة، نقلها لنا علماء الآثار العرب والمسلمين عن علماء الآثار الغربيين كما هي دون تمحيص أو حتى مراجعة وتدقيق ليكتشفوا ليس أنها فقط تخالف الحقائق القرآنية؛ ولكنها في الوقت نفسه تتناقض مع بعضها في بعض الأحيان. والسبب في ذلك أن البعض منهم اعتبر التوراة المحرفة والمزورة كتاباً دينياً (سماوياً) وليس من كتابة البشر، والبعض اعتبره مصدراً تاريخياً موثوقاً يمكن الاعتماد عليه في التوثيق لتاريخ البشرية منذ سيدنا آدم عليه السلام، على الرغم من أنه لا يوجد دليل آثاري أو تاريخي يؤكد صحة ما جاء فيها، بل العكس الصحيح، فلقد أثبتت الدراسات النقدية اللغوية والتاريخية وعلم الأديان، أن التوراة كتاب غير موثوق لا دينياً ولا تاريخياً ولا أنثروبولوجياً، وذلك لأنه كُتب في عهد متأخر عن زمن سيدنا موسى على أيدي كتبة يهود، أودعوا فيه جميع خرافات وأساطير الأقوام التي عاشت في العالم القديم التي ثبت عدم صحتها، ونسبوها إلى إلههم الخاص "يهوه"، وهو إله خاص بهم من دون كل البشر، وهو إله غير آلهة البشر الأخرى، كما أضافوا إليها جميع عقدهم النفسية ضد البشرية، وحشوا فيه كل اتجاهاتهم وتوجهاتهم السياسية المستقبلية إلى نهاية الكون، حول فلسطين والسيطرة على العالم، وجعلوا منها كتاب ديني موحى به من الله إلى أنبياء بني إسرائيل؟!
والبعض لم يُعر أي اهتمام لمسألة إن كان التوراة ككتاب ديني دخل عليه من التحريف والتزوير ما أخرجه عن سماويته، وحوله إلى كتاب من وضع البشر. أو إن كان يمكن الوثوق به كمصدر تاريخي خالي من الأساطير والخرافات والأهواء البشرية، ونقل منه ما هب ودب وكأنها حقائق تاريخية صحيحة لا ترقى إلى الشك وبنى عليها كثير من استنتاجاته عن الأحداث التاريخية التي استشهد عليها منه. على الرغم من علم الكثير مِمَنْ ينقل عن التوراة أنها كتبت بعد القرن الخامس قبل الميلاد في أيام السبي البابلي. وقد زيد عليه بعد ذلك حسب كل مرحلة إلى أن أخذ شكله الحالي.
فالتوراة لم يكن وحياً كما يدعي اليهود وعلماء اللاهوت النصارى الذين يقدمونه إلى المؤمنين به وغيرهم على أنه وحي من الله تعالى. لذلك جاء محتوياً على كثير من المتناقضات في رواياته حول الأحداث التاريخية وتاريخ الشعوب القديمة التي عرض لها، لأنه لم يكن شاهداً عليها. وجاء مخالفاً لأغلب الحقائق العلمية والجغرافية والفلكية وغيرها مما أصبح مسلمات علمية في هذا العصر. ومع ذلك مازال يؤمن به النصارى. أضف إلى ذلك أننا مسلمون وأن المولى جل وعلا قد أخبرنا في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن التوراة زُورت وحُرفت وأنها كتبت بأيدي أحبارهم. فلن نؤمن بما جاء فيها إلا بما يتوافق والقرآن الكريم فقط.
كما أنهم بالإضافة إلى اعتمادهم التوراة المحرفة مصدراً تاريخياً موثوقاً فإنهم اعتمدوا على آراء علماء الآثار الغربيين، علماً أن أكثرهم اعتمدوا التوراة كأساس لدراساتهم الأثرية، وحاولوا تفسير المكتشفات بما يتفق وما جاء في التوراة، لذلك زيفوا كثير من الحقائق التاريخية لتخدم ادعاء اليهود بحقهم الديني والتاريخي في فلسطين والأرض من الفرات إلى النيل. أو وقعوا في سوء فهم بعض الأحداث التي جاءت غير متوافقة مع ما جاء في التوراة، فأولها تأويلات أفقدتها العلمية والموضوعية، وأصبحت أحداث ومعلومات تاريخية مزيفة. أضف إلى ذلك أن أغلب علماء الآثار من النصارى أي المؤمنين بحرفية ما جاء في التوراة مثل البروتستانت أو المؤمنين به ككتاب تاريخي ومقدمة لبعث المسيح، ومنهم من سخره اليهود لخدمة أهدافهم والمشروع اليهودي ـ الصليبي لتمزيق جسد امتنا الإسلامية ووحدة وطننا، وتشويه حقيقة تاريخ المنطقة. كما أننا من مطالعتنا لبعض ما كتبه علماء الآثار من المسلمين وجدنا أنهم ساروا إلى حد كبير على نفس المنهج الغربي في تناول كثير من الأحداث التاريخية، وخاصة ما يتعلق منها بعقيدة التوحيد، وأصول وأنساب البشرية والقبائل العربية الأصل، ومثل قصة الخروج وهلاك فرعون موسى عليه السلام وغيرها من الأحداث التاريخية التي تتعارض وصريح القرآن الكريم. ولأننا نريد أن نقدم رؤية تاريخية صحيحة لتاريخ الصراع وأحداثه اعتمدنا القرآن الكريم مرجعاً فيما يتعلق بتاريخ سيدنا إبراهيم عليه السلام وبني إسرائيل.
تلك كانت جزء من مقدمة كتاب لم يرى النور منذ ثمانينيات القرن الماضي، حاولت فيه تصحيح كثير من المعلومات المغلوطة عن الصراع مع الغرب اليهودي ـ الصليبي، وقد بدأته بالبعد التاريخي الذي هالني ما وجدت فيه من أخطاء ومعلومات تاريخية ليست دقيقة للأسباب السابق ذكرها. ولأني أعشق التاريخ تجدني كلما وقع بصري على عنوان مقالة أو بحث له علاقة بتاريخ فلسطين والقدس في الفترة الأخيرة في المواقع الالكترونية سارعت لقراءته، وفي كل مرة تصدمني تلك المعلومات والأحداث التاريخية غير الصحيحة التي مازال كتابنا ومفكرينا يرددونها، في الوقت الذي تستحق منا فيه التوقف معها، وإعادة النظر فيها في ظل المتغيرات ومستجدات الواقع، أرى أنه يجب أن الفت الانتباه لها لأنها في اعتقادي أنها خاطئة تاريخياً.
بعد تلك التوطئة السريعة لا بد لنا أن نعرض للمقدمة المنهجية بشكل علمي أكاديمي على النحو التالي:
أولاً: دواعي ومبررات اختيار الموضوع:
1ـ لقد ثبت علمياً وتاريخياً أن التوراة المُحرفة التي بين أيدينا كتاب من صياغة البشر وليس الوحي الذي أوحي به إلى سيدنا موسى عليه السلام. كما أنه ثبت أن الديانة اليهودية الحالية التي يدين بها أتباعها من اليهود، هي ديانة وثنية، وليست الرسالة السماوية التي نزلت على سيدنا موسى. إضافة إلى ذلك؛ أن الإله الذي يعبده اليهود حالياً (يهوه)، هو خاص باليهود وحدهم وليس إلهاً لجميع البشر، كما ثبت أنه إله (كنعاني) سطا عليه اليهود وأكسبوه الصفات التي تتناسب وطباعهم الشريرة، وفي الوقت نفسه جعلوا له زوجة وأبناء مثل بقية الآلهة (الكنعانية). وقد ثبت أن العهد وجميع الوعود التي منحها الرب لأنبياء التوراة لا تخص اليهود وحدهم من ذرية سام بن نوح، ولكنها عالمية تخص جماعة المؤمنين عند بعض علماء اللاهوت النصارى، وأنها تخص أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندنا نحن المسلمون، ومن خلالنا تتحقق في جميع البشر.
2ـ إن القرآن الكريم كذب صحة تلك الأنساب التي وردت في التوراة عن أصل البشرية، من لدن آدم عليه السلام، واختزلها كتبة التوراة المحرفة في ذرية سيدنا نوح عليه السلام، وأبنائه الثلاثة (سام وحام ويافث). ولأن العلماء والمؤرخين المسلمين قديماً وحديثاً لم يأخذوا بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كذب النسابون) ـ كما سيأتي معنا ـ عندما أخذوا بأنساب التوراة وقسموا العرب إلى عرب بائدة وعاربة ومستعربة، وأبادوا معظم ذرية أبناء سام بن نوح الذي وعده (يهوه) بالبركة والسيادة العالمية هو وذريته بحسب رواية التوراة، فقد وقعوا في الشرك الذي أعده كتبة التوراة المحرفة، واعتبروا معظم العرب من ذرية إخوة أرفخشذ بن سام بن نوح عرب بائدة، ولم يبقَ من ذرية سام إلا ذرية أرفخشذ فقط، ورفضوا في الوقت نفسه الأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في رفع نسب قحطان، أبو القبائل اليمينية إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأخذوا برواية التوراة ورفعوا نسبه إلى عابر حفيد أرفخشذ، تأولاً لسم يقطن الوارد في التوراة، علماً أن التوراة أبادت يقطن وذريته.
3ـ تبين من خلال كثير من المتناقضات التاريخية التي كشف عنها علماء الآثار الغربيين في وطننا، لتوافق وما ورد من روايات تاريخية خرافية وأسطورية في التوراة، ونقلها عنهم المؤرخين وعلماء الآثار المسلمين والعرب، تبين عدم صحتها، وعدم صحة كثير مما وضعه علماء الآثار الغربيين ومَنْ يزعمون أنهم علماء (الشعوب واللغات السامية)، وما انبثق عنها كثير من المصطلحات والمفاهيم التي أصبحت مسلمات وبدهيات علمية وتاريخية عندنا، تبين أنها كلها وضعت لخدمة أهداف الصهيونية واليهودية العالمية في وطننا، ولضرب كل تطلعات الأمة للوحدة والنهضة واستعادة دورها الرسالي والحضاري العالمي. لذلك فنحن نتداول مصطلحات ومفاهيم وأحداث تاريخية على أنها حقائق دون أن نلتفت إلى خطورتها.
ثانياً: الهدف من الدراسة:
لذلك تهدف الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الغايات والأغراض والأهداف التي نرى أنها تهم مستقبل الأمة ومصلحتها العامة، منها:
1ـ تصحيح مفاهيم شائعة بين المثقفين والعامة تخدم في النهاية الأهداف والغايات الغربية والصهيونية في وطننا وضد أمتنا وديننا.
2ـ إبراز الأدلة والبراهين التي تؤكد خطأ تلك المصطلحات والمفاهيم، وعدم صحة تلك التي تسمى حقائق تاريخية وهي ليست كذلك.
3ـ التوصل إلى رؤية منهجية إسلامية لمعالجة ذلك الموضوع، بما يسهم في تأسيس منظور معرفي جديد لقراءة ما هو متاح من دراسات في هذا الصدد.
ثالثاُ منهجية الدراسة:
اعتمدت الدراسة على المنهج التاريخي التحليلي للوصول على نتائج علمية دقيقة، من خلال تناول النقاط التالية:
القسم الأول
المبحث الأول: اليهودية بين ما هو سماوي وما هو بشري ووثني. وسنتناول فيه:
1ـ هل التوراة هي حقاً كتاب سماوي أم كتاب من وضع البشر؟.
2ـ اليهودية ديانة وثنية.
3ـ إله اليهود (كنعاني).
4ـ إله اليهود له زوجة وأبناء.
5ـ عالمية العهد لنوح وأصل الأجناس في التوراة.
6ـ عالمية الوعد لسيدنا إبراهيم في التوراة والمسلمون هم المقصودين به.
المبحث الثاني: أصل البشرية بين رؤية التوراة ورؤية القرآن. وسنتناول فيه:
1ـ حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (كذب النسابون).
2ـ القرآن الكريم يثبت عكس ما ترويه التوراة حول سيدنا نوح و أبنائه وذريته، وأن أصل البشرية لا يقتصر على ذريته، وإنما يمتد إلى ذرية الناجين معه في السفينة من الغرق بالطوفان.
3ـ حديث سام بن نوح أبا العرب.
4ـ أصل العرب وحقيقة مفاهيم العرب البائدة والعاربة والمستعربة. هل هناك فعلاً عرب بائدة حقاً كما يزعم القائلين بذلك؟.
5ـ ذرية بعضها من بعض.
6ـ عروبة سيدنا إبراهيم.
القسم الثاني
المبحث الثالث: حقيقة الشعوب واللغات السامية. وسنتناول فيه:
1ـ علماء الآثار وحقيقة الشعوب واللغات السامية.
2ـ العبرية الحالية ليست العبرية القديمة، لغة (الكنعانيين).
3ـ واجب تصحيح الأسماء وتسليط الضوء على مدى صحة بعض المصطلحات والأسماء، مثل (السامية ، الكنعانية، الفينيقية، العبرو والعبيرو).
4ـ فرعون موسى؛ هل هو فرعون واحد أم أكثر من فرعون كما يزعم علماء الآثار ليوافقوا روايات التوراة وخروج بني إسرائيل من مصر؟.
القسم الأول
المبحث الأول
اليهودية بين ما هو سماوي
وما هو بشري ووثني
1ـ هل التوراة هي حقاً كتاب سماوي أم كتاب من وضع البشر؟
قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) سورة البقرة الآية 79.
بين أيدينا كتاب ما يسمى العهد القديم ـ التوراة ـ الذي رغم علم حاخامات اليهود، وعلماء التاريخ واللغويات وغيرهم من أهل الاختصاص أنه لا يوجد فيه حرف واحد مما أنزل على سيدنا موسى عليه السلام، وأنه لم يكتبه، ولم يمليه على أي واحد من كتبته، إلا أن الجميع من المختصين والعوام يتعاملون معه وكأنه كلام الوحي، أو ما تلقاه موسى من الله تعالى في طور سيناء!! لأن التوراة كتاب مزور، قد كتب بعد القرن الخامس قبل الميلاد أيام السبي البابلي. وقد زيد عليه بعد ذلك حسب كل مرحلة إلى أن أخذ شكله الحالي، وهذا ما أثبته علماء التاريخ والآثار واللغات وغيرهم. وأن اليهود حشوا فيه كل اتجاهاتهم السياسية حول فلسطين ورغبتهم في السيطرة على العالم. فالتوراة لم يكن وحياً كما يدعي اليهود وعلماء اللاهوت النصارى الذين يقدمونه إلى المؤمنين به وغيرهم على أنه وحي من الله تعالى، والدليل على ذلك أنه جاء محتوياً على كثير من المتناقضات في أحداثه لأن كتبتها لم يتلقوه وحياً كما يزعمون، ولا كانوا شهوداً عليها. كما أن ما جاء فيه من معلومات عن بداية خلق الكون والإنسان وغيرها مما يدخل في مجال الحقائق العلمية، جاء مخالفاً لأغلب الحقائق العلمية والجغرافية والفلكية وغيرها مما أصبح مسلمات علمية في هذا العصر. وعلى الرغم من ذلك لازال يؤمن به النصارى، ويعملون من أجل تحقيق ما جاء فيه من خرافات. أضف إلى ذلك أننا مسلمون وأن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن التوراة قد زُورت وحُرفت وأنها كتبت بأيدي أحبار اليهود، وبما يوافق هواهم. لذلك لن نؤمن بما جاء فيها إلا بقدر ما يتوافق وما جاء في القرآن الكريم، وما يتوافق والحقائق العلمية والتاريخية والأثارية المؤكدة فقط.
وقبل أن نذكر بما قاله العلماء والمختصين حول زيف ذلك الادعاء، سنذكر بما أثبته القرآن الكريم عن توراة موسى، وما تبقى منها قبل أن تضيع وتختفي بعد الحرائق المتعددة التي تمت لهيكل سيدنا سليمان المزعوم، حيث كان يحتفظ اليهود بالتابوت الذي فيه بقية من آثار الألواح التي كان مكتوبا عليها التوراة، وسبق أن حطمها سيدنا موسى أثناء التيه، عندما عاد إلى بني إسرائيل ووجدهم يعبدون العجل من دون الله. فقد أخبرنا الله تعالى أن اليهود في عهد نبيهم صموئيل قد طلبوا منه أن يسأل الله تعالى أن يعين عليهم ملك، يقاتلون معه أعدائهم الفلسطينيين الذين هزموهم وسبوا أبنائهم ونسائهم، والأهم من ذلك كله أنهم سلبوهم تابوت العهد ونقلوه إلى قرية بيت دجن أحد أهم مدن الفلسطينيين آنذاك، وبعد جدل معه قَبِل، وأخبرهم أن الله تعالى قد اختار لهم طالوت ملكاً عليهم، فرفض اليهود ذلك لأسباب خاصة بنفوسهم المريضة كما أخبر الله تعالى. فقال لهم نبيهم: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: 248).
{أنْ يَأتِـيَكُمُ التَّابُوتُ فِـيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِـيَّةٌ مِـمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ}*. ذكر الطبري مجموعة أقوال في ذلك لم تخرج عن التالي: كان فـيه عصا موسى، وعصا هارون، وثـياب موسى، وثـياب هارون، والنعلـين، ولوحان من التوراة، أو رضاض الألواح وما تكسر منها، و قـفـيز من منّ (الـمن). وقال آخرون: بل ذلك الجهاد والقتال فـي سبـيـل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: وجائز أن يكون تلك البقـية: العصا، وكسر الألواح والتوراة، أو بعضها والنعلـين، والثـياب، والـجهاد فـي سبـيـل الله وجائز أن يكون بعض ذلك. وذلك أمر لا يدرك علـمه من جهة الاستـخراج، ولا اللغة، ولا يدرك علـم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلـم، ولا خبر عند أهل الإسلام فـي ذلك. فغير جائز فـيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزاً فـيه ما قلنا من القول. كما ذكر ابن كثير في قوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَـٰرُونَ} أقوال لم تزد عما ذكره الطبري، وعلى ذلك أكثر كتب التفسير، أي أنه لم يكن في التابوت ما يدعونه التوراة التي بين أيدينا اليوم ولا كلمة منها، وفي أحسن الأقوال لوحان من التوراة فقط التي نزلت على موسى عليه السلام.
كما أننا يحق لنا أن نتساءل: تُرى هل أخذ اليهود المسبيين إلى بابل وهم كانوا يجرون بالحبال والحديد طوال الطريق، معهم الألواح أو التوراة التي كان دت موجودة في التابوت، قبل أم يحرق نبوخذ نصر ما يزعمون أنه (هيكل سليمان) ويدمره عن آخره ويسويه بالأرض؟!.
كما يذكر الفيلسوف الكبير روجيه جارودي في أكثر من كتاب له، أن النبي حلقيا ـ الذي له سفر كامل في التوراة الحالية ـ في عهد الملك اليهودي يوشيا الياقيم عام 620 ق.م، عندما رأى ما رأى من انحراف اليهود عن دين سلفهم من الأنبياء عليهم السلام، وعبدوا آلهة الأقوام الأخرى، أراد أن يعيدهم إلى عبادة الله الواحد، فادعى أنه وجد في الهيكل التوراة التي نزلت على موسى، وقد جمع الملك يوشيا اليهود آنذاك وقرأ عليهم التوراة في ضحى يوم واحد. وعندما عاد اليهود من السبي البابلي قرأ عليهم عزرا النبي ـ الذي له أيضا سفر كامل في التوراة الحالية، ويعتبر أهم وأشهر من وضعوا أصول الدين اليهودي الحالي أيام السبي البابلي ـ قرأ عليهم التوراة في ثلاثة أيام كاملة...!! فيا ترى كم يوما تحتاج التوراة التي بين أيدينا حتى يتم قرأتها؟!.
فأي توراة نُصدق أنها التي نزلت على موسى بعد أن زورت وكتبت بأيدي اليهود الذين انحرفوا بها عن عقيدة وغايات سلفهم؟ ما يسمى بأسفار موسى الخمسة التي يؤمن بها جميع الطوائف اليهودية والنصرانية ولا اختلاف بينهم عليها؟ أم توراة حلقيا؟ أم توراة عزرا؟ أم التوراة الحالية أم غيرها؟! وأي إله نؤمن لليهود: إيلوهيم أم يهوه؟! وكذلك أي عقيدة من عقائد التوراة نُصدق؟ فعقائد التوراة تاريخياً كثيرة، ومدارسها في هذا العصر متعدد، يقول الباحث فوزي حميد: "لم يتفق أحد من علماء اليهود على أية عقيدة من العقائد التي كانت تدرس علانية باسم القانون الشفهي، بل كان رئيس محكمة كل جيل أو نبيه يضع مذكرة عما سمعه من سلفه وموجهه، وهكذا ألف كل عدد من العلماء كتاباً ليستفاد منه حسب درجة لقاءاته"[1].
لقد بات من المعروف علمياً وتاريخياً أن التوراة كتبت بأيدي أحبار اليهود أيام السبي البابلي، لذلك جاءت مناقضة لتطور الحياة الإنسانية ولمسيرة التاريخ، فضلاً عما فيها من خرافات عن كثير من الحقائق الكونية تتناقض وتتعارض مع ما أثبتته الاكتشافات العلمية الحديثة. فقد جاء في "دائرة معارف لاروس" أن: "موسى ولد 1571، وتوفى 1451 ق.م *. وقد أسس مدنية وديناً" ولا نملك الكتاب الحقيقي لشريعته، فقد نسبت إليه التوراة أو الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، ولكن هذه التوراة حاملة لآثار لا نزاع فيها من الحواشي والتنقيحات، ومن علاقات أخرى تدل على أنها ألفت بعد الزمان الذي مات فيه موسى بعهد طويل"[2].
كما أنه لا يعتقد ـ كما يقول السموأل أحد حاخامات اليهود الذين أسلموا في المغرب ـ أحد من علماء اليهود وأحبارهم أن هذه التوراة التي بأيديهم "أنها المنزلة على موسى ألبته؛ لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم، وإنما سلمها إلى عشيرته، أولاد ليوى، ودليل ذلك قول التوراة: "وكتب موسى هذه التوراة، ورفعها إلى الأئمة حتى ليو"... ولم يبذل موسى من التوراة لبني إسرائيل إلا نصف سورة يقال لها: "هاأزينو" ... وأيضاً إن الله قال لموسى عن هذه السورة : "وتكون لي هذه السورة، شاهداً على بني إسرائيل" وأيضاً إن الله قال لموسى عن هذه السورة: "لأن هذه السورة لا تنسى، أفواه أولادهم". ويعني ذلك أن هذه السورة مشتملة على ذم طباعهم وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم ويشتتون في البلاد. فأما بقية التوراة، فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عن سواهم. وهؤلاء الأئمة الهارونيون الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها، قتلهم "بخت نصر" على دم واحد، يوم فتح بيت المقدس... فلما رأى "عزرا" أن القوم قد أُحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة، ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم الآن"[3].
وقد حاول المؤرخ المعروف صاحب موسوعة "قصة الحضارة" (ول ديورانت) إحصاء مصادر الفكر اليهودي فلم يكد يغادر من أسطورة أو فكرة وثنية مما سبق تاريخ دينهم أو عاصره من أساطير بابل أو أساطير الجزيرة العربية، والمصادر السومرية، والقصص الشعبية في مصر والهند والفرس واليونان والتبت، والفكر الفرعوني القديم، والفكر الفارسي، وشريعة حمورابي، إلا ووجد أنها جميعاً كانت منبعاً غزيراً لأسفار العهد القديم. لذلك قرر أن: أسفار العهد القديم جُمِعت لأول مرة في بابل وظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، ويظهر اسم الكاهن (عزرا) مرتبطاً بتدوين التوراة[4].
ويقول أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين": "... إنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر. وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر. ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني". ويضيف: "ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قد دسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شُراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها"[5].
وقد أقر الدكتور هربرت لوي اليهودي في كتابه "أديان العالم الكبرى": "إن هناك عقائد دخيلة انسابت إلى اليهودية عن فارس وبابل والإغريق لا سند لها في اليهودية بالذات"[6]. كما يعترف العالم اليهودي سيلفر بأن التوراة الحالية لا تمثل توراة موسى الأصلية في أية ناحية وحتى الوصايا العشر التي يكاد العلماء يجمعون أنها الشيء الوحيد المتبقي من التوراة الأصلية لم تكن في شكلها ومضمونها كتلك التي أتي بها موسى. ويعلن مورتكات في كتابه "تاريخ الشرق الأدنى" صراحة بأن التوراة كتاب أسطوري لا دليل على صحة أساطيره فيقول: "لا يمكن الاعتماد من الناحية العلمية على أساطير التوراة التي برهنت الأبحاث الأثرية على عدم صحة تلك الأساطير التي وردت فيها وتوجد أبحاث تبرهن عكس هذه الأساطير"[7].
ذلك ما دعا شربنتية أصطفان إلى وصفه بالكتاب المحير: "إن الكتاب المقدس لا سيما العهد القديم كتاب محير نعلم قبل أن نفتحه أنه الكتاب المقدس عند اليهود و(المسيحيين) ونتوقع أن نجد فيه كلام الله غير ممزوج بأي شيء: أي نوعاً من كتاب للتعليم أو اللاهوت الأدبي. وعندما نفتحه نجد فيه قصصاً من ماضي (شعب) صغير قصصاً كثيراً ما تكون لا فائدة منها فيها روايات لا نستطيع أن نقرأها بصوت مرتفع دون أن نخجل منها، وحروباً واعتداءات وقصائد لا تحملنا على الصلاة وإن سميناها مزامير، وفضائح من أخلاقية قد تخطاها الزمن وكثيراً ما هي مبغضة للنساء، كتاب محير ولكن هل هو كتاب" [8].
وبحسم يقطع الدكتور (آرثر روبين) أحد أعضاء الحركة الصهيونية وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، بأن التوراة قد بدأت كتابتها أيام السبي البابلي، فيقول: "وبينما كان هؤلاء ـ اليهود ـ يتحرقون في المنفى (السبي البابلي) دون أن يستطيعوا مقاومة. تفتقت عبقرية التآمر لديهم عن فكرتي (الشريعة) و(الوعد) وغايتهما المحافظة على أنفسهم كعرق متمرد متآمر منطوٍ على نفسه، منظم تنظيماً شبه عسكري، وغير قابل للاندماج مع غيرهم"، ويضيف: "إن الأسس التاريخية لهذه العقيدة (اليهودية الأرثوذكسية) قد أعطيت لليهود في تشريعات عزرا ونحميا حوالي 400 ق.م ثم عدلت ونُقحت في القرون التالية في الشريعة غير المكتوبة، أي الشفهية وتلمود بابل"[9].
إذن فالتوراة التي يؤمن بها اليهود والنصارى اليوم محرفة ومزيفة، كتبها أحبار اليهود ووضعوا فيها كل اتجاهاتهم السياسية وأهدافهم الدنيوية، ونظموها بطريقة مكنت لقياداتهم من السيطرة على أتباعهم وتنظيمهم تنظيم شبه عسكري غير قابل للاندماج مع غيرهم، ومن أجل تحقيق تلك أهداف سياسية ألبسوها لباس الدين. ولم تعد تلك الأهداف السياسية لليهود خافية على أحد.
بداية أود تصحيح الفكرة الشائعة عند المؤرخين وعلماء الآثار من مسلمين وغير مسلمين، القائلة أن اليهود أخذوا عقيدة التوحيد وفكرة "الإله الواحد" عن (الكنعانيين). فقد بات من المعروف عند المؤرخين وعلماء الآثار عن اليبوسيين أنهم أول الشعوب التي عرفت التوحيد وعبادة الإله الواحد، وكانوا يصفونه باسم "الله العلي"، وقد أشارت التوراة إلى زهد ملك اليبوسيين (ملكي صادق) وتعبده وأنه بارك إبراهيم عليه السلام قائلاً: "لتكن عليك يا إبرام بركة الله العلي، مالك السموات والأرض. وتبارك الله العلي الذي دفع أعدائك إلى يديك" التكوين 14/20-21. لذلك قال رجاء جارودي ـ مثل غيره من المؤرخين ـ في إشارته إلى مدى تأثير (الحضارة الكنعانية) في اليهود: "فحين التقى الكنعانيون والعبرانيون في المرحلة الأولى كان هناك رفض متبادل بين المؤمنين بالإله (يهوه) والمؤمنين بالإله (إيل) ثم ضعف اهتمام العبرانيين بإلههم مع استمرار توطنهم في كنعان، وقوي إحساسهم بإله المواطنين الأصليين حتى أنهم تبنوا اسمه (إيل) وجمعوه على (إيلوهيم)"[10]. أود القول من البداية: بأن هذه الفكرة فكرة خاطئة، وإلا ما كان اعتبر أنصار تلك الفكرة (اليهودية دين سماوي)! وذلك لأن بني إسرائيل الذين دخلوا فلسطين كانوا يعرفون التوحيد وفكرة "الإله الواحد" عن طريق أنبيائهم، وأجدادهم من لدن إبراهيم عليه السلام مروراً بموسى إلى داود وسليمان عليهم جميعاً السلام.
ولكن الصواب القول: أن اليهود بعد إقامتهم في فلسطين لأن نفوسهم مريضة وجبلتهم شريرة، ولأنهم معاندون ومكابرون، وطبعهم الكفر والمعصية، فإنهم عبدوا آلهة (الكنعانيين) وذلك ما أكدته التوراة وكان كثيراً ما يغضب (يهوه) على شعبه لأنه كان يعبد آلهة (الكنعانيين). خاصة وهم قد عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من ذهب وحلي نسائهم بعد أن نجاهم الله من فرعون وقومه مع نبي الله موسى، وهم تتنزل عليهم آيات ومعجزات الله ، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} الأعراف148. وقد بقي ذلك ديدن اليهود مع جميع أنبيائهم كما تفصح عن ذلك التوراة.
الصواب القول: أن فكرة "الإله الواحد" أو التوحيد التي استعارها اليهود من (الكنعانيين) هي فكرة وثنية، تقوم على توحيد الآلهة في إله واحد. أو تغليب إله على بقية الآلهة. وهذه العقيدة خلاف عقيدة الوحدانية التي دعا لها جميع الأنبياء والرُسل، والتي كان عليها بنو إسرائيل قبل إقامتهم في فلسطين، وتأثرهم بـ(الحضارة الكنعانية). وقد يكون أصل فكرة التوحيد عند الكنعانيين التي تعود إلى ما كان عليه (ملكي صادق)، أن يكون ملكي صادق أحد أتباع أنبياء الله هود أو صالح عليهما السلام،. اللذين يؤكد المؤرخون هجرتهما بعد نزول العقاب الإلهي بقوميهما الكافرين، حاملين معهما عقيدة التوحيد إلى فلسطين وجوارها من بلاد الشام. حيث تشير المصادر التاريخية الإسلامية إلى أن سيدنا صالح ومن آمن معه خرجوا إلى الشام حيث نزلوا المنطقة من الحِجر إلى صرح أي نحو وادي القرى "وهي مدائن صالح الحالية" إلى رملة فلسطين على 18 "ثمانية عشر" ميلاً بين الحجاز والشام[11]. أو قد يعود إلى أن (ملكي صادق) قد أمن بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام وعبر له عن امتنانه بذلك بمباركته.
وعليه فإن اليهودية دين وعقيدة وثنية، تقوم على الخرافة والأسطورة، وليس دينا ـ رسالة ـ سماويا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، كما يحاول اليهود وأنصارهم من العلماء الغربيين الترويج له، ويفرضوا علينا إجراء حوارات دينية مع اليهود تحت دعوى ما يزعمون أنه (حوار الأديان السماوية) ـ مع تحفظنا على هذا المصطلح لأننا لا نؤمن بأديان سماوية ولكننا نؤمن بدين سماوي واحد دعا له جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام هو الإسلام، وأن ما سبق بعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت رسالات أو شرائع سماوية وليست أديان سماوية ـ وذلك لأن ما يسمى بالديانة اليهودية اليوم قد تأكد بشكل قاطع ونهائي أنها ليست الرسالة السماوية التي نزلت على سيدنا موسى عليه السلام، ولكنها دين وثني قد تم تأسيسه في بابل، بعد أن دمر نبوخذ نصر دولة يهوذا عام 586 ق.م، وحرق هيكلهم المزعوم وسباهم إلى بابل، وهي خليط من المعتقدات والخرافات والأساطير البابلية، وغيرها من الديانات الوثنية التي كانت منتشرة في منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل آنذاك. ويعتقدون أن "يهوه" هو إلههم الخاص من دون جميع المخلوقات، وأنهم هم وحدهم "شعبه المختار" من دون بقية شعوب الأرض، لأن بقية شعوب الأرض ليسوا بشر، ولكنهم "جوييم" حيوانات خلقت على هيئة الإنسان لتليق بخدمة "الشعب المقدس للرب يهوه". أي أنه إله قبلي، ودين عنصري.
يكفي أن نورد هذا النص من التوراة نفسها يجعل من موسى عليه السلام إله لفرعون، لنتأكد من أن الديانة اليهودية ديانة وثنية، يقول: "فَقَالَ \لرَّبُّ لِمُوسَى: (ٱنْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلَهاً لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ)". (سفر الخروج: 7/1). هل مثل هذا القول يصدر عن كتاب سماوي مُنزل من الله تعالى؟! إن كان موسى إله فماذا يكون "يهوه" على ذلك؟! ولكن ذلك ليس غريباً على ديانة وثنية وليست سماوية، تؤمن بتعدد الآلهة وثنائيتها وتكونها من ذكر وأنثى!.
وحقيقة عدم وحدانية الديانة اليهودية وأنها ديانة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، أكد عليها الكاتب اليهودي (رفائيل بتاي): "إن عامة الناس من اليهود وغيرهم مازالوا يتصورون أن الديانة العبرانية الرسمية كانت من مبدأ أمرها ديانة توحيدية بدأت بإبرام الموحد بيهوه، غير أن المتخصصين يعطون ظهور التوحيدية العبرانية تاريخاً لاحقاً لإبرام وزمانه ببضعة قرون إذ يرجعون بدايات التيار التوحيدي حتى إلى زمن أنبياء الأكابر، وبأمانة ا لعالم يتحفظ بتاي فيقول: إنه يجب أن نأخذ في الحسبان أن إرجاع بدايات التيار التوحيدي حتى إلى زمن النبيين الأكابر يجب أن يؤخذ بحذر ويحفظ نظراً إلى ما وجد طريقه إلى الديانة من عقائد باتت جزءً منها في الأزمنة التلمودية، وبالنظر إلى ما انطوت عليه من الإشارات القبالية من تعدد الشخوص في شخص الخالق". ويرى رينيه ديسو أن تعدد الآلهة لا سبيل لإنكاره في الديانة اليهودية: لأن التوحيد الإسرائيلي ليس أصلياً بل هو نهاية تطور طويل المدى ظهرت نتائجه بعد سبي بابل حيث فهم اليهود معنى التوحيد العام[12].
كما أن كثرة الإضافات والتعديلات التي كان يُحدثها كتبة التوراة مع تطور الزمن على النصوص السابقة في أٍسفارهم وإضافة أسفار جديدة بحسب مقتضيات المرحلة جعلت البروفيسور (إلس روفكن) يقول في كتابه "صياغة التاريخ اليهودي": "أن فكرة التوحيد وتطبيقها لدى اليهود، لم ترتكز على أسس دينية أو روحية بقدر ما ارتكزت على ضرورات سياسية واقتصادية، وذلك على إثر منافسة شديدة بين زعماء اليهود بعد النفي إلى بابل كتب النصر فيها للفريسيين، وهؤلاء كانوا باتفاق جميع المؤرخين، أصحاب الأثر الكبير في صياغة تاريخ وشريعة اليهود". ويكشف أنها عقيدة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، قائلاً: "ظهرت فكرة التوحيد لدى اليهود ورسخت بناء على مقتضيات معينة تاريخها محدد بدقة، وهو تاريخ الكتبة والفريسيين في بابل، أي حوالي العام 400 قبل الميلاد، وهي الفترة التي (ألفوا) فيها الأسفار الخمسة الأولى من التوراة. ومن هؤلاء المشككين من يعتمد على برهان لغوي ظريف، إذ أن أول كلمة كتبت من قبل الفريسيين هي (في البدء خلق الله السموات والأرض)، (تكوين 1:1)، وفي النص العبري (في البدء خلقت الآلهة السماوات والأرض)، وفيما يلي ذلك، وبناء على استنتاج البروفيسور رفكن، اعتمد الكتبة صفة المفرد عوضاً عن الجمع لوصف الإله"[13].
تلك هي الحقيقة التي يتفق عليها العلماء أكثر من غيرها، إذ يرون أن "إله اليهود (يهوه) هو تطور طبيعي وبطيء من مرحلة تعدد الآلهة التي مر بها اليهود، شأنهم شأن القبائل البدائية الأخرى، تلك الآلهة التي كان "يهوه" مجرد واحد منها، إلى مرحلة الإله الواحد، وقد يكون نتيجة هذا التطور تلك الحرب الشعواء التي يشنها (يهوه)، من خلال التوراة، على غيره من الآلهة والتي بقيت آثارها عالقة في أذهان اليهود المتعددي الآلهة بالفطرة". كما أن "يهوه" خلال تطوره البطيء كما يقول (هومير سميث قد اتخذ "في فوضى تعدد الأديان، الكثير من خصائص آلهة إسرائيل المتعددة، والصفة المشتركة لأكثر آلهة القبائل القديمة هي الحجر والنار، وتشترك هاتان الصفتان معاً لتشكلا جبلاً بركانياً، وهو رمز القوة الهائلة: "هو ذا اسم الرب (يهوه) يأتي من بعيد غضبه مضطرم والحريق شديد وشفتاه ممتلئتان سخطاً ولسانه كنار آكلة وروحه كسيل طاغ يبلغ إلى العنق فيغربل الأمم من البوار .." (إشعيا 30: 27 ـ 28)[14].
ويؤكد الأستاذ (أندرسون) أن عقيدة التوحيد اليهودية التي أخذوها عن (الكنعانيين) كانت عقيدة وثنية، فيقول: "إن الوحدانية التي كانوا (الكنعانيون) يدركونها في ذلك الوقت لم تكن وحدانية تفكير ولكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب)[15].
ذلك لأن "يهوه" لم يكن سوى أحد آلهة (الكنعانيين) الذي صاغه كتبة توراتهم على الصورة التي تلائم جبلتهم الشريرة.
3ـ يهوه إله اليهــود (كنـعانـي)
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} الأعراف148.
يقول (شفيق مقار): لو عدنا إلى قراءة التوراة لرأينا في سفر الخروج الإصحاح الرابع عشر أنهم نزلوا أمام بعل صفون وبعل صفون هذا حسبما تشير إليه التوراة يقع على شاطئ البحر وقد رأي بنو إسرائيل هذا الإله وبعد أن نجوا من فرعون عادت لهم ذكرياتهم فطلبوا من هارون أن يعمل لهم إله كما للقوم الذين مروا بهم آلهة. ولهذا شكل بعل صفون وهو إله (كنعاني) أول خطوة على عبادة بني إسرائيل، ولما أراد الكهنة أن يبتلع يهوه كافة الآلهة السابقة كان ولا شك بعل صفون هو أحد الآلهة التي سطا عليها كتبة يهوه[16].
وبما أنه ثبت كما يقول الأستاذ (كوجنبرت) بأن: دين العبرانيين (بمعنى اليهود) لا يمكن أن يكون تطور ونما محلياً بل كانت عناصره الجوهرية قد استقيت من آراء متراكمة ومن معتقدات كانت شائعة بين الأقوام (الساميين) في الشرق. وأن هذه الوثائق تبرهن بما لا يتطرق إليه الشك على انعزال الديانة اليهودية عن غيرها في الزمن القديم لم يكن سوى خرافة بحتة[17]. ولما كان الإله إيل إله عبده العرب منذ بداية معرفتهم وقد شملت عبادته من اليمن حتى الأناضول ومن أقصى العراقين حتى قلب أوروبا، فذلك يعني أن اليهود عمدوا إلى أحد آلهة الكنعانيين فعبدوه، وأعطوه الصفات الشريرة التي تتناسب وطبائعهم وميولهم النفسية، وكذلك غذوه باتجاهاتهم السياسية منذ البداية.
ولم يقف الأمر عند ذلك ولكنهم أدخلوا عليه بعض التغييرات ليتناسب وطبيعتهم الشريرة، والجهل والتخلف الحضاري عن أقرانهم من الشعوب التي عاصروها، كما يقول (ول ديورانت): "يبدو أن اليهود (الفاتحين) لفلسطين عمدوا إلى أحد آلهة كنعان فصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها وجعلوا منه إلهاً صارماً ذا نزعة حربية صعب المراس". ويضيف عن حشر اتجاهاتهم السياسية واتخاذ الدين وسيلة وأداة للسياسة قائلاً: "وصور كاتبو أسفار موسى الخمسة، وهم الذين كانوا يتخذون الدين أداة للسياسة إله الرعب هذا إله للحرب فأصبح (يهوه) في أيديهم القوية إلهاً للجيوش يدعو للفتح و(الاستعمار) يحارب من أجل شعبه بنفس القوة التي كان يحارب بها آلهة الإلياذة"[18].
كما يصف الدكتور (أنيس فريحة) "يهوه" الإله اليهودي: "إن (يهوه) كما تصوره الكاتب اليهودي مجرد إنسان قدير عظيم ينزل إلى الفردوس ليتحدث إلى آدم ويأمر قابيل وهابيل أن يقدما قرابين فيقبل لواحد منهما ويرفض قرابين الآخر)[19].
ولأن "يهوه" لم يظهر في تاريخ بني إسرائيل عند غالب المؤرخين إلا بعد السبي البابلي، الذي كتبت فيه التوراة وحَشد فيها كتبتها قصص وأساطير الأمم الأخرى، وخاصة في عصري عزرا ونحميا، فإن بعض المؤرخين قال أنه أحد الآلهة الفارسية. يقول (حسن حدة): "وفي هذا الوقت ـ السبي البابلي ـ لم يكن لليهود أي وثيقة تاريخية أو غير تاريخية فكتبت التوراة عشوائياً وكيفياً وحسب تجليات الفكر الكهنوتي اليهودي. وقد كان الكهنة الذين بدءوا يكتبون ينتمون إلى اتجاهات عديدة منها الاتجاه الإيلي وفيه بقايا من ذكريات موسى. والاتجاه اليهودي وفيه التأثير بالديانة الفارسية، فيهوه ليس إلا الإله الفارسي المؤنث ياهي ولم يكن موسى يعرف يهوه ولا سمع به"[20].
ومعلوم أن التقليد اليهوي ينسب إلى مملكة يهوذا في الجنوب، والتقليد الإيلوهيمي ينسب إلى مملكة إسرائيل في الشمال، وقد كان لكل منهما كتابه وكيانه السياسي وهيكله. وتمثل المجموعة الثانية غالبية بني إسرائيل، خاصة وأنه في التوراة أن الإله إيل هو الإله الأول الذي عرفه أنبياء وللآباء الكبار لبني إسرائيل، (إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأبنائه). أما المجموعة الأولى فهي فئة قليلة كانت مقربة من الحكم الفارسي، وهي التي استطاعت الحصول على الوعد بأرض فلسطين ليعيدوا بناء كيانهم السياسي الذي دمره البابليون، وقد جعلت يهوه الإله المفضل والمسيطر وله السيادة الفعلية على بني إسرائيل، وإن كانت في الوقت نفسه احتفظت بالإله السابق إيل.
كما أنه قد شاع عند كثير من المؤرخين للديانة اليهودية ونشأتها رأي يقول: أن "يهوه" لم يكن له زوجه أو ولد كآلهة (الكنعانيين). وأنه كثيراً ما كان يغضب على شعبه لأنه كان يعبد آلهة (الكنعانيين) ويشعل لها ناراً، ويبني لها معابد. وأن "يهوه" بقي عند أتباعه إله لا يُحدد ولا يُوصف، وأن طبيعته لا يحدها قيد ولا شرط، وبناءاً على ذلك لم يضعوا له تمثال، ولم يتخيلوه على أي صورة كـ(الكنعانيين) وغيرهم....إلخ. وكنت أنا نفسي أعتقد أن اليهود اتخذوا لـ"يهوه" زوجة في عهد متأخر، وخاصة في مرحلة الانفتاح الحضاري الإسلامي على جميع ديانات وثقافات وحضارات الشعوب التي كانت ضمن سيادة الدول الإسلامية، وخاصة في الأندلس،وكنت أعتقد أن سبب ذلك؛ هو عادة اليهود عندما يخافون من الانفتاح والحرية والمساواة والتعايش السلمي مع جميع أتباع الديانات والثقافات الأخرى، لأنهم يرون في ذلك ذوبانهم واندماجهم في تلك الشعوب والثقافات وفقدانهم لخاصية التفرد كـ(شعب الله المختار)، وصفة النقاء والتفوق العرقي المزعوم، فإنهم يستغلون ذلك الخوف في فرض مزيد من العزلة والقيود الفكرية والاجتماعية على أنفسهم تجاه الآخرين، ويبدؤوا في البحث عن أفكار جديدة لتطوير دينهم الخاص بهم من بين جميع شعوب الأرض وخاصة مفهوم الخلاص المسيحاني، لمواجهة العلم والاستنارة والتحرر الفكري، وذلك ما حدث في فكر "القبالاه" اليهودية التي اختارت لألههم زوجة وأبناء، كما يكشف عن ذلك البروفيسور اليهودي (إسرائيل شاحاك). الذي يؤكد على ما ذهب إليه العلماء السابقين من أن الديانة اليهودية ليست ديانة توحيدية كما يتوهم البعض ـ على حد تعبيره ـ ولكنها ديانة وثنية! فقد كتب[21]:
"أن الديانة اليهودية هي، وكانت دائماً، ديانة توحيد كما يُعرف في الوقت الراهن كثير من العلماء التوراتيين، وكما تُبين أي قراءة متأنية للعهد القديم بسهولة، فإن هذا الرأي اللا تاريخي خاطئ تماماً. هناك في كثير من، إن لم نقل في كل أسفار العهد القديم حضور وسلطة لأرباب آخرين معترف بهم صراحة، لكن يهوه أقوى الأرباب، غيور جداً من منافسيه ويحظر على شعبه عبادتهم. ولا يظهر إلا في نهاية التوراة فقط، لدى بعض الأنبياء المتأخرين، إنكار لوجود جميع الأرباب ما عدا يهوه".
ويواصل حديثه بالقول: أن ما يعنينا هنا ليس اليهودية التوراتية (أي ما ورد في التوراة) بل اليهودية الكلاسيكية، إن الثانية خلال بضع مئات من سنواتها الأخيرة، كانت بمعظمها بعيدة كل البعد عن التوحيد الخالص. وهذا ينطبق أيضاً على الحقائق المهيمنة في الأرثوذكسية اليهودية في الوقت الراهن، وهي استمرار مباشر لليهودية الكلاسيكية، لقد جاء انحطاط التوحيد من خلال انتشار الصوفية اليهودية (القبالاه) التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث عشر. وبحسب اعتقاد القبالاه فإنه {لا يُحكم الكون من جانب إله واحد بل من جانب أرباب عدة ذوي شخصيات وتأثيرات مختلفة تنبثق من علة أولى بعيدة مبهمة. وإذا أقصينا كثير من التفاصيل جانباً، نستطيع تلخيص تلك المنظومة على النحو التالي: هناك أولاً إله يدعى (الحكمة) أو (الأب) ثم إلهة تدعى (المعرفة) أو (الأم) وقد انبثقا أو وِلِدا من العلة الأولى. انبثق عن زواج الاثنين زوج من الآلهة الأصغر: (الابن) يدعى أيضاً بأسماء كثيرة أخرى مثل (الوجه الأصغر) أو (المبارك المقدس)، والابنة تدعي أيضاً (السيدة) أو ("ماترونيت" وهي كلمة مشتقة من اللاتينية) و(شخينة) أو (الملكة) ..إلخ، ثمة ضرورة لتوحيد (الابن) و(الابنة) إلا إن مكائد الشيطان تحول دون ذلك، وهو يمثل في هذه المنظومة شخصية هامة جداً ومستقلة.
وقد تولت العلة الأولى كي تتيح لهما التوحد، لكنهما أصبحا أكثر بُعداً من السابق بسبب السقوط (أو الهبوط) وتمكن الشيطان، فعلاً، من الاقتراب كثيراً من (الابنة) المقدسة وحتى من اغتصابها (سواء بالرمز أو الواقع. تختلف الآراء) وقد خُلق الشعب اليهودي لسد القطيعة التي أحدثها آدم وحواء، وفي جبل سيناء تحقق هذا الأمر لفترة معينة: و(الابن)، الذي تجسد في موسى، توحد بالابنة (شخينة). ولكن. لسوء الحظ، تسببت خطيئة العجل الذهبي بالانفصال مرة أخرى، لكن توبة الشعب اليهودي رتقت الشَق نوعاً ما.
بنفس القدر، يقترن كل حدث في التاريخ التوراتي اليهودي باتحاد أو انفصال الزوجين السماويين. كان الاجتياح اليهودي لفلسطين (الكنعانية) ويناء الهيكل الأول والثاني ممكناً بسبب اتحادهما فقط .. وكل ما نزل باليهود من بلاءات كان بسبب انفصالهما. وواجب اليهود الأتقياء من خلال صلواتهم وأعمالهم الدينية إعادة الاتحاد السماوي الكامل، في شكل اتحاد جنسي بين الإلهين الذكر والأنثى}.
ومن ضمن تلك الأعمال الدينية التي يقوم بها الأتقياء اليهود لإعادة الاتحاد السماوي الكامل للإلهين، وله علاقة وثيقة بالصراع العربي ـ الصهيوني وقضايا الحل النهائي، وتشكل جزءً من منظومة المعتقدات الصريحة لعديد من الساسة المتدينين، ولها تأثير غير مباشر على الزعماء الصهاينة في كل الأحزاب الصهيونية، بما فيها اليسار الصهيوني: أن الحرب ضد العرب، وطرد الفلسطينيين، أو حتى إقامة الكثير من المغتصبات اليهودية في الضفة الغربية، والإسراع في إعادة بناء ما يسمونه (الهيكل الثالث)، وغيرها من أعمال عدوانية وإرهابية، تحقق بسرعة إعادة الاتحاد الجنسي بين الإلهين الذكر والأنثى؟!.
إلا أنه تبين لي أن اليهود اتخذوا لـ"يهوه" زوجة وأبناء منذ اللحظة الأولى التي كتب فيها (حزقيال) سفره في السبي البابلي، يقول الباحث (شفيق مقار): "ومثلما تزوج بعل بناته تزوج يهوه ابنته وحبيبته ومعشوقته إسرائيل ليكون الإله الملك العاشق بعل ثور يعقوب، وفي سفر أشعيا نص قاطع بذلك حتى بعد المعالجة التحريرية المكشوفة فالنص بعد أن يؤكد لإسرائيل أن أرضها ستصبح بعل يخبرها أنه كما يتزوج الشاب عذراء سيتزوجك يهوه، وكفرح العريس بعروسه يفرح بك بعلك حول بعلك إلى إله ناقص ذلك التمويه المكشوف". ويرى الباحث أن إسرائيل ليست إلا ابنة يهوه وزوجته وحبيبته وبوصفها زوجته فهي أم الشعب وبكونها أم الشعب التي اندفق في رحمها مني القضيب المقدس فأنجبت النسل المقدس ابن يهوه البكر شعبه الأخص الذي اجتهد عزرا في درء التنجس عنه. ويدلل مقار متابعاً النصوص التوراتية التي تدل على هذه الزيجة المقدسة في التوراة مورداً إياها نصاً نصاً. ومن هنا أتت النسبة إلى شعب إسرائيل أنهم أبناء يهوه لأن أمهم هي زوجته[22]. وتفسير ذلك عند مقار: أن أخذهم صفة زواج يهوه من ابنته لم يكن إلا سطواً على إيل الإله (الكنعاني).
5ـ عالمية العهد لنوحu في التوراة
هناك حقيقة حاضرة غائبة في أذهاننا وخطابنا الديني والسياسي والفكري؛ عند حديثنا عن مخططات اليهود لهدم المسجد الأقصى، بزعم أنه قائم مكان هيكلهم المزعوم، الذي لا بد من إعادة بنائه وإعادة العرش إليه، كرمز لسيادة اليهود العالمية، وهي: أن القضية ليست قضية الهيكل في حد ذاته؛ ولكنها مسألة السيادة العالمية لليهود على العالم أجمع!! وهذه الحقيقة لها علاقة بمنهجية التوراة في تعاطيها مع تاريخ الجنس البشري وتاريخ فلسطين، من حيث أن الحياة البشرية وتاريخ الأجناس عندهم يبدأ من بعد الطوفان، واختيار إلههم يهوه سام بن نوح وذريته واختصاصهم بالبركة والسيادة العالمية من دون بقية أبناء سيدنا نوح وذرياتهم، واختيار إبراهيم عليه السلام من نسل سام بن نوح من دون بقية نسله ليمنحه الحق بالأرض من النيل إلى الفرات، واختيار إسحاق وذريته من ذرية إبراهيم دون أخاه إسماعيل وذريته، واختيار يعقوب (إسرائيل) وذريته "بني إسرائيل" من ذرية إسحاق دون أخاه عيسو وذريته، ليكونوا له الشعب المختار الموعود بالسيادة العالمية، واختيار فلسطين من دون كل بقاع الأرض لتكون مركزاً لتلك السيادة.
إذن هناك علاقة وثيقة بين وعد إله اليهود "يهوه" لمن تزعم التوراة المحرفة أنه (سام بن نوح) وذريته بالسيادة العالمية، وبين وعده لإبراهيم وبني إسرائيل من ذريته تحديداً بالأرض من النيل إلى الفرات.
يبدأ تاريخ البشرية في التوراة من بعد الطوفان الذي حدث نتيجة غضب الرب على بني الإنسان لارتكابهم الآثام والشرور، فأغرقهم ما عدا نوحu وزوجاته وبنيه ساماً وحاماً ويافث وزوجاتهم، وهم فقط الذين ركبوا معه في السفينة من قومه، و"هؤلاء كانوا أبناء نوح الثلاثة الذين تفرعت منهم شعوب الأرض كلها" (سِفر التكوين: 9/18).
وقد كانت البداية عهداً أقامه الله بينه وبين نوح وبنيه بعد الطوفان، يتوافق في كثير من مضامينه مع مضامين النبوءات العالمية للوعد الذي قطعه الله لجميع أنبياء بني إسرائيل، والتي وردت في التوراة نفسها، وذلك قبل أن يفطن كتبة التوراة لعالميته فيندمون عليه ويُسارعون إلى تصحيحه. فقد جاء في التوراة: "وبارك الله نوحاً وبنيه قائلاً لهم: أثمروا وتكاثروا وملئوا الأرض... وكلم الله نوحاً وبنيه معه قائلاً: وها أنا مُقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم... أُقيم ميثاق معكم لا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر ووضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض... فمتى كان القوس في السحاب أبصرها وأذكر ميثاقاً أبوياً بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض". (يُراجع سِفر التكوين: الإصحاح9).
ذلك مضمون العهد الذي قطعه الله لنوح وبنيه وجميع المخلوقات الحية على وجه الأرض. وقد لخص (أندريه نهر) معني ذلك العهد الإلهي العالمي والوعد لإبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، بأنه لكل الأمم بقوله: "إن النوحية (أي عهد الرب لنوح) هي التي تبين أن الأنبياء فسروا بعض أحداث التاريخ بلغة مشتركة بين إسرائيل وسائر الشعوب فلم تكن هناك هجرة واحدة (هي خروج بني إسرائيل من مصر) بل سلسلة من الهجرات حركها نفس الرب. فهو ـ لكي يتم نفس الوعد الذي أعطاه لنفس الأب (إبراهيم) ـ جلب الآراميين من أور والمؤابيين والعمونيين من وادي عربة، والأدوميين والأمالسيين والمديانيين من الصحراء، والفلسطينيين من كريت لكي يرمي بهم جميعاً على شواطئ (كنعان)، من الأرض الموعدة للجد، مؤمناً لكلٍ أرضه ضامناً لكلٍ حدوده، وهو حكم في المنازعات، وشاهد على كل ما يفعله الناس، وقاضٍ في مشكلاتهم. ولعلنا نتساءل إذا ما كانت المنطقة السورية ـ الفلسطينية تحت أعين الأنبياء، بحسبانها جزء من الأرض، يمكن أن تكون مرجعاً ونموذجاً للعالم كله، ذلك أن المشكلات الأخلاقية والدينية التي واجهتها الإنسانية كان ينبغي أن تُستشعر وتُعالج على مستوى الإنسانية بأكملها. فإذا هي تُستشعر وتُعالج من هذا المجال الصغير التي تكفي نظرة واحدة، مجرد نظرة لاستيعابه، وإن كانت ظروفه السياسية وموقعه المتوسط بين الإمبراطوريتين الكبريين مصر وبابل قد خولته تنوعاً متميزاً في البنية والأحداث.
وأيا كان الأمر. فنحن إذا طبقنا على هذه الشعوب لغة التاريخ أو بالأحرى لغة المصير التاريخي المشترك، مصير الهجرة ـ وقد طبق الأنبياء عليها أيضاً لغة العهد، بتبعاته الأخلاقية ـ فإن الشعوب مسئولة أمام الرب تماما كشعب إسرائيل فهم أيضاً أبناء الرب، وعبيد الرب"[23].
ولكن كتبة التوراة أدركوا الخطأ في عالمية العهد لنوح وبنيه فسارعوا لتصحيحه، وبدأ التصحيح بلعن (كنعان بن حام) ومباركة (سام بن نوح) وذريته من بعده، فاختلقوا قصة ذات مضامين وأبعاد سياسية ليحرموا بها الشعوب الأخرى وخاصة أهل فلسطين من حقهم في عالمية العهد، واختزاله فيمن زعموا أنه (سام بن نوح) من بين أبناء نوح الثلاثة. فكتبوا زاعمين: "واشتغل نوح* بالفلاحة وغرس كرماً، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد (حام) أبو (الكنعانيين) عُوى أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا خارجاً. فأخذ (سام) و(يافث) رداء ووضعاه على كتفيهما ومشيا إلى القهقري إلى داخل الخيمة، وسترا وعُوى أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عُريه، وعندما أفاق نوح من سكره وعلم ما فعل به ابنه الصغير. قال: ليكن (كنعان) ملعوناً، وليكن عبد العبيد يكون لأخوته. ثم قال: تبارك الله إله (سام). وليكن (كنعان) عبداً له. ليوسع الله لـ(يافث) فيسكن في خيام (سام) وليكن (كنعان) عبداً له)". (سِفر التكوين 9/20ـ27).
ولا أحد يعلم ما علاقة الابن الذي لم يولد بعد بذنب أبيه؟!. لذلك يعلق الدكتور (جورجي كنعان) على تلك القصة المختلقة التي جاءت في سفر التكوين بأن اليهود: ومنذ عملوا في سفر تكوينهم على ربط نسبهم بالأب الأول عملوا في الوقت ذاته على حشو اتجاهاتهم السياسية والقومية في تاريخهم الديني، وضمنوه نزعاتهم العنصرية وميولهم العدوانية، نحو كافة الأمم والشعوب فنوح يلعن باسم "يهوه"، أب (الكنعانيين) ويبارك أب اليهود، وغالباً ما تمثلت اتجاهاتهم السياسية في إضفاء البركة على أب ووصم الآخر بلعنه. وكان تفسيرهم للبركة أو اللعنة أنها أبدية تلحق ذريته إلى آخر الدهر. ويتساءل: ترى لماذا صب اللعنة على (كنعان)، ونوح هو الذي سكر وتعرى، و(حام) هو الذي أبصر عورة أبيه؟ ما هو الذنب الذي ارتكبه الابن الذي لم يولد بعد؟ ولماذا صبت اللعنة عليه من بين أخوته الآخرين؟ ألأن (الكنعانيين) سبقوا اليهود في مضمار الحضارة، أم لأنهم أعطوا الأمم الروح والمحبة والحكمة وهم أصحاب الأرض؟ ألم يكن الله يعلم أن (حام) سيفعل فعلته تلك يكون الأجدر به أن يستثني (كنعان) من البركة أو (حام) ونسله، بدلاً من التراجع أو ينتظر حتى يفعل (حام) فعلته فباء ابنه المسكين (كنعان) باللعنة هو ونسله قبل أن يولد، ولكن هذا الكلام ليس كلام الرب بل كلام الكتبة الفريسيين الذين كانوا يدركون خطأهم متأخرين[24].
ويضيف أن رجال الدين النصراني يفسرون هذا الاختيار بوجود "قصد إلهي" ولو سألتهم: ما تفسيركم "للقصد الإلهي"؟ وما الدافع الذي يكمن وراء هذا العطاء السخي الدامي لأن فيه إبادة شعب وإعطاء أرضع لشعب آخر؟ لداروا في معمعات لا اثر فيها للمنطق المعقول، هي من نوع اللعب بالألفاظ... الله كبير... نحن حشرات لا نفهم، لا نعرف قصده...خلاص.. اختيار مكرس، وأراده الله. وهكذا تدور حتى تشعر بأعصابك وقد ضحت فريسة الخدر والعياء)[25].
أنه أمراً منطقياً أن يعجز علماء اللاهوت النصارى عن الإجابة لأنهم عميت أبصارهم، وغفلت قلوبهم، لذلك يرى جارودي أنه "من المستحيل بالنسبة إلى أي مسيحي أن يقدم مغزى لاهوتيا لدولة إسرائيل، فإن احترام الإيمان اليهودي لا يستتبع مطلقا الاندماج بين اليهودية والصهيونية و إضفاء صفة القداسة على الأهداف التاريخية للحركة الصهيونية"[26].
ولكن منهجية التوراة العرقية العنصرية والقبلية اختزلت بُعدهما العالمي في البُعد العرقي القبلي، وقصرتهما على بني إسرائيل فقط، واليهود بعد ذلك. ونسج كتبة التوراة علاقة وثيقة بين وعد إله اليهود "يهوه" لسام وذريته بالسيادة العالمية، وبين وعده لإبراهيم وبني إسرائيل من ذريته تحديداً بالأرض من النيل إلى الفرات. وإذا أردنا التحديد أكثر نقول: وجعل مركز تلك السيادة هو بيت المقدس، ورمزيتها هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء (الهيكل الثالث)، ووضع عرش ملك اليهود الذي هو من نسل داوود، ليكون رمزاً لتلك السيادة العالمية لليهود، حيث تحكم (إسرائيل) العالم آخر الزمان، وتحاسب جميع شعوب الأرض على ما اقترفته بحق (إسرائيل) وأموالها من آثام.
6ـ عالمية العهد والوعد في التوراة
بعد ما تقدم يتَبين لنا أن العهد الذي قطعه الرب لنوح ذو مضامين وأبعاد عالمية، وأنها ليست خاصة بعرق أو شعب دون الشعوب، ولكنها تتحدث عن أُمة عالمية، سمتها التوراة في مواضع أخرى "الأُمة البارة". ومن صفاتها أنها تجعل جميع شعوب الأرض تتبارك في إبراهيم، وتجعل البيت "المسجد الأقصى" مكان عبادة لجميع الأُمم. كما أن التوراة والأناجيل المُحرفة لم تخلو من النبوءات بحقيقة هوية الورثة الشرعيين، ونبي آخر الزمان محمد r، فإنها أيضاً تضمنت كثير من النبوءات عن مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأنهما سيكونان مقر الخلافة الإسلامية العالمية آخر الزمان، وأن الأمة البارة التي سيكون لها السيادة العالمية وستقيم العدل والبر بين الناس، انطلاقاً من مقر خلافتها ـ المسجد الأقصى ـ هي أمة نبي الرحمة للعالمين، محمد r، وذلك تحقيقاً للنبوءات العالمية التي وردت في التوراة والأناجيل المُحرفة. وليست أُمة القبيلة والعرق، التي تنتظر مسيحها الدجال ليحكم العالم من خلال هيكلهم المزعوم على أساس الاستعلاء والاستكبار اليهودي على جميع البشر.
وقد فسر علماء اللاهوت النصارى الذين عارضوا تفسيرات اليهود بأنهم المقصودين وحدهم بهذا الوعد الإلهي لنوح وإبراهيم عليهما السلام، بأن هذا الوعد يشمل جميع ذرية إبراهيم ومنهم إسماعيل أبو العرب –نصارى ومسلمين-، وأن الوعد يختص بجماعة المؤمنين بإبراهيم ولا يختص بجماعة عرقية تنتمي لإبراهيم عرقياً. هذه الرؤيا اللاهوتية النصرانية تأتي منسجمة وموافقة لما جاء في القرآن الكريم من أن الورثة هي ورثة دين، والتركة هي أمانة رسالة عالمية، و الأمة الموعودة بهذه العالمية هي أمة الإسلام.
فقد وردت نفس تلك المضامين في القرآن الكريم والسنة النبوية، وإن أُمة الإسلام هي التي صححت التحريف والانحراف الذي أحدثه اليهود والنصارى على رسالة نوح وإبراهيم وجميع الأنبياء والرُسُل عليهم جميعاً الصلاة والسلام، واحتفظت بعالمية رسالة نبيها محمدr ولم تجعله نبياً للعرب دون غيرهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء:107}. ولم تحتكر الله لنفسها دون غيرها من الأُمم: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ {الشعراء:192}. ذلك ما يجعلها هي وحدها الأُمة المقصودة بنبوءات التوراة، خاصة وأن كثير من علماء اللاهوت النصارى يؤكدون أن النبوءات لا تعني عودة اليهود إلى فلسطين، ولكنها تعني مملكة روحية للجنس البشري كاف ولجماعة المؤمنين.
فقد جزم كثير من العلماء الموضوعيين والمحايدين وغير المتعصبين لليهود المختصين في الدراسات التوراتية؛ بأن جميع النبوءات التي وردت في أسفار التوراة قد تحققت بعودة اليهود بعد السبي البابلي: يقول الدكتور (فرانتش شايدل) معقباً على نبوءة سفر (أرميا) بعودة اليهود إلى فلسطين بقوله: "لقد تحققت النبوءة إذ عاد اليهود من الأسر البابلي"[27]. والثابت تاريخياً أن جميع اليهود الراغبين في العودة قد عادوا أيام حكم ملك الفرس أرتحششتا زمن الإمبراطورية الفارسية.
ويؤكد الأُستاذ (ألفرد جلوم) أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن، بعد أن يعرض لنصوص التوراة حول العهد: "أن هذه الوُعُود قد أُعطيت لإبراهيم ولذريته... وهكذا يصبح لنسل إسماعيل كل الحق لأنهم يعتبروا أنفسهم من نسل إبراهيم ... وبالإضافة إلى أنه حين تم العهد ووُعِد إبراهيم بأرض (كنعان) كملكية أبدية بين الله وإبراهيم بالختان، كان إسماعيل جد القبائل العربية هو الذي "خُتِن" ولم يكن إسحاق قد ولد"[28]. وينتهي "جلوم" إلى القول: بأنه "من الواضح أن الوُعُود الإلهية إلى أولئك الأنبياء قد أُلغيت بسبب ردة الأُمة عن الدين، وعندما أجلى السبي الأشوري السكان عن السامرة والسبي البابلي الشعب عن يهودا، رأى الأنبياء في هذه المصائب تنفيذاً للعدل الإلهي في حق شعب عاصٍ جاحد. ولكنهم قالوا لشعبهم: أن بقية ستعود... وفعلاً عاد اليهود إلى يهودا وأعادوا بناء أسوار القدس، وأعادوا بناء (الهيكل)، وعلى ذلك فقد تحققت فعلاً نبوءات العودة، ولا يمكن لها أن تتحقق ثانية، ففي مجمل الكتابات المعترف بها دينياً، والمتعلقة بالعهد القديم، ليست ثمة أية نبوءة عن عودة ثانية من الرجوع من المنفى البابلي"[29].
النبوءات تعني جماعة المؤمنين
وعلى ذلك تكون النبوءات الواردة في أسفار التوراة ولم تتحقق بعد؛ خاصة بأُمة أُخرى غير اليهود، وذلك ما يراه كثير من علماء اللاهوت النصارى! يقول {الدكتور "وليام هـ. شتاينسبرج" أستاذ دراسات العهد الجديد –الإنجيل- والدراسات (السامية) في جامعة "ديوك" بولاية "نورث كاورلاينا" والكاهن في الكنيسة المشيخية: "ليس ثمة من أساس في العهد الجديد أو القديم يستند إليه أدعياء الصهاينة بأن إقامة دولة يهودية جديدة في فلسطين هو أمر مطلوب أو له ما يبرره في الكتاب المقدس أو نبوءاته، فالوعود الواردة في نبوءات الكتاب تنطبق على البشر كافة". ويرى أن الإشارات الواردة في الكتاب المقدس تنطبق "حسبما وردت في العهد الجديد، على الكنيسة (المسيحية) المثالية، أو على جماعة من المؤمنين حقاً، ذلك بالمعنى الديني للإيمان". ثم ينتهي إلى أن تلك الإشارات والعبارات في العهد القديم تشير إلى "مملكة روحية للجنس البشري كافة، لا إلى إسرائيل سياسية تحتل أراضي ومنازل مملوكة طبيعية من قبل شعب آخر".
أما الدكتور أوفدر سلزر أستاذ العهد القديم سابقاً، وعميد معهد "ماك كورمك" اللاهوتي، والكاهن في الكنيسة المشيخية المتحدة، ينتهي من تفنيده للإدعاء اليهودي بأن إنشاء (دولة إسرائيل) جاء تحقيقاً لنبوءة الكتاب المقدس، إلى القول: بأن "المسيحي الذي يعتمد على الكتاب المقدس المسيحي، يستطيع أن يعتقد بأن كلمة (إسرائيل) لا تعني وحدة جغرافية أو عرقية أو سياسية، بل جماعة المؤمنين كافة}[30].
المسلمون هم جماعة المؤمنين
لذلك يمكننا التأكيد بكل ثقة أن "الأُمة البارة" التي بشر بها العهد القديم والجديد هي أُمة محمدr. هذه الأُمة هي التي حققت نبوءات التوراة في جعل مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى رمزاً لشمولية الوعد والعهد لجميع شعوب الأرض، ورمزاً للسلام والوحدة العالمية، من خلال جعلها بيت عبادة وصلاة لجميع تلك الشعوب: "بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب" (إشعيا:56/7). وإذا ما سألنا إشعيا: كيف سيكون بيت صلاة لكل الشعوب واليهود يؤمنون أنهم وحدهم هم "شعب الرب"، وهم وحدهم البشر، وغيرهم حيوانات خلقت في على هيئة الإنسان لتليق بخدمة إنسان "شعب الله المختار" للسيادة العالمية على جميع المخلوقات في هذا الكون؟ّ. يُجيبنا (إشعيا:49/6) نفسه: أن الرب يُرسل عبداً ليكون "نورا للأمم" وليس للشعب المختار "فقد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض". كما يُجيبنا (أرميا:1/5): "جعلتك نبيا لكل الشعوب"! وهذا دلالة على عالمية الرسالة والعهد والوعد، التي قصُرت جِبلة اليهود على القيام بواجب تبليغها وتحقيقها واقعاً بين الشعوب جميعاً، ولكنها احتكرت إله العالم أجمع لنفسها من دون جميع شعوب الأرض، لذلك أنكر عليهم المسيح u ذلك: "أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضاً، بلى للأمم أيضاً" (رسالة أهل رومية:3/29).
وإن حَصر اليهود وُعُود الأنبياء الخاصة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في مسيح خاص بهم؛ يُعتبر تحريفاً ظاهراً وواضحاً ومتعارضاً مع وُعود الرب لإبراهيم في التوراة "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (التكوين:12/3). التي تأتِ منسجمة مع العهد الذي قطعه الله لنوح u بعد الطوفان، وكانت علامة عهده أن يضع قوسه في السحاب: "وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل الذوات الحية التي معكم إلى أجيال الدهر....". (التكوين 9/ 8-17). وكما تأتِ منسجمة مع نبوءة (زكريا الإصحاح 2/11، 12) قول الرب: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني ها أنا ذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فتتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون لي شعباً فأسكن في وسطك". ومن أجل هذا أرسل الرب (يونس) إلى "نينوي" لينذرهم بقوله: "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا قم أذهب إلى نينوي المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي" (سفر يونان: 1/1). وفي سفر إشعيا يرسل الرب عبداً ليكون "نورا للأمم". (الإصحاح 49/6) وليس للشعب المختار، وهذا دلالة على عالمية الرسالة "فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض". كما نجد في (سفر أرميا: 1/5): أن الرب يخبر "جعلتك نبياً لكل الشعوب". وليس لشعب واحد هو بني إسرائيل!.
كما جاء في التوراة ما يدل على شمولية وعالمية الوعد لإبراهيم عليه السلام، وأن القدس ستصبح بيت صلاة وعبادة لكل الشعوب حتى المختلفة مع يهود في الإيمان "لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب". (سفر إشعيا: الإصحاح 56/7). كما نجد في نفس السفر رؤية أكثر وضوحاً وتبشيراً بالمستقبل، وأكثر انفتاحاً وتخلصاً من شعور العنصرية والانغلاق، حيث تبشر بخروج أمة من القدس محبة للسلام وللأمم الأخرى، لا ترفع سيفا ولا تتعلم الحرب: "وتسير شعوب كثيرة وتقول هلم نصعد جبل الرب إلى بيت يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم تعلن كلمة الرب. فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد".(2/3،4). إن هذه النبوءة لا يمكن أن يكون المقصود بها اليهود، الذين لم ينصفوا يوماً شعباً من شعوب المنطقة، أو أغمدوا لهم سيفاً، أو كفوا عن الحرب، وهم أينما حلوا ولدوا الثورات والفتن، وأجروا المذابح، وخلفوا وراءهم الدمار، إلى درجة يصدق فيها عليهم قول الرب لهم: "إن كثرتم الصلاة لا أسمع لكم، أيديكم ملآنة دما". (سفر إشعيا: الإصحاح 1/15). وهذا دليل على قسوة قلوبهم، وأنهم ليسوا هم الأمة المقصودة.
ويعلق رجاء جارودي على نص سفر إشعيا عن الأمة التي تجعل القدس منارة روحية لكل الأمم، بقوله: "تلكم هي رؤيا إشعيا للمستقبل وهي أيضا رؤيا الأنبياء، وهي تجعل من أورشليم ، لا عاصمة شعب، بل منارة روحية لأمة دينية تمتد على تخوم العالم"[31].
كما أنه هناك رؤيا أخرى جاءت في (سفر أرميا) قصر الفكر الديني لليهودي تفسيرها على أنهم هم المقصودين بها، في الوقت الذي لا تنطبق شروطها أيضاً إلا على المسلمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الرؤيا تقول: ط"يقول الرب أنهم لا يقولون بعد تابوت عهد الرب ولا يخطر على بال ولا يذكرونه ولا يتعهدونه ولا يصنع بعد. في ذلك الزمان يسمون أورشليم كرسي الرب ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم". (أرميا: الإصحاح 3/16 ، 17).
وإن كان هناك أمة في التاريخ تنطبق عليها نبوءات التوراة حقيقة فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي الأمة الوحيدة التي يشهد لها التاريخ وكثير من مؤرخي الغرب الصليبي نفسه أنها هي الأمة الوحيدة التي حافظت على مقدسات غيرها، ولم تنتهك لها حرمة، ولم تمنع أحدا من أتباعها من الصلاة فيها، أو زيارتها، وكفلت لأتباعها حرية العبادة، وجعلت من القدس بيت عبادة وصلاة لكل أتباع الرسالات السماوية جميعهم. فالمسلمون قد جعلوا من القدس طوال تاريخ حكمهم لها مركزاً روحيا لكل الأمم على اختلاف أجناسها وأعراقها, ومعتقداتها، ولم يحتكروا المدينة لأنفسهم رغم اعتقادهم الراسخ بأنهم هم وحدهم ورثة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. ولم يتم ذلك الاتصال بين الأُمم الكثيرة إلا في ظل حكم الإسلام لبيت المقدس، فالتاريخ لم يحفظ لنا أن أُمة من الأمم التي حكمت بيت المقدس حافظت على وصايا التوراة والأناجيل في جعلها بيتاً للعبادة لجميع الأُمم والشعوب كما حافظت عليها أُمة الإسلام، التي احترمت جميع عقائد أتباع الرسالات السماوية ولم تمنعهم من أداء شعائرهم وعباداتهم في بيت المقدس، بل ووفرت لهم كل أسباب الأمن والأمان، وفي الوقت نفسه حفظ لنا التاريخ فظائع عظام ووحشية وبربرية كثيرة ارتكبها اليهود والنصارى ضد سكان فلسطين وغيرها، عندما حكموا بيت المقدس لفترة وجيزة من التاريخ أيام تمردهم في عهد اليونان والرومان.
كما أن النصارى أيضا ليسوا هم تلك الأمة المقصودة بهذه النبوءة، والتاريخ يحفظ للإنسانية فضائع عظام ارتكبها النصارى عندما حكموا بيت المقدس قبل الإسلام لا يقل ضراوة عن فظاعة ووحشية اليهود، وأشد منه ما ارتكبه النصارى ضد المسلمين ومقدساتهم عندما احتلوا بيت المقدس أيام الحروب الصليبية الأولى ضد المسلمين ومقدساتهم، وحتى ضد أبناء دينهم مِمَنْ يخالفوهم في المذهب، وضد اليهود ومقدساتهم. وها هو الواقع المعاصر للموالاة بين اليهود والنصارى هذا العصر يشهد على حقيقة أفعالهم في بيت المقدس والأرض المباركة؛ بل وفي الأرض كلها. بعد أن مكنوا اليهود من فلسطين وبيت المقدس، ولا زالوا يوفرون لهم الحماية بالرغم من اعتداءاتهم المتكررة لا على مقدسات المسلمين فقط بل وعلى مقدسات النصارى أنفسهم!! وفي الوقت نفسه تتعالى أصوات نصرانية تطالب حكومات العالم النصراني ألا يسمح بإعادة القدس إلى المسلمين، ونجد بابا الفاتيكان عام 1965م يبرئ اليهود من دم المسيح الذي بحسب اعتقادهم أن اليهود هم قتلته، ويقيم سفارة وعلاقات دبلوماسية له مع كيانهم المغتصب لموطن المسيح!! والبابا الحالي بنديكيت السادس عشر لا يكل ولا يمل من الحديث عن التاريخ المشترك الذي يجمع اليهود والنصارى.
ومع ذلك نجد اليهود جادين في العمل من أجل تحقيق تلك الخرافات والأساطير رغم باطلها، ونحن المسلمون غافلون عما يحاك لنا من مؤامرات ودسائس تقوم بها الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني. وكما بدأ تاريخ البشرية في التوراة بالطوفان، وحصر الوعد الإلهي بالسيادة العالمية في ذرية (سام بن نوح)، فإنه انتهى إلى حصر الوعد بالسيادة على الأرض من النيل إلى الفرات، ببني إسرائيل واختيارهم "شعب الله المختار" من دون كل ذرية سام بن نوح، وإذا أردنا التحديد أكثر نقول: وجعل مركز تلك السيادة هو بيت المقدس، ورمزيتها هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل، ووضع عرش ملك اليهود الذي هو من نسل داوود، ليكون رمزاً لتلك السيادة العالمية لليهود، حيث تحكم (إسرائيل) العالم آخر الزمان، وتحاسب جميع شعوب الأرض على ما اقترفته بحق (إسرائيل) وأموالها من آثام.
المبحث الثاني
أصل البشرية بين رؤية التوراة
ورؤية القرآن
1ـ حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (كـذب النسـابـون)
بناء على تلك القصة المختلقة الكاذبة التي لا يوجد عليها أي دليل علمي على صحتها إلا ما جاء في كتاب اليهود التوراة، الذي لا يمكن بأي حال أن يُعتبر كتاب دين سماوي ولا كتاب تاريخي موثوق يمكن الاستدلال بما جاء فيه عن تاريخ أنساب الأجناس البشرية بعد الطوفان، رد علماء الأجناس والانثروبولوجيا والتاريخ والآثار وغيرهم الغربيين أصل جميع أجناس الأرض بعد الطوفان إلى أبناء سيدنا نوح عليه السلام! وصنفوهم كالآتي: (الساميون) وهم العرب واليهود وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (سام بن نوح). و(الحاميون) وهم الزنوج والأفارقة وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (حام بن نوح). والأوروبيين والأجناس الأخرى وقد رفعوا نسبهم وأصلهم العرقي إلى مَنْ زعمت التوراة أنه (يافث بن نوح)؟!.
وذلك التقسيم الغربي التوراتي لأصل الأجناس البشرية تقسيم غير صحيح، يكذبه القرآن الكريم/ وتكذبه الحقائق العلنية الثابتة التي تُكذب خرافات التوراة العلمية وغيرها عن أصل الكون وبداية خلق الإنسان وغيرها. ولنبدأ بالقرآن الكريم:
بداية أود التذكير فقط بأنه قد ورد أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان كان يُمسك ويقول: "كذب النسابون، فلا يتجاوزه". رواه الطبراني. وذكر القرطبي: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم لما سمع النّسابين ينسبون إلى معدّ بن عدنان ثم زادوا فقال: "كذب النسابون إن الله يقول : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }. (إبراهيم: 9). وقد رُوي عن عُرْوة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسمعيل. وقال ابن عباس: بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أبا لا يُعرفون. وقال الطبري في تفسيره في قوله تعالى: (لا يَعْلَـمُهُمْ إلاَّ اللّهُ)، لا يحصي عددهم ولا يعلـم مبلغهم إلا الله. وروى أن ابن مسعود كان يقرؤها: (وعادا وثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدَهِمْ لا يَعْلَـمُهُم إلاَّ اللّهُ) ثم يقول: كذب النسابون. وذكر ابن كثير في قوله: {لا يَعْلَـمُهُمْ إلاَّ اللّهُ} كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان.
وفي كتب الحديث جاء في "جامع المسانيد والمراسيل" في "الجزء الخامس" الحديث رقم (16225) "كَانَ إِذَا انْتَسَبَ لَمْ يُجَاوِزْ فِي نِسْبَتِهِ مَعَدَّ بْنِ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ، ثُمَّ يُمْسِكُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: {وَقُرُونَاً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً}" ابن سعد عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنهُمَا.ووورد في "الجزء 20" الحديث رقم (16222)، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ النَّبيَّ كَانَ إِذَا انْتَهٰى إِلٰى مَعَد بْنِ عَدْنَانَ أَمْسَكَ وَقَالَ: كَذَبَ النَّسّابُونَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالٰى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ شَاءَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَعْلَمَهُ لَعَلِمَهُ"[32]. وبزيادة رواه "فيض القدير": ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل وإنما الخلاف في عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء فمقل ومكثر وكذا من إبراهيم إلى آدم لا يعلمه على حقيقته إلا اللّه تعالى[33]. والحديث ورد بنفس النصوص أو قريب منها في معظم كتب التفاسير والأحاديث.
2ـ القرآن الكريم يثبت عكس ما ترويه التوراة حول سيدنا نوح وأصل البشرية
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى لم يتجاوز عدنان عندما كان يرفع نسبه، ويقول: "كذب النسابون"، فما بال أولئك القوم الذين يؤصلون لأنساب القبائل والبشرية جميعاً إلى أبي البشر جميعاً آدم عليه السلام؟ مستندين إلى التوراة المحرفة التي أكد القرآن مراراً على أنها حُرفت وزورت! ويرجعون جميع أنساب أهل الأرض إلى مَنْ تزعم التوراة أنهم أبناء سيدنا نوح (سام وحام ويافث)! ونعجب للمؤرخين والكتاب المسلمين الذين يوثقون أنساب أسماء القبائل أو الأشخاص نقلاً عن التوراة معتبرين أنها أنساب صحيحة! وذلك لأننا نفهم من كتاب الله تعالى أن أصل الأجناس البشرية بعد الطوفان لا يعود إلى نوح وأبنائه فقط ولكن إلى الجماعة التي آمنت بدعوته من قومه ونجت معه في السفينة من الغرق.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ{26} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:25 ـ27). نفهم من الآيات أنه اتبع سيدنا نوح نفر من قومه وليس أبنائه فقط كما ذكرت تلك القصة الخرافة في التوراة. قال ابن كثير: ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا.
وقد أكد الله تعالى تلك الحقيقة عند حديثه عن نجاة نوح وقومه في الفلك، في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (هود: 40). قال ابن كثير: وقوله {وَمَنْ ءَامَنَۚ} أي من قومك {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥۤ إِڑ قَلِيلٌ} أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل كانوا عشرة. وذلك يكذب ما جاء في التوراة: (وقال الرب لنوح: هيا أدخل أنت وأهل بيتك جميعاً إلى الفلك لأني وجدتك وحدك صالحاً أمامي في هذا الجبل) (التكوين: 7/1).
كما أن القرآن الكريم لم يخبرنا عن أبناء لنوح نجوا معه في الفلك أو أحد من أهله بالاسم؛ ولكن الله تعالى أخبرنا أن أحد أبنائه وزوجه لم يكونوا مؤمنين ولم يركبوا معه في السفينة ولم يكونوا من الناجين من الغرق. قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } (هود42). أي أن سيدنا نوح نادى ابنه ـ وكان في مكانٍ عَزَل فيه نفسه عن المؤمنين ـ فقال له: يا بني اركب معنا في السفينة, ولا تكن مع الكافرين بالله فتغرق. وبعد أن رفض وأجابه بأنه سيأوي إلى جبل مرتفع يعصمه من الماء، توجه نوح على الله تعالى قائلاً: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }هود46 } (هود45 ـ 46). وعندما نادى نوح ربه: رب إنك وعَدْتني أن تنجيني وأهلي من الغرق والهلاك, وإن ابني هذا من أهلي, وإن وعدك الحق الذي لا خُلْف فيه, وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم. قال ابن كثير: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِى مِنْ أَهْلِى} أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين {قَالَ يَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَۖ} أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: {وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْۖ} فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً عليه السلام. وقال القرطبي وقال علماؤنا: وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله: "وَأَهْلَكَ" لأنه كان عنده مؤمناً في ظنه، وكان ابنه يُسِرّ الكفر ويظهر الإيمان؛ فأخبر الله تعالى نوحاً بما هو منفرد به من علم الغيوب؛ أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقاً. وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية، وبعضهم يقول كان ابن امرأته. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط قال: وقوله: {إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَۖ} أي الذين وعدتك نجاتهم، وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة.
أما عن زوجة نوح فقد أخبر المولى عز وجل بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم: 10). ضرب الله مثلا لحال الكفرة - في مخالطتهم المسلمين وقربهم منهم ومعاشرتهم لهم, وأن ذلك لا ينفعهم لكفرهم بالله- ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يُغْني أحدٌ في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدِّين، حال زوجة نبي الله نوح, وزوجة نبي الله لوط: حيث كانتا في عصمة عبدَين من عبادنا صالحين, فوقعت منهما الخيانة لهما في الدين. قال القرطبي: وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القُشَيريّ. إنما كانت خيانتهما في الدِّين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى (الله) إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين؛ وقيل للزوجتين: ادخلا النار مع الداخلين فيها. أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لمّا عَصتَا شيئاً من عذاب الله؛ تنبيهاً بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ذلك يعني أن زوجة نوح أيضاً لم تكن من الذين آمنوا معه، ولا من الذين ركبوا السفينة ونجوا من الغرق، ولكنها كانت من الهالكين، ما يُكذب الأسطورة التوراتية.
ولكن الله تعالى أخبرنا بأن والدي نوح عليه السلام كانا مؤمنين. قال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح: 28). ذكر القرطبي: أي دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وقال سعيد بن جُبَيْر: أراد بوالديه أباه وجدّه. وقال ابن عباس: {رَّبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} أي مسجدي ومصلاّي مصلّياً مصدّقاً بالله. وعنه أيضاً: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدِّين. وعن ابن عباس أيضاً: يعني صديقي الداخل إلى منزلي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. مجمل القول: يقصد أتباعه الذين آمنوا معه من قومه.
وحقيقة أنه آمن مع نوح ثلة من قومه، وركبوا معه السفينة ونجوا من الغرق، ومنهم ومن ذرية نوح تشكلت أجناس الأرض، أكدها الله تعالى وذكرها في مواضع عدو من القرآن الكريم، في قوله تعالى: {قِيلَ يَـٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مِّنَّا وَبَرَكَـٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰۤ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (هود: 48). قال ابن كثير: يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة. كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
وفي قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (الإسراء: 3) أي يا سلالة الذين أنجيناهم وحَمَلْناهم مع نوح في السفينة لا تشركوا بالله في عبادته، وكونوا شاكرين لنعمه، مقتدين بنوح عليه السلام؛ إنه كان عبدًا شكورًا لله بقلبه ولسانه وجوارحه.وقال ابن كثير: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۚ} تقديره ياذرية من حملنا مع نوح، فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي ياسلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم. وذكر الطبري،وعنى بـالذرية: جميع من احتـجّ علـيه جلّ ثناؤه بهذا القرآن من أجناس الأمـم، عربهم وعجمهم من بنـي إسرائيـل وغيرهم، وذلك أنّ كلّ من علـى الأرض من بنـي آدم، فهم من ذرية من حمله الله مع نوح فـي السفـينة.
كان يجب على المؤرخين والكتاب المسلمين أن يتوقفوا مع هذه الحقيقة القرآنية قطعية الدلالة، بأنه كان هناك آخرين آمنوا مع نوح ونجوا من الطوفان لم تذكرهم التوراة ولم تذكر أنساب ذريتهم، ومع توقف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند رفع نسبه إلى عدنان وعدم تجاوزه، ليس ذلك فقط ولكنه أخبر بكذب النسابون، وذلك التكذيب لا يحتاج كبير جهد ليدرك المسلم أنه يقصد به ما ورد في التوراة عن أنساب أهل الأرض من آدم إلى تاريخ كتابة التوراة، ومَنْ نقل عنها، ومع إخبار القرآن أن اليهود حرفوا توراة موسى عليه السلام، ويدركوا أن تلك الأنساب غير صحيحة وأنه لا يمكن أن يعتمدوا التوراة كتاب موثوق في تاريخ الأنساب وأصول الأعراق البشرية!.
أضف إلى ذلك أنه إذا لم يلتفت السلف إلى هذه الحقيقة؛ كان يجب أن يلتفت مؤرخي وكتاب عصرنا من المسلمين وغير المسلمين، وخاصة المؤمنين بالعلم وبسببه شككوا في كثير أو قليل مما جاء وصَدق فيه القرآن الكريم، ويسألوا أنفسهم: إن كان العلم يقول أن الكون مخلوق منذ عشرات بل مئات ملايين السنين، أو على الأقل عشرات الآلاف من السنين، وأن العلماء اكتشفوا هياكل أو بقايا هياكل عظمية أو جماجم بشرية يرجع عمرها إلى ملايين السنين، أو لنقل إلى عشرات الآلاف من السنين، والبعض منهم عندما يؤرخ لبدايات تأسيس المدن أو بدء حياة الاستقرار البشري ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان، أو لنشأة الحضارة في فلسطين نفسها …إلخ؛ لنقل في متوسطها الذي لديهم عليه أدلة مؤكدة بحسب علومهم ما بين عشرة ألاف إلى خمسة عشرة ألف سنة، وهناك من يذهب إلى عشرون ألف سنة!.
وذلك ليس تاريخ خلق الكون ولا تاريخ الإنسان الذي مر بحسب النظرية العلمية الشهيرة التي اتخذها أنصار العلم والعقل أهم وسائلهم لمحاربة الدين والتشكيك فيه، نظرية "النشوء وارتقاء"، في مراحل تطور متعددة إلى أن حدثت الطفرة! تلك الطفرة التي لم يخبرنا عن كيفية حدوثها لا دارون ولا العلماء المؤمنين بتلك النظرية وأعطت الإنسان شكله الحالي (هيكله)؟! كان يجب أن يلفت انتباه أولئك حساب اليهود لتاريخ البشرية منذ خلق الله الكون الذي تزامن مع خلق آدم إلى اليوم.فقد أخبرت التوراة أن الله خلق الإنسان في اليوم السادس من خلق الكون: (ورأى الله ذلك فاستحسنه. ثم قال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا، فيتسلط على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى الأرض، وعلى كل زاحف عليها) (التكوين: 1/25 ـ 26).
وبناء على ذلك وعلى أعمار آدم وذريته التي سجلها كتبة التوراة في (سفر التكوين) حسب اليهود عمر الكون وتاريخ الإنسان منذ خلقه، الذي على تلك الحسابات لا يتجاوز ستة ألاف سنة! واعتبروه التاريخ التقويم اليهودي التوراتي المعمول به لدى اليهود والمسمى (التقويم العبري)؟! كان عليهم أن يلفت انتباههم ذلك ليدركوا أن التوراة كتاب غير موثوق بل كاذب وأن ما جاء فيه ما هو إلا خرافات وأساطير! فكيف والعلم الحديث أثبت أن التوراة كتاب تاريخ خرافات وأساطير جميع الأمم السابقة والتي كانت معاصرة عندما كتب اليهود توراتهم؟!. وعلى الرغم من ذلك ما زال السواد الأعظم من المؤرخين والعلماء والكتاب يعتمد عليه في موضوع الأنساب وغيره من الحوادث التاريخية وتاريخ الأقوام والشعوب القديمة على أنه مصدر تاريخي موثوق؟!.
ذلك ما يؤكد صواب رأي مَنْ ضعف أو نفى صحة الحديث المروي في مسند أحمد وسنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم".
وكما بدأ التاريخ بـ (سام)واختيار اليهود شعب الله المختار متجاهلين تاريخ البشرية قبل وبعد الطوفان، حاصرين له في اليهود فقط، يبدأ تاريخ فلسطين أيضاً منذ دخول بني إسرائيل إليها في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، ويتم تجاهل آلاف السنين من تاريخ فلسطين قبل ذلك التاريخ وبعده، وينتهي تاريخ فلسطين اليوم بعودة اليهود الميمونة إلى وطن الآباء والأجداد، مهدهم ومهد الحضارة الأول ـ كما يدعون ـ بمعنى أنهم اختزلوا تاريخ البشرية وفلسطين والعالم أجمع في تاريخ اليهود فقط.
3ـ حديث سام بن نوح أبا العرب
ورد حديث سمرة بن جندب في مسند الإمام أحمد بسندين، الأول الحديث رقم (19719): حدّثنا عبدالله حدَّثني أبي حدثنا عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلّم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم".
والثاني الحديث رقم (19732): حدّثنا عبدالله حدَّثني أبي حدثنا روح من كتابه حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: حدث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش، وقال روح ببغداد من حفظه: "ولد نوح ثلاثة سام وحام يافث"[34].
كما جاء في سنن الترمذي أيضاً بسندين، الأول الحديث رقم (3353): حدثنا بِشْرُ بنُ مُعَاذٍ العَقَدِي حدثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْع عَن سَعِيدِ بن أَبي عَرُوبَةَ عَن قَتَادَةَ عَن الْحَسَنِ عَن سَمُرَةَ، عَن النبيِّ قالَ: "سَامُ أَبُو العَرَبِ وَحَام أَبُو الْحَبَشِ ويَافِثٌ أَبُو الرُّومِ".